من المتوقّع أن تستضيف القمة المرتقبة لمبادرة الحزام والطريق الصينية المهيبة، التي من المقرّر أن تنطلق فعالياتها يوم الخميس في العاصمة الصينية بكين، إيطاليا كضيفٍ خاص. ومن جهتها، مارست واشنطن ضغوطًا على روما، التي تعتبر عضوًا فخريًا في مجموعة الدول الصناعية السبع، لتنأى بنفسها عن برنامج بكين العالمي لإنشاء البنية التحتية، محذرة من أن مشاركة إيطاليا “تضفي الشرعية على نهج الصين المفترس في الاستثمار الذي لن يعود بالنفع على الشعب الإيطالي”. لكن هذه الدعوة لم تلق آذانًا صاغية، حيث لم يقتصر الأمر على انضمام روما إلى مبادرة الحزام والطريق في شهر آذار/ مارس فحسب، وإنما سيحضر هذا الاجتماع شخصيات مرموقة على غرار رئيس الوزراء جوزيبي كونتي.
قد يبدو تنكّر إيطاليا لهذا الطلب مؤشرًا إضافيًا على أن قوة الولايات المتحدة في طريقها إلى التلاشي، في حين أن نجم الصين بات ساطعًا في كامل أرجاء العالم. وينطوي قرار إيطاليا على إشارة واضحة إلى أن طريقة التفكير السائدة أضحت بالية في خضم النظام العالمي الحديث. وفي حين أن واشنطن مازالت تعتمد غالبًا في سياستها الخارجية على تصنيف الدول وفقًا للعلاقات التي تربطها بها، فإن العديد من دول العالم لم تعد تعتمد على هذا التقسيم. وفي إطار سعيها الدؤوب لاحتواء الصين، تبيّن للولايات المتحدة أن حلفاءها لا يمكن الوثوق بهم دائمًا.
في الوقت الذي تتنافس فيه كل من الولايات المتحدة والصين في العديد من القطاعات الهامة، ابتداء من التجارة وصولا إلى التكنولوجيا، تنامت المخاوف العالمية بشأن احتمال اندلاع الحرب الباردة مجددا
أخبرني باراج خانا، مؤسس شركة الاستشارات الاستراتيجية “فيوتشر ماب” ومؤلف كتاب “آسيا هي المستقبل”، بأنه “لا أحد يريد الانحياز إلى أحد الطرفين”، مضيفًا أننا “نعيش في نظام متعدد الأقطاب. ولا يوجد دولة ذكية ترغب في التحيّز إلى قوة عالمية واحدة، ذلك أنّ الدول تعمل على الاستفادة من القوى الموجودة”.
في الوقت الذي تتنافس فيه كل من الولايات المتحدة والصين في العديد من القطاعات الهامة، ابتداءً من التجارة وصولًا إلى التكنولوجيا، تنامت المخاوف العالمية بشأن احتمال اندلاع الحرب الباردة مجددا حيث تتصارع كتلتان تقفان على الطرفي النقيض للسيطرة على العالم. لكن حسب ما أوضحه خانا، فإن نموذج الحرب الباردة “لا يمت بصلة” للواقع اليوم.
عندما انخرطت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في صراع عالمي هدّدتا فيه باستخدام الأسلحة النووية، كان حينها تقسيم الدول القومية في العالم أسهل بكثير. كانت هذه الكتل تمثّل عالمين بديلين قائمين على أنظمة سياسية واقتصادية متباينة، وكان الانحياز إلى أحد المعسكرين واضحًا آنذاك. (بطبيعة الحال، لا ترغب كل الدول في الانحياز إلى أحد الطرفين. لهذا السبب، أنشأ قادة بعض الدول النامية “حركة عدم الانحياز”).
إن كل هذه التعقيدات الجيوسياسية مرتبطة بمنتدى الحزام والطريق الذي سيُعقد خلال هذا الأسبوع
لم يعد الوضع على حاله بعد الآن. ففي حين تملك واشنطن وبكين أيديولوجيات سياسية مختلفة تشبه إلى حد ما الانقسام الذي سبق الحرب الباردة بين العالمين “الحر” و”غير الحر”، فإن اقتصاد هاتين الدولتين متداخل بشكل وثيق مع بعضها ومع بقية دول العالم. وفي الواقع، تملك الدول الأمنية الحليفة للولايات المتحدة، على غرار اليابان وكوريا الجنوبية والصين، روابط تجارية واستثمارية قوية مع الصين، والتي تعتبر عاملًا في غاية الأهمية للمستقبل الاقتصادي لهذه الدول. ولكن هذه الدول ليست مستعدة للتخلي عن تحالفها مع واشنطن، بيد أنها عاجزة عن عزل بكين دون مبرّر واضح. ولو أن العلاقات متوترة بين الولايات المتحدة وأوروبا أو داخل الاتحاد الأوروبي نفسه، لكانت الصورة العالمية أكثر ضبابية.
إن كل هذه التعقيدات الجيوسياسية مرتبطة بمنتدى الحزام والطريق الذي سيُعقد خلال هذا الأسبوع. فهذه المبادرة، التي تُعرف أيضًا باسم “حزام واحد طريق واحد”، هي من بنات أفكار الرئيس الصيني شي جين بينغ، وتهدف إلى بناء السكك الحديدية ومرافق الموانئ وأنظمة الطاقة، وغيرها من الهياكل الأساسية في جميع أنحاء العالم، كما أنه روّج لهذه المبادرة كنموذج للتنمية السلمية. وفي إحدى المناسبات عند مناقشة المبادرة، قال الرئيس الصيني إنه “ينبغي علينا تعزيز نوع جديد من العلاقات الدولية التي تتسم بالتعاون المربح لكلا الجانبين”.
لقد رسمت واشنطن صورة مختلفة عن مخطط الخدمة الذاتية يهدف إلى توسيع النفوذ الاستراتيجي والاقتصادي الصيني. ومؤخرًا، اعتبر وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أن مبادرة الحزام والطريق كانت “عرضًا غير اقتصادي”، وقال إن واشنطن “تعمل جاهدة على التأكد من أن كل شخص في العالم يدرك هذا التهديد”.
لا تستطيع البلدان التي تملك قدرة هائلة على الإقناع السياسي المتنوع النأي بنفسها عن هذا المشروع، إذ أن بعض الحكومات تحتاج إلى أموال الصين لمساعدتها على تمويل الطرق والسكك الحديدية والبنية التحتية
نال برنامج الحزام والطريق نصيبًا كافيًا من العراقيل، حيث يفتقر هذا البرنامج إلى انعدام الشفافية إزاء كيفية اختيار المشاريع وتمويلها وبنائها. بالإضافة إلى ذلك، فضلت الدول الآسيوية الكبرى عدم الانخراط فيه أو قللت من مستوى مشاركتها في هذا المشروع. ومن جهتها، رفضت الهند، التي تشعر بانعدام الثقة تجاه الصين أكثر من شعورها باليأس إزاء البنية التحتية، الإنجازات التي حققتها بكين. أما في باكستان، فإن المشاريع المتعلّقة بهذا البرنامج متّهمة بإغراق البلاد في الديون، مما أجبر الحكومة في إسلام أباد على تقليص برنامج البناء.
عمومًا، لا تستطيع البلدان التي تملك قدرة هائلة على الإقناع السياسي المتنوع النأي بنفسها عن هذا المشروع، إذ أن بعض الحكومات تحتاج إلى أموال الصين لمساعدتها على تمويل الطرق والسكك الحديدية والبنية التحتية، في حين أن بلدانًا أخرى ترغب في أن يكون لها نصيب من أعمال البناء. ومن المتوقع أن ينضم المستشار النمساوي سيباستيان كورتس، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس السويسري أولي ماورر، إلى جانب رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي إلى الاجتماع المقرر انعقاده خلال هذا الأسبوع.
فضلًا عن ذلك، إن رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد، الذي أصرّ في البداية على تأجيل مشروع تطوير السكك الحديدية ومشاريع أخرى تدعمها الصين بذريعة التكلفة المبالغ فيها، قد انضم بدوره إلى ركب الدول المشاركة في المشروع إثر التوصل إلى صفقة مرضية حول السكة الحديدية المثيرة للجدل. وإجمالًا، تقول الحكومة الصينية إن 125 دولة قد وقّعت على البرنامج.
وفقا لتقريرها السنوي الأخير، ارتفعت عائدات شركة “هواوي” سنة 2018 بنسبة 20 بالمئة تقريبا مقارنة بالسنة الماضية لتصل إلى 105 مليار دولار
لم تحقق الولايات المتحدة نجاحًا كبيرًا فيما يتعلّق بنقاط الاختلاف الأخرى مع الصين. وتقود واشنطن حملة ضارية لإقناع حلفائها بمنع استخدام معدات الاتصالات عن بعد التي تنتجها شركة “هواوي” الصينية، مدعية أن هذه الأجهزة تشكل تهديدًا أمنيًا. ويتقاسم بعض الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة هذه المخاوف، حيث منعت كل من أستراليا ونيوزيلندا شركة “هواوي” من بناء شبكات البيانات المحمولة من الجيل القادم، فضلًا عن أن المملكة المتحدة تسير على منوالهما. لكن هذا الأمر لم يتسبب في خلق وضع حرج لهذه الشركة.
وفق تقريرها السنوي الأخير، ارتفعت عائدات شركة “هواوي” سنة 2018 بنسبة 20 بالمئة تقريبًا مقارنة بالسنة الماضية لتصل إلى 105 مليار دولار. واحتلت هذه الشركة المرتبة الثالثة في سوق الهواتف الذكية العالمي سنة 2018 مباشرة بعد شركة أبل، وفقًا لشركة الأبحاث “استراتيجي أناليتيكس”. فضلًا عن ذلك، لم تبد العديد من الحكومات، حتى تلك التي تربطها علاقات وثيقة بواشنطن، أي رد فعل جدّي إزاء التحذيرات الأمريكية. فعلى سبيل المثال، لا تزال ألمانيا تفتح مجالها أمام “هواوي” على الرغم من تهديد إدارة ترامب بالحد من تبادل المعلومات الاستخباراتية مع الحلفاء الأوروبيين الذين يسمحون باستخدام معدات هذه الشركة.
تجدر الإشارة إلى أن إدارة الرئيس السابق باراك أوباما لم تتمكن هي الأخرى من احتواء الصين. وقد حاولت إثناء حلفائها عن المشاركة في البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية “إيه.آي.آي. بي”، وهي مؤسسة إقراض متعددة الأطراف ترعاها بكين، بحجّة أنها قد لا تلتزم بالمعايير المناسبة مثل البنك الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، ومع ذلك أصبحت كل من أستراليا وكندا وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة وغيرها من شركاء الولايات المتحدة الموثوق بهم أعضاء في البنك الآسيوي.
على الرغم من أن ألمانيا قد أرسلت وفدا لحضور منتدى الحزام والطريق بقيادة الوزير الاتحادي للشؤون الاقتصادية والطاقة بيتر ألتماير، في تحد واضح لترامب حول شركة “هواوي”، إلا أن هذا الأمر لا يعني خيانتها لحليفتها
إن تعرّض الولايات المتحدة لمثل هذه العقبات لا يعني بالضرورة أنها الطرف الخاسر في الحرب ضدّ الصين. ولا تزال العديد من البلدان تتعامل بحذر مع طموحات الصين المتنامية، وزيادة قدراتها العسكرية، والممارسات التجارية غير العادلة، والإجراءات المشدّدة المتعلقة بأمنها الداخلي. وعلى الرغم من أن ألمانيا قد أرسلت وفدًا لحضور منتدى الحزام والطريق بقيادة الوزير الاتحادي للشؤون الاقتصادية والطاقة بيتر ألتماير، في تحدٍّ واضح لترامب حول شركة “هواوي”، إلا أن هذا الأمر لا يعني خيانتها لحليفتها؛ إذ وضعت الحكومة الألمانية عقبات جديدة أمام الاستثمار الأجنبي لصد عمليات حيازة الصين غير المرغوب فيها للشركات والتكنولوجيا الألمانية.
لقد ساهمت كل هذه العوامل في خلق عالم فوضوي. وحسب خانا، فإن العلاقات الاقتصادية التي تربط بين الصين وأوروبا وبقية دول آسيا قد وقع تشكيلها بالفعل، وليس من المرجح أن يطرأ عليها أي تغيير. ومن المرجح أن تأتي محاولة واشنطن لاحتواء الصين بنتائج عكسية، حيث قال خانا: “لا يمكنك عزل الصين، لأنه سينتهي الأمر بعزل الولايات المتحدة لنفسها”.
في حقيقة الأمر، لن يحضر أي مسؤول من واشنطن المنتدى الذي نظمه الرئيس الصيني حول مبادرة الحزام والطريق. ومع ذلك، من المرجح أن تحقق الولايات المتحدة نجاحًا أكبر في التأثير على تصرفات الصين على الساحة العالمية من خلال نصب مكائد للصين عوضا عن إثارة المشاكل علنا.
المصدر: الأتلانتيك