وبعد انطلاق عملية “ردع العدوان” والانهيار المتسارع الذي لحق بجبهات النظام في حلب وإدلب تقدمت قوات “إدارة العمليات العسكرية” التابعة للمعارضة السورية نحو محافظة حماة لترسيخ مكاسب عمليتها العسكرية وتعزيزها.
ومع دكّ حصون قوات النظام من جهة ريف حماة الشمالي، استطاعت قوات المعارضة الدخول إلى مشارف مدينة حماة قبل 5 أيام، إلا أن المفاجأة كانت في الانسحاب منها رغم ما حققته من تقدم واسع في العديد من القرى والبلدات والمواقع العسكرية الاستراتيجية كقاعدة “اللواء 87”.
وقد أثار الانسحاب من بعض المواقع في حماة دون تعليق من “إدارة العمليات العسكرية” التي تدير المعركة، قلقًا لدى الحاضنة الشعبية وتساؤلات عن سبب استعصاء تحرير المدينة التي يعتقد كثيرون أنها ستغير الموازين بالكامل لصالح المعارضة.
لكن الانسحاب التكتيكي لم يطل كثيرًا، فقد أعلنت المعارضة، مساء أمس الأربعاء، عن بدء التوغل في مدينة حماة لأول مرة في تاريخ الثورة السورية، بعد السيطرة على مدرسة المجنزرات إحدى معاقل الفرقة “25 قوات خاصة” إضافة إلى رحبة خطاب ومستودعاتها غرب حماة، وجبل كفراع الاستراتيجي الذي يطل على القسم الشرقي من مدينة حماة والمحاذي أيضًا لجبل زين العابدين، الأمر الذي مهد لدخول الفصائل العسكرية قرية جبرين وحي الصواعق البوابة الشرقية لمدينة حماة نحو أحياء القصور وغرناطة والفيحاء.
سبب استعصاء اقتحام حماة
تمركزت قوات النظام بكثافة في جبل زين العابدين الذي يعد درع مدينة حماة، فهو الذي يحوي مقام الإمام زين العابدين بن علي ويعد منطقة حساسة بالنسبة لميليشيات إيران، وقد حاولت كثيرًا قوى المعارضة قبل انسحابها من بعض المواقع السيطرة عليه عبر استهدافه بمسيرات “شاهين”، باعتبار أن السيطرة عليه تعني سقوط حماة عسكريًا، لكن تدعيم النظام للجبل إضافة لبلدة قمحانة شرقي الجبل التي تتركز فيها حشود كبيرة، صعّب على المعارضة دخول المدينة.
نتيجة لذلك، بعملية التفافية فاجأت قوات المعارضة النظام بالدخول من المحور الشرقي الذي لم يتوقعه، بعد أن صب جل اهتمامه وتعزيزاته في جبل زين العابدين وقمحانة، فاتجهت نحو “اللواء 66” وطريق (إثريا-خناصر، والسلمية-حماة، والسلمية-إثريا)، لتسيطر على “السعن” بوابة السلمية، وتقطع طريق إمداد النظام من الرقة.
ويعد المحور الشرقي التي يتم العمل عليه (السعن-سلمية) أهم محور في المعركة لما يشكله من عقدة توزع على مناطق: حمص وحماة والشمال ودمشق ودير الزور والتنف ودرعا والجنوب السوري.
في حديثه لـ”نون بوست”، يشير الباحث في مركز “جسور للدراسات” وائل علوان، إلى أن سبب الاستعصاء يعود إلى تكتل النظام في حماة المدينة بعد أن استوعب الصدمة بخسارة حلب وإدلب وريف حماة الشمالي، حيث أعاد ترتيب قواته نسبيًا معتمدًا على جبل زين العابدين الذي يعتبر قلعة من قلاع النفوذ الإيراني في المنطقة الوسطى، إلى جانب استقدامه تعزيزات كبيرة إلى حماة لجعلها خط الدفاع الأول.
من جهته، يرى الباحث في مركز “الحوار للدراسات”، أحمد القربي أن الاستعصاء في حماة له أسباب مرتبطة بالفصائل نفسها ومرتبطة بالنظام والسياق الجغرافي، فأما من حيث الفصائل فهي تخوض عملية كبيرة لم تهدأ فيها منذ أيام، والاندفاع في الأيام الأولى للعملية العسكرية لا يمكن أن يستمر بنفس الزخم، فضلًا عن تجمع قوات النظام التي انسحبت من حلب وإدلب في حماة.
فيما تكمن الأسباب المرتبطة بالنظام والسياق الجغرافي، حسب القربي، إذ إن النظام يدرك أن محافظة حماة هي بوابة حمص باتجاه العاصمة، والأسد مهووس بفكرة سوريا المفيدة، فهو يعتقد أن دخول الفصائل تجاه حماة ثم حمص تهديدًا مباشرًا لسوريا المفيدة التي تشمل حماة وحمص مع الساحل ودمشق، كما أن جبل زين العابدين يعتبر قاعدة محصنة فيه أنفاق متشعبة ومراكز تحت الأرض، وهو ما سبّب استنزافًا كبيرًا للفصائل على الأرض خلال الأيام الفائتة، وأخّر دخول حماة.
خصوصية حماة
تمثل مدينة حماة واسطة عقد الجغرافيا السورية بين شمالي وجنوبي سوريا، وغربها وشرقها، وقد حاولت فصائل المعارضة في ريف حماة الشمالي عبر سنوات الثورة اقتحام المدينة أو أجزاء منها، رغم اقترابها من ضواحيها الشمالية عدة مرات، لكنها فشلت واكتفت بالسيطرة على مواقع معينة، مثل مدينة مورك التي تشكل أهمية كبيرة للمعارضة كونها المعبر الرئيس بين حماة وحلب ومن ثم إدلب، وبالتالي ظلت حماة ساحة صراع هادئة، إذ لم تتطور الأمور فيها إلى مستوى المعارك الضارية، وبنفس الوقت لم تخرج من دائرة الصراع.
وتعد حماة أكثر المحافظات السورية التي ترتبط بحدود مع المحافظات الأخرى، فهي تلاصق حلب من الشمال، وإدلب من الشمال الغربي، واللاذقية من الغرب، وطرطوس من الجنوب الغربي، وحمص من الجنوب والشرق، والرقة من الشمال الشرقي.
السيطرة على حماة تعني تسهيل الوصول لمدينة حمص، وهو ما سيفتح الباب أمام مدن الساحل والعاصمة دمشق، كما يعني أن مساحة جغرافية كبيرة ستغدو في قبضة المعارضة، إذ تقدر مساحة المدينة بـ9 آلاف كيلومتر مربع، فضلًا عن أهميتها الاستراتيجية التي اكتسبتها بعد أحداث 1982، فيما باتت تكمن معضلة النظام في المسافة الكبيرة بين حماة وحلب التي تقدر بـ150 كيلومترًا، ما ستصعّب مهمة قوات النظام وتضع الكثير من العقبات اللوجستية أمام أي محاولة لاستعادة حلب المحررة حديثًا.
ولا تقل بادية حماة أهمية عن المدينة، فالسيطرة على البادية تعني تقطيع أوصال النظام وقطع الطريق أمام أي إمداد للميليشيات الإيرانية، لذا يلاحظ تقدم قوات المعارضة نحو البادية أيضًا بعد السيطرة على بلدة الرهجان التي تبعد 30 كيلومترًا عن منطقة إثريا الاستراتيجية، عقدة الوصل بين الجنوب السوري وشماله وشرقه.
يرى الباحث علوان أن مع سيطرة المعارضة على حماة ستكتسب قوة كبيرة وموقفًا سياسيًا أكبر على طاولة التفاوض، لكن لا يعني ذلك سقوط النظام، رغم سقوط وزنه السياسي بسقوط حلب، فالنظام لا يحدد سقوطه التوسع الجغرافي، متوقعًا أن يتوقف الزحف عند أرياف حمص.
ويضيف علوان، أن النظام السوري الآن يعتبر معركة هذه المدينة مهمة جدًا، لأنها تمهّد لحمص وبالتالي يمكن أن تفتح شهية مناطق في درعا وريف دمشق للتحرك أيضًا.
أهمية حماة سياسيًا وديمغرافيًا
تشكل بعض مناطق محافظتي حماة وحمص معاقل للطائفة العلوية الموالية للنظام، لا سيما ضباط الاستخبارات والجيش والميليشيات الرديفة، وهو ما يقلق النظام، إذ إن السيطرة على المحافظتين تعني قطع الطريق بشكل كامل باتجاه دمشق حيث ثقل النظام السياسي من جهة، ومناطق الساحل (اللاذقية وطرطوس) معاقل النظام الأخيرة من جهة أخرى.
ومع بداية الثورة السورية في عام 2011، خرج أهالي حماة بمظاهرات مليونية في ساحة الاحتجاج الأكبر بتاريخ سوريا، “ساحة العاصي”، ما أكد مخاوف النظام من المدينة التي تملك تاريخًا طويلًا في مقارعة النظام السوري، وكانت لها تجربة سابقة مع قمعه المفرط في ثمانينيات القرن الماضي، فقام بإقحام الجيش والدبابات على أوسع نطاق إلى المدينة وسيطر عليها بالكامل.
في السياق ذاته، يشير الباحث القربي لـ”نون بوست”، إلى أن تحرير حماة يحمل رمزية كبيرة للطرفين، فحماة المدينة الوحيدة على مستوى سوريا التي أخرجت مليونية شعبية ضد النظام الذي يعلم أن فيها خزانًا بشريًا هائلًا ناقمًا ومحملًا بعبء ذكريات الثمانينيات، وتحريرها جزء من رد الدين وسيعطي قوة للمعارضة تضاف إلى حلب وإدلب.
ويبدو أن سيطرة المعارضة على المدينة القريبة للغاية من قرى العلويين والحاضنة الاجتماعية الداعمة للنظام السوري، تثير مخاوف العلويين، تتمثل حسب حديث الباحث عبد الرحمن الحاج بنزعة الانتقام بالنظر إلى الذاكرة الدموية للمجزرة في المدينة والمجازر الطائفية التي تم ارتكابها خلال الثورة، وخاصة المجازر بالسلاح الأبيض ذات الطابع الطائفي في ريف حماة.
وباتت المعارضة السورية تعي تمامًا حساسية التعامل مع ملف الأقليات أمام المجتمع الدولي، لا سيما العلويين، فبالتزامن مع اقتراب قواتها من معاقلهم في سهل الغاب بريف حماة المتاخم لجبالهم ومن خلفه اللاذقية معقل رأس السلطة بشار الأسد، تسارع المعارضة لتطمين الطوائف الأخرى بخطابها الذي وجهته للمسيحيين عندما دخلت حلب، ومؤخرًا بتوجيهها خطابًا تطمئن فيه الطائفة العلوية في سوريا، وتدعوها إلى التخلّي عن النظام السوري وأن تكون جزءًا من سوريا المستقبل التي لا تعترف بالطائفية.