يقول العالم اليوناني أبقراط: “طعامكم دواؤكم، ودواؤكم في طعامكم”، هذه الحكمة التي لخصت في بساطتها العلاقة بين خيارات الفرد الغذائية وصحته الجسدية لم يعد من الممكن اتباعها أو تطبيقها بالدقة المطلوبة، ليس فقط بسبب الإضافات الكيمائية والاصطناعية في الأطعمة، وإنما أيضًا بسبب هالة التناقضات التي تحيط بأنظمتنا الغذائية، فغالبًا ما نرى في أسبوع واحد دراسة تخبرنا – على سبيل المثال – بأن الشوكولاتة الداكنة تقلل خطر الإصابة بأمراض القلب وقد تساعدنا حتى على إنقاص الوزن، وفي المقابل نقرأ دراسة أخرى تحذرنا من الاقتراب من هذه الأطعمة التي تحتوي على كميات عالية من الدهون والسكر.
لماذا كل هذا التضارب في نتائج الدراسات العلمية؟
هل يعتبر الحليب فعلًا مهمًا في تقوية عظامنا؟ ما الكمية التي يجب تناولها من اللحوم؟ هل العصائر الطبيعية مفيدة؟ وهل يبالغ العلماء في أهمية وجبة الفطور؟ إيجاد إجابة واحدة ودقيقة عن هذه الأسئلة قد يساعدك على النجاة من أمراض القلب والسكري والسرطان والسمنة، لكن الإرشادات الغذائية المتضاربة جعلت من هذا الأمر أُمنية صعب تحقيقها، وذلك نتيجة لتلاقي المصالح المادية بين بعض الباحثين وأصحاب الشركات المصنعة للغذاء؛ ما جعل نزاهة العلم وأهله تقف على المحك.
في الستينيات، فقد الطب قدسيته وأمانته أمام العالم عندما كشفت وثائق سرية تفصح عن اتفاق مالكي صناعة السكر الذين دفعوا أموالًا للعلماء في جامعة هارفرد عام 1960 لتزوير النتائج
قبل عامين تقريبًا، خرج نحو 150 ألف عالم إلى الشوارع في أكثر من 600 مسيرة في جميع أنحاء العالم، بمشاركة مئات الآلاف من المشاركين، في محاولة لاتخاذ موقف جاد من أجل الأبحاث العلمية التي تشوهت سمعتها بسبب التمويلات المتحيزة والتي لم تحترم قدسية هذا المجال، فواحدة من ركائز العلم الأساسية هي قول الحقيقة، ومع ذلك فإن أكثر من 70% من الباحثين الذين شاركوا في تجربة نشرت في مجلة “ناتشر”، فشلوا في تكرار تجارب العلماء الآخرين، وبسبب عدم تطابق نتائج هذه الدراسات وغيرها، أصبحت الأبحاث الأكاديمية عرضة للتشكيك والتكذيب.
ولذلك؛ يشتكي العلماء في هذه الأيام من أن الثقة في العلم آخذة في الانخفاض، مع العلم أن خيبة الأمل هذه ليست جديدة بين الأوساط الأكاديمية، ففي الستينيات، فقد الطب قدسيته وأمانته أمام العالم عندما كشفت وثائق سرية تفصح عن اتفاق مالكي صناعة السكر الذين دفعوا أموالًا للعلماء في جامعة هارفرد عام 1960 لتزوير النتائج التي تشير إلى وجود علاقة بين أمراض القلب والسكر، وبدلًا من هذا اتهام الدهون المشبعة بالتسبب بهذه الأمراض.
بالإضافة إلى شركات المشروبات الأمريكية مثل بيبسي التي تعمل على تمويل أبحاثها الطبية بنفسها، وتقول: “ليس هناك رابط بين البدانة ومشروب الصودا”، لكن توصلت بحوث أخرى ليست ممولة من جهات تجارية أو خاصة، أن “المشروبات السكرية كالكولا وغيرها تسبب الوفاة والإعاقة”، ودعمًا لهذه الدراسة قال باحثون إن 184 ألف حالة وفاة تحدث كل عام بسبب أمراض السكر والقلب والسرطان، وهي الأمراض التي تتغذى على السكريات، إذ تحتوي عبوة مشروب كوكاكولا على نحو من 7 إلى 9 معالق سكر.
وغيرها من الفضائح العلمية والتجارية التي استغرق كشفها عقودًا طويلة، مثل صناعة التبغ التي كانت تمنع نشر الأبحاث التي تسجل نتائج سلبية عن منتجاتها، وبالمقابل مولت عشرات المشاريع الأخرى التي توضح أن “الغازات المنبعثة من السجاد أكثر ضررًا من الدخان”، وذلك بهدف طمأنة المستهلك والحصول على موافقة الهيئات التنظيمية للاستمرار في ترويج وبيع بضائعها، محاولةً إخفاء الحقيقة الكاملة عن المستهلك، ولكن لحسن الحظ، دفعت هذه الفضائح العلمية المستهلك إلى التساؤل كل مرة عما إذا كانت جميع الدراسات والتوصيات الصحية تمارس هذه الخدعة أيضًا.
ما سبب هذه الأزمة؟
وجد الباحثون أن الأبحاث التي يجري دراستها ونشرها بنتائج تناسب مصالح الجهة التجارية الممولة، قد لا تتفق دومًا مع الاستنتاجات ولكن بطريقة ما يمكن تعديلها لتصبح مناسبة لمنتجات الممول، فعلى سبيل المثال، قد تجد دراسة أن اتباع نظام غذائي معين يؤدي إلى فقدان الوزن وارتفاع احتمالية الإصابة بأمراض القلب، ولكن لجعل المنتج خالٍ من الانطباعات والتأثيرات السلبية، يتم ذكر فقط محور “فقدان الوزن” وهو استنتاج جذاب وملائم لرغبة المستهلك، كما أنه بالطبع غير مضر بسمعة أو مبيعات الجهة الممولة.
ووفقًا، لخبيرة التغذية في جامعة نيويورك، ماريون نيستلي التي بدأت بمتابعة تمويلات الدراسات المختصة بالأغذية، وجدت في عام 2015 وحده، أن 156 بحثًا من ضمن 168 دراسة نشرت نتائج متحيزة لمصلحة الجهة الممولة، وقبل هذا الوقت بسنوات عديدة، وجدت أن 206 دراسات تروج لفوائد وأهمية الحليب والصودا والمشروبات الطبيعية، وكانت بالكامل ممولة من شركات الأغذية.
على هذا الأساس، انتقد الكثير من الخبراء تدخل الأطماع التجارية في حقل الدراسات العلمية، ودعوا إلى تجنب أبحاثهم وفرض حظر شامل على الشركات في مجال البحوث، وعند تطبيق هذه الإستراتيجية، لن تعد العديد من الأدوية والعقاقير موجودة من الأساس، لأن شركات صناعة الأغذية ستركز على تحسين جودة منتجاتها وبالتالي ستتحسن صحة المستهلك في نفس الوقت، وذلك بحسب قول خبير التغذية ديفيد كاتز بجامعة بيل.
ومع هذا تبقى قضية ضعف التمويل المالي للأبحاث العلمية موضوعًا منهكًا للعلماء الذين يتلقون منحًا متواضعة من الحكومة أو المعاهد الوطنية للصحة، لذلك تعتبر الأموال التي تقدمها الجهات الخاصة أكثر إغراءً وإرضاءً لهم، حيث ارتفع التمويل الخاص بنسبة 43% بين عامي 2006 و2014، مقارنة بـ24% من الجهات الحكومية.
تعطي المجلات العلمية أولوية التغطية للدراسات التي تحقق نتائج إيجابية وتتجاهل الدراسات ذات النتائج السلبية في سبيل لفت الأنظار والترويج لعلاجات وأدوية جديدة
لا تنحصر المشكلة في ارتباط العديد من الدراسات والأبحاث بسياسات ومصالح الجهات الممولة فقط، وإنما ترتبط من جهة أخرى بالضغط الذي يقع على الصحفيين بضرورة نشر مواد علمية أو أخبار عاجلة مثيرة للاهتمام، ولذلك يضطر الكثير منهم إلى تغطية الأبحاث الأولية فقط دون التطرق أو انتظار المراجعات النهائية، وذلك يتعارض مع وظيفة العلم في إظهار الحقيقة، ومع آلية عمله المبنية على التراكم البطيء للمعرفة والفوارق والتحليلات الدقيقة.
في هذا الخصوص، وجدت إحدى الدراسات أن أكثر من نصف الدراسات التي تم تداولها في المجلات العلمية الصحفية تم إثبات خطئها لاحقًا من خلال دراسات المتابعة. بالجانب إلى ذلك، تمتد أخطاء الصحافة العلمية إلى أولوية التغطية التي تعطيها للدراسات التي تحقق نتائج إيجابية وتتجاهل الدراسات ذات النتائج السلبية في سبيل لفت الأنظار والترويج لعلاجات وأدوية جديدة بالرغم من أن النتائج النهائية قد تكون مختلفة ولا تمت إلى الواقع بصلة، لكن الشاغل الأكبر للصحفيين في هذا الحقل هو بيع هذه الأخبار والأبحاث بدلًا من إخبار الحقيقة وإيصالها بصورتها الصحيحة.
وجدت دراسة أن 3 آلاف دراسة فقط من بين 5 آلاف ورقة طبية منشورة مصممة بشكل جيد وكافي لاستخدامها في توجيه نصائح الرعاية الصحية، ولذلك يشدد العلم على ضرورة تكرار التجارب لتأكيد النتائج.
يؤكد ذلك ما اكتشفه الباحثون العاملون في إحدى المجلات الأمريكية في عام 2003 حين وجدوا أن 101 دراسة نشرت في المجلات العلمية بين عامي 1979 و1983 ادعت أن تكنولوجيا طبية ما أو علاج جديد قادر على تحقيق نتائج واعدة في شفاء الأمراض، لكن 5 فقط من الـ101 دراسة تم إدخالها إلى السوق خلال عقد من الزمان، بمعنى آخر أن اللوم كله لا يقع على عاتق المجتمع العلمي فقط، وإنما يطال أيضًا شهية وسائل الإعلام التي لا تشبع من نشر الدراسات الجديدة والمقالات لمنافسة المجلات أو الصحف الأخرى.
ومن أجل تجنب جميع الاستنتاجات الخاطئة والملتوية، لا بد من البحث عن المراجعات المنهجية التي تعد أساس البحث العلمي، ولكن حتى المراجعات المنهجية لها حدودها، خاصةً إذا كانت تستند في عملها إلى أبحاث أو منتجات سيئة، فلقد وجدت دراسة أن 3 آلاف دراسة فقط من بين 5 آلاف ورقة طبية منشورة مصممة بشكل جيد وكاف لاستخدامها في توجيه نصائح الرعاية الصحية، ولذلك يشدد العلم على ضرورة تكرار التجارب لتأكيد النتائج.