تركّز معظم الشركات والمشاريع، كبيرة كانت أو صغيرة، على تحقيق الأرباح وحسابات الأرقام أكثر من تركيزها واهتمامها بالأمور النفسية والمعنوية للموظّفين والعاملين فيها. وكثيرًا ما نسمع جملًا من قبيل تحقيق النموّ وزيادة الإنتاجية والقدرات دونَ التطرّق إلى العمق النفسيّ للأفراد الفاعلين في هذه الإنتاجية، وكأنّ التعامل معهم أشبه بالآلات أو الروبوتات التي تقوم بعملها لهدفٍ واحدٍ فقط: زيادة الإنتاجية وتحقيق أهداف الشركة.
ولا شكّ أنّ أيًا منّا قد سمع مرّة في حياته المهنية واحدة من هذه الجمل أو حدّث بها نفسه: أعاني من الروتين اليوميّ، أشعر بأنّني آلة تقوم عملها بشكلٍ روبوتيّ، تتكّرر المشكلات نفسها في المؤسسة مع وعودٍ بحلّها ولكن دون جدوى، مديري يقف ضدّ أيّ تغيير، بيئة عمل قاتلة للتفكير والإبداع والتجديد والابتكار، لا أشعر بالرضا عن عملي أو نفسي في العمل، لا أملك الدافع للنهوض صباحًا والذهاب للعمل، ثمّة العديد من الموظّفين الذين يشغلون المناصب غير المناسبة لهم.
تكمن كلمة السرّ في علم النفس الوظيفي في تحقيق القابلية إلى الوصول لبيئة عمل تضمن السعادة والرضا للموظّفين جنبًا إلى جنب مع تحقيق الحدّ الأقصى من الإنتاجية لصاحب العمل.
وغيرها الكثير من التعليقات والتعبيرات التي تنمّ عن مشاكل إدارية متأصّلة في مكان العمل، تترجم لنا المعاناة التي يمرّ بها معظمنا في الوقت الذي أصبح فيها الإنسان مجرّد آلة إنتاج توظّف أيّ شيءٍ فيك، سواء مهاراتك اليدوية أو قدراتك العقليّة أو جسدك أو وقتك أو صحتك أو طاقتك في سبيل العمل والدوران في عجلة العالم الرأسماليّ.
ونظرًا لأنّ المدير أو المدراء الإداريّين لا يستطيعون حلّ تلك المشاكل أو التخلّص منها لوحده، ظهرت الحاجة لإقحام علم النفس في مجالات الأعمال والإدارة وتطبيق أبحاثه العمليّة فيها. أمّا كلمة السرّ في هذا المجال فتكمن في تحقيق القابلية إلى الوصول لبيئة عمل تضمن السعادة والرضا للموظّفين جنبًا إلى جنب مع تحقيق الحدّ الأقصى من الإنتاجية لصاحب العمل.
لمحة تاريخية
بدأ الأمر تحديدًا في بدايات القرن الماضي، حين ارتأى عددٌ من علماء النفس الأكثر شهرةً، في كلٍّ من أوروبا وأمريكا، ضرورةَ فصل علم النفس عن الفلسفة وآرائها والتأكيد على كونه “علمًا” يمكن قياسه من خلال المختبرات والتجارب والأرقام. كان مجال العمل والصناعة حقلًا ممتازًا لذلك. فخرج لنا “علم النفس التنظيمي/الصناعي” كأحد فروع علم النفس الذي يسعى لدراسة وفهم سلوك العمل، الإداري والبشريّ، بشكلٍ أفضل لتحسينه وتنميته وتطويره.
في عام 1917، أحدثَ الفرع الجديد ضجّةً باستحداثه لاختبارٍ جديدٍ للذكاء تمّ تصميمه لقياس قدرات أكثر من مليون من المجنّدين العسكريين الأمريكيين خلال الحرب العالمية الأولى. وهو الاختبار الذي يُعرف باسم “الجيش-ألفا” وكان مخصّصًا لقياس القدرات العقلية والعاطفية واللفظية للجنود، وتحديد قدرتهم على اتّباع التعليمات وتصنيف رتب وظائفهم ومدى مناسبتهم للقيادة من عدمها.
صمّم علم النفس اختباراتٍ لتوظيف الجنود في الجيش الأمريكي وقياس قدراتهم العقلية والعاطفية لتحديد ملاءمتهم للوظيفة
بعد الحرب العالمية الأولى، وجدت أمريكا نفسها بحاجةٍ شديدة للتركيز على قاعدتها الصناعية والعمل على تطويرها ونموّها، ما أدّى إلى تقوية جذور علم النفس التنظيمي/الصناعي الذي بدأ بمحاكاة الاختبارات الناجحة التي صُمّمت للجيش وتطبيقها على قطاع العمل والصناعات لإعداد الموظّفين والعاملين بشكلٍ أفضل.
فعلى سبيل المثال، أحدث جورج مايو في ثلاثينات القرن الماضي نقلةً نوعيّة في الإدارة حين بدأ بانتقاد إهمال الشركات للنواحي النفسية والاجتماعية للموظّفين. فدعا إلى ضرورة الاهتمام بالإنسان كإنسان له عوامله النفسية التي تؤثّر على العمل وتتأثّر به. وفي حين أنّ مايو بدأ تجاربه من خلال دراسة أثر العوامل المادّية، كتأثير الإضاءة في أماكن العمل، إلا أنه سرعان ما اكتشف أنّ إنتاجية العاملين لا تتوقّف على العوامل المالية والمادية وحسب، وإنما بالعوامل الإنسانية والاجتماعية داخل محيط العمل، مثل الرضا الوظيفي وشعور العاملين بالأهمية والاحترام والتقدير، والعلاقات الاجتماعية الصحّية داخل تلك البيئة.
الحاضر والمستقبل
يبدو أنّ العالم يتّجه بشكلٍ واضح وملحوظ للتركيز على ضرورة الاستعانة بعلم النفس في الشركات والأعمال. فمن المتوقّع أنّ تكون مهن علم النفس التنظيمي/الصناعي من أسرع المهن نموًا على مدار العقد القادم، نظرًا لإدراك الشركات لضرورة بناء إدارتها على أسسٍ علمية تهتمّ بالعاملين وتعمل على فهمهم لتحسين مستواها.
تستخدم الشركات مبادئ علم النفس وأساليب البحث فيه لحلّ المشكلات في مكان العمل وتحسين طبيعته
أمّا إنْ سألت نفسك ما هو الدور الذي يمكن لدارسي علم النفس التنظيمي تقديمه لشركةٍ ما، فيمكننا القول أنّ علم النفس يدرس السلوك البشريّ بما في ذلك عمليات التفكير والدوافع وتداخلها مع العواطف والحالات النفسية. أمّا علم النفس التنظيمي فيركّز بشكلٍ أضيق على السلوك البشري في مكان العمل.
يكمن أحد أهمّ أدواره في استخدام مبادئ علم النفس وأساليب البحث فيه لحلّ المشكلات، الإدارية والإنسانية، في مكان العمل وتحسين طبيعته. فهو يدرس الإنتاجية وأساليب الإدارة ويهتمّ بالجانب الإنساني والمعنوي والشخصي للموظّفين، ويتعاون مع الإدارة للمساعدة في تخطيط السياسات وتنفيذ الأهداف ووضع الخطط المستقبلية.
هناك ستة مجالات رئيسية يمكننا تحديدها تقوم عليها أدوار علم النفس التنظيمي والمختّصين به. يبدأ عملهم من لحظة التقديم على الوظيفة، فهم يعدّون اختبارات ومقابلات العمل، ويحدّدون فيما إذا كان المتقدّمون للوظيفة مؤهّلين لشغل منصبٍ معيّن أم لا. لاحقًا يبرز دورهم في مجال التدريب والتطوير، حيث غالبًا ما يسعون إلى تحديد المهارات الخاصة التي تحتاج للتدريب والتطوير عند الموظّفين.
يظهر دور خبير النفس التنظيمي في الشركة أو المؤسسة من خلال عمله على إيجاد التوازن بين معضلة الراتب ومحفّزات العمل الأخرى وبين الرضا النفسي والوظيفي للعاملين
كما يركّزون بدورهم على بيئة العمل وإعدادها لتكون مصمّمة لزيادة الإنتاجية والحفاظ على صحة وسلامة الموظّفين والحدّ من إيّة حوادث أو إصابات. أمّا على الجانب المعنوي، فهم يسعون إلى تحسين حياة العمل من خلال خلق شعور بالرضا الوظيفي لزيادة إنتاجية الموظفين، وإيجاد طرق لجعل الوظيفة أكثر جدوى في نظر القائمين بها. وفي جانبيْ الإدارة والتنظيم، فيعمل المختصّون أساسًا على وضع تقييمات محدّدة تقيس فيما إذا كان الموظّف يقوم بعمله بشكلٍ جيّد أم لا، وكيف يمكن استنباط الأخطاء وتصحيحها وحل المشكلات بهدف السعي لرفع الإنتاجية.
بشكلٍ عام، يرى البعض أنّ الشركات الصغيرة، التي يتراوح عدد موظّفيتها من خمسة إلى عشرة، لا تحتاج إلى الاستثمار في توظيف خبير نفسيّ تنظيمي. أمّا بالنسبة للشركات متوسطة أو كبيرة الحجم، فسيكون ذلك الخبير ذا إضافة قيّمة وكبيرة ولازمة في بعض الأحيان. لكنّ هذا لا يعني أنّ المدير أو المدراء غير مطالبين بالتعرّف على أفكار وأساليب هذا الجانب من علم النفس.
الراتب والرضا النفسيّ
يساعدنا المختص بعلم النفس في الشركة على الإجابة عن واحد من الأسئلة المهمّة التي نسأل أنفسنا إياها بشكلٍ دائم: لماذا يتحمس بعض الناس للذهاب إلى العمل بينما يكره البعض الآخر ذلك؟ أو لماذا يبدي آخرون رضاهم عن عملهم في حين لا يتوقف البعض عن الشكوى والتململ؟ فمن المفهوم والواضح جدًا لنا أننا جميعًا بحاجة إلى كسب لقمة العيش، لكن يبدو البعض مستمتعًا أكثر من غيره، وبكلّ تأكيد لا يخضع الأمر للعوامل الفردية فقط، فالمؤسسة أو الشركة لها دورٌ كبير أيضًا.
فعلى الرغم من أنّ الراتب يُعتبر واحدًا من محفّزات العمل، إلا أنّ أننا نعلم جميعًا أنه ليس كلّ شيء، وأنّ الرضا الوظيفي لا يمكن تحقيقه دون إيمان الموظّف بالقيم المؤسسية والفردية مثل احترام الذات والآخرين والمشاركة الجماعية والتعاون والتحصيل الذاتي والإبداع والتقدير والقدرة على التعبير والاستقلالية بالرأي، وغيرها الكثير. هنا يظهر دور خبير النفس التنظيمي في الشركة أو المؤسسة من خلال عمله على إيجاد التوازن بين معضلة الراتب ومحفّزات العمل الأخرى وبين الرضا النفسي والوظيفي للعاملين.
ومن هنا، على خبراء علم النفس التنظيميين العمل على إدارة الموظّفين بنجاح، من خلال إيجاد طرق لتحفيزهم وجعلهم أكثر إنتاجية، لا من خلال التركيز على الأداء وحسب، بل من خلال جعلهم أكثر رضًا عن وظائفهم وبيئة عملهم، الأمر الذي يحتاج إلى دراسة علمية لمكان العمل وجوانب المؤسسة التي تؤثر بشكل مباشر على الموظفين.