أنتجت معسكرات الهولوكوست وأخواتها من الإبادات ظاهرة اتبع طرفها الكثير من علماء النفس والاجتماع، باختلاف تسمية تلك الظاهرة، ولكننا نستطيع إيجاز مضمونها بوصف الرجل الذي يرتدي زيا وظيفيا (ميريا) فتختلف إنسانيتِه مع ذاته عندما يخلع زيه ويرتدي زيا آخر (ملكيا).
أخذت الهولوكوست بصيص الضوء الأول للاهتمام والدراسة لاعتبارها الجريمة الإنسانية الأولى في القرن العشرين وسط المجتمع الحضاري الأوروبي الحديث، ألمانيا في قلبه، أي أول مجتمعٍ منظم ارتكب مذبحة بحق فرقة دينية عرقية بعينها (اليهود)، وجدير بالإشارة في نقاشنا أنه لم يكن المرتكبُون لتلك الجريمة جماعة من الغوغاء، بل أناس ارتدوا زيا رسميا للدولة ارتكبوا به أبشع أنواع القتل الجماعي والتعذيب بلا أدنى رحمة، ولكنهم عندما ينتهون من دورهم الوظيفي ويرتدون بيجاماتهم البيتية أو حتى بذلهم الملكية، يصبحون أشخاص آخرين، يقبلون زوجاتهم ويلعبون مع أطفالهم ويضحون ويبكون مع ذويهم.
فما بال هذا التحول الانفصامي في تلك الشخصية الذي تَقتل نهارا كالوحش، وتُحب وتضحك ليلا كالملاك.
كانت معسكرات النازية هي المثال الذي حظيَّ باهتمام أساتذة الاجتماع والنفس في تفسير ظواهر عدة كإشكااليات تعامل السجان مع السجين والدور الشخصي والمحيط الوظيفي الذي يدور في داخل تلك الأسوار
نناقش في ما هو آت التفسير العلمي من زواياه النفسية والاجتماعية لتلك الشخصية، والقيمة الوظيفية العليا التي تجعله هكذا، فضلًا عن دور البيروقراطية في الدولة والتباعد الإنساني في تلك الظاهرة؟ مع أمثلة لمن عايش حالات واقعية في حياته؟
” إنه يجب الآن الحذر ممن يحترمون القانون أكثر ممن ينتَهكونه” دوايت ماكدونالد – فيلسوف وكاتب أمريكي.
داويت ماكدونالد – مواقع التواصل
ذهب الرجل في كامل إنسانيته إلى متجر لألعاب الأطفال ليشتري لعبةً ما ويهديها إلى زميلة ابنته في حفل ميلادها، ولكنه استاءَ عندما عرضت عليه البائعة لعبة تسمى (عسكر وحرامية) وطلب منها لعبة رقيقة تناسب طفلة لطيفة لينتهي عين الاختيار على (جيتار موسيقى) تُعزف عليه الطفلة أحلى السيمفونيات العذبة، ليذهب بعد ذلك إلى حفل عيد الميلاد مع ابنته ليقود بنفسه الأطفال في اللعب والمرح وترديد الأناشيد وعزف الموسيقى طوال الليل، حتى يأتي الصباح فيذهب ذات الرجل إلى عمله راكبا جواده في يمينه كرباج يتفقد من خلاله انضباط المساجين وهم راقدون على ركبهم ليبدأ باستِجوابهم في لهيب شمس قد سيحت فروة رأسهم، ليرد أحد الراقدين برد لم يعجبه، فيصيح وسط عساكره ليحضروا حبلًا يربط ساقي الرجل الراقد ببعضهِما من طرف والطرف الآخر في جواد الضابط ليجري الضابط بجواده ويمسح الرجل الأرض مئات الأمتار حتى يفقد وعيه ليكون عبرةً لمن خلفه من زملائه.
جسد هذا المشهد فاروق الفشاوي (الضابط) وجميل راتب (السجين) في الفيلم المصري البريء الذي يروي للمشاهد حقبة الستينيات في العهد الناصري بمصر، مما أدى إلى لفت النظر لدى المُتفرج بين ازدواجية المساء والصباح وبين البذلة الملكية للضابط خارج أسوار المعسكر والمِيرية المُعلق عليها نجوم الوظيفة النظامية داخل أسوار المعسكر، بين قلب عطوف كأي إنسان وبين وحش لا يرحم حتى عجوز الجسد والسن.
طبيعة المعسكرات
كانت معسكرات النازية هي المثال الذي حظيَّ باهتمام أساتذة الاجتماع والنفس في تفسير ظواهر عدة كإشكاليات تعامل السجان مع السجين والدور الشخصي والمحيط الوظيفي الذي يدور في داخل تلك الأسوار ودراسة شخصيات النازية التي كانت تدير العمل بالمعسكرات.
كتاب الشخصية التسلطية
قام مجموعة من الباحثين وعلى رأسهم تيودور أدورنو، دانيال جاي ليفينسون، ونيفيت سانفورد، بتقديم مادة بحثية بعنوان (الشخصية التسلطية)، تناولت تلك المادة أُطروحة التعامل الوحشي للنازيين مع المعتقلين اليهود داخل المعسكرات وفسرت ذلك بأنه يرجع إلى وجود شخصية من نوع جديد، شخصية أكثر سادية وعنفا والتي ألصقت وجود صفاتها بوجود النازية التي تميل إلى القسوة والغلظة في التعامل مع الضعفاء، وأهملت تلك الدراسة أو عارضت فيما بعد أي دراسة كانت تشير إلى الدوافع والمؤثرات الاجتماعية والوظيفية التي أدت إلى ظهور وتنامي تلك الشخصية التسلطية كما بين ستانلي ميلجرام في تجاربه فيما بعد.
– ميلجرام، نظرية المثقف القاتل
على عكس ما قدمه أصحاب نظرية الشخصية التسلطية، اتجه أستاذ علم النفس والاجتماع الأميركي ستانلي ميلجرام (1933-1984) إلى دراسة الدوافع النفسية والاجتماعية المحيطة بالشخص أو الجماعة التي ترتكب أعمال عنف، عن طريق تجربته الشهيرة باسمه “ميلجرام” الذي أجرها في جامعة ييل الأمريكية والتي نشرت نتائجها عام 1974، والتي واجهت المجتمع المتحضر الحديث لتعارضها معه، فهي تشير إلى أنه من الممّكن أن يقوم بالأعمال الإجرامية أناس ملتزمون بالقانون وبالدور الوظيفي الذين هم تحت طائلته، وليس أناس غوغائيون متسلطون، وربط دافع الأعمال الوحشية ببنية السلطة وبيروقراطياتها وإطار تنظيمها المعقد، فبإمكان الشخص الذي يكره القتل أن يقتل بلا أدنى تردد أو أي شعورٍ بالذنب لأنه يكون جزء من نظام فعال لأجل ذلك.
“المستنقع نظام محكم البناء، ورغم أن الأهداف التي تقع فِيه تتحرك فإن حركتها دائما ما تزيد من قوة الامتصاص الموحلة” زيجمونت باومان – أستاذ علم الاجتماع البولندي.
زيجمونت باومان – مواقع التواصل
صعوبة الخروج من المستنقع
إحدى النتائج التي استنتجها ميلجرام من تجربته هي التورط في الجريمة وصعوبة التراجع، وقد لُوحظ هذا على المُعلمين المشاركين في التجربة عندما طُلب منهم إعطاء المُتعلمين صدمات كهربائية قوتها 15 فولت عند اقتِرافهم الخطأ، ومع كل اقتراف تزداد قوة الصدمة حتى بلغت ذروتها على المُتعلمين، عندئذٍ وقف المُعلمون حائرين بين التوقف أو الاستمرار في الصعق مع علمهم بحدوث أضرار بالغة إن استمروا. يفسر هنا الموقف أستاذا علم النفس والاجتماع جون سابيني و ماري سيلفر في دراستهما المعنونة بـ (تدمير الأبرياء بضمير مُريح) Destroying the innocent with a clear conscience بأن المُعلم هنا تحول إلى عبد تقيده أفعاله وخطواته السابقة وأن المسافات الضئيلة بين الخطوات مشيرا إلى ازدياد قوة الصعقة شيئا فشيئا بمقدار بسيط غضت البصر لهؤلاء المشاركين ووصفهُم بأنهم دخلوا مصيدة أو فخا وعجزوا عن الخروج منه.
– تعارض مليجرام مع لوبون
ليست فقط أوساط الأكاديميين والمثقفين من المجتمع الحديث هي التي دحضها ميلجرام بتجربته، بل حتى انتقد نظريات الموتى؛ فحين الرجوع إلى القرن التاسع عشر للمؤرخ الفرنسي ومؤسس علم نفس الجماهير غوستاف لوبون (1841- 1931)، نرى التعارض.
غوستاف لوبون – مواقع التواصل
يرى لوبون في كتابه الأشهر سيكولوجية الجماهير، الذي وصف فيه الجماهير بأنها كتلة عقلية واحدة تتجه إلى اتجاه ما سواء بالخير أو الشر، ولكنه عندما أشار إلى ارتكاب تلك الجماهير جرائم همجية ووحشية بواسطة أناس متحضرون منهُم، وصفهم في حالة واحدة وهي انقطاع سمة العقلانية عندهم أي في تجمع جماهيري تغلبُ عليه الغوغائية فيَفقدوا عقولهم ويتحولون إلى اللاعقلانية، وبذلك يرتكبون أفظع الجرائم بواسطة اللاعقلانية الهمجية الجماعية، على عكس ميلجرام الذي أثبت أن تجمع المشاركين في التجربة كان يغلب عليه العقل والهدوء دون صيحات همجية أو محيط غوغائي، وبالتالي لم يفقد المشاركون عقولهم واتسَموا جميعهم بالعقلانية ولكن تغلبَ عليهم الدور الوظيفي والتباعد الاجتماعي وارتكبوا أفعال وحشية بكامل إرادتهم وقواهم العقلية.
– لماذا يكرهني السجان؟
“كل الناس إلى حد ما نائمون طالما لديهم استعداد كامل للعنف يمكن استثارته تحت ظروف معينة”، جون شتاينر – مؤلف وعالم اجتماع أميركي.
في مشهد من فيلم الصبي في البيجامة المخططة The Boy in the Striped Pyjamasوهو واحدٌ من أشهر الأفلام الدرامية التي جسدت معسكرات النازية بحق الفئة اليهودية، يقف المُمثل ديفيد ثيوليس وهو قائد لمعسكرٍ نازي مستاءًا أمام زوجته عندما واجهته بأنه قاتل لآلاف البشر من الرجال والنساء والأطفال عن طريق أفران الغاز وأنها لا تستطيع أن تعيش مع وحش يفعل تلك الجرائم، وكان جوابه في كل مرة أنه يجب عليه فعل ذلك من أجل مصلحة وعلو ألمانيا التي ينسال عليها الأشرار من كل حدبٍ، حتى انتهى الفيلم بمقتل ابنه الصغير بالخطأ عن طريق دخوله معسكر اليهود بالبيجاما المخططة التي يرتدونها.
من تمثيل الدراما الغربية إلى واقع الدراما العربية
يسرد أنس (اسم مستعار) 25 عام، (وهو خريج ليسانس علم الاجتماع) ما لاحظه من تعامل ضباط وأمناء الشرطة مع السجناء كافة (السياسيين – الجنائيين) أثناء فترة اعتقاله لمدة عامين (2016 – 2018) في إحدى معسكرات الاحتجاز المصرية.
يروى لسانه قائلًا: إن أغلبية ضباط السجن كانوا يكرهوننا لاسيما السجين الجنائي، كانوا ينظرون إليه كالعبد الأسود في ستينيات القرن الماضي بجنوب إفريقيا البيضاء، وما لفت انتباهي أنه عند دخولنا لزيارة أهالينا المقررة إسبوعيًا أن ضابط الزيارة كان يتركنا نقف في لهيب الشمس وحرِّها ولا نستطيع الدخول قبل أن يتمِّمَّ علينا ويختم على ساعدنا.
ليقف هو على بُعد عدة أمتار منَّا في ظله يتحدث في جواله النقال بكل لين ورفق ويكأنه يحدث خطيبته أو زوجته، حتى كنا نتلامز بعضنا البعض قائلين (الحبيبَّ هيدخلنا الزيارة امتى) وعندما كان ينتهي من مكالمته الغرامية يأتي إلينا وفي أقل من نصف دقيقة يلفظ لسانه أبشع السباب بسبب أو بدون سبب ويده أو يد مخبره تبرح ضربا على جسد في الغالب سجين جنائي إن خالف تعليمات الزيارة من ملبس أو عدم التزامه بالصف وهذا الموقف يتكرر عشرات المرات فيتحول من إنسان يتعمق بداخله الحب إلى وحش يندثر منه العنف.
أنس ذكر قصة رواها له أحد أصدقائه الذين رافقوه بالسجن، أنه بعدما أفرج عنه قابل هذا الضابط في إحدى المستشفيات، وقد تذكره وسلم عليه واطمئن عليه وسلم على والدته التي كانت مريضة بكل لطف وشفقة كأي إنسان يزور مريض.
تجربة سجن ستانفورد – مواقع التواصل
وهنا يحدثنا عالم الاجتماع الأميركي جون شتاينر عن الضابط النائم أو الإنسان النائم معلقا على تجربة عالم النفس الأميركي فيليب زيمباردو الشهيرة باسم سجن ستانفورد مفسرا بأن الإنسان لديه قدرة ساكنة نائمة على التطرف بأقصى درجات الهمجية والعنف والسادية، وتلك القدرة تستيقظ في حالات معينة أو عندما تتهيأ لها الظروف كحياة اجتماعية أو بيئة وظيفية قانونها يستوجب ذلك الاستيقاظ من أجل قيمة عليا حددها ذلك القانون.
– سجاني لا يكرهني في الليل
يتابع أنس سرد تجربته: كنا في عنبرٍ وسط عنابر السجن، وكان يمكث لِحراستنا داخل غرفة بجوار باب العنبر ثلاثة أو أربعة أمناء ومخبرين للسجن، غالبا كانوا يأتون إلى باب زنزانتنا القريبة منهم عندما يسمعوننا نغني في أمسيتنا أو حتى عندما نصيحُ على أحدهم إذا اشتد المرض بيننا على أحدنا ومرة أخرى بدأوا بالمجيء دون أي شيء ليقفوا على باب الزنزانة وينظرون من النضارة (شباك الزنزانة) ويَطلبوا منا قطعة خبز أو غَاموسا (جبنة – حلاوة) كوجبة عشاءٍ لهُم، وفي إحدى المرات قال لنا أحدهم نصا عندما مزحنا معه وقلنا “افتحلنا علشان نخرج ونروح” فردَّ ما باليد حيلة لو بإيدي كنت خرجتكُم حالًا والله، وتابع يدعي لنا بفك الأسر والذهاب لأهالينا سالمين، والمُريب أن هذا الرجل عندما يقابلنا خارج الزنزانة أثناء تفتيشنا لدخول الزيارة أو حتى في ترحيلة ما؛ يسبُنا ويعاملنا بغلظة شديدة، أي أنه يسبُنا نهارا خارج الزنزانة وليلا يقف يتسامر معنا.
وهنا يشير عالم الاجتماع الأميركي روبرت جونسون في دراسته الإعدام – عمليات الموت الحديثة (study of the modern execution process) وهي دراسة أجراها حول الأيام الأخيرة في حياة المحكوم عليهم بالإعدام، ويقول إنه عندما تناقش مع بضعة ضباط أخبروه أن حُراس تلك الغرف الذي يعيش فيها المحكوم عليهم بالإعدام لا ينعمون براحة نفسية وقت تنفيذ تلك الأحكام لأنهم بالفعل قد كونوا علاقات إنسانية مع هؤلاء السجناء، ولكن الضابط تابع أنه أولا وأخيرا هي وظيفتهم لدى القانون، الإشراف على الإعدام مثل الطبيب الذي يجري عملية جراحية لإنسانٍ قد يموت خلالها فهذه وظيفته أيضا.
فبالكاد نتائج ميلجرام وتجربته وضعت المجتمع الحديث ومثقفيه في حرجٍ كبير وشبهت الدولة وبيروقراطيتِها المعقدة بإنسان همجيٍ، ولكن في ثوب صناعي تُكنولوجي مُتحضر يطيع القوانين، ومن الممكن بعد ذلك في أي لحظة أن يقتلك صديقك إن تقابلت معه في دور وظيفي يصنفك أنك إرهابي أو يشرف على تعذيبك الوحشي جارك الذي في وقت مضى مزح معك، أو يقفل عليك باب زنزانتك أخوك إن كنت في بند القانون الذي يحكمه عدو الوطن والمصلحة العليا.