على مدى السنوات الماضية، راكمت فصائل المعارضة السورية خبرات عدة، انعكست في العمل العسكري المشترك ومستوى الخطاب الإعلامي والممارسة المضبوطة في معركة “ردع العدوان” التي جاءت تتويجًا لمسارات سابقة. وأظهر الخطاب الإعلامي الأخير لقوات المعارضة بعدًا سياسيًا واستيعابًا للتعدد الديني والثقافي.
نناقش في هذا التقرير أبرز سمات ومضامين الخطاب الإعلامي الأخير للمعارضة السورية، وبعض المشاهد من أرض الواقع التي تؤكد صحة هذا الخطاب، مع تسليط الضوء على تعامل الإعلام العالمي والعربي مع معركة “ردع العدوان” وأبرز التكنيكات والخطوات التي اتخذت في أثناء التغطية الإعلامية لهذه المعركة، ويمكن تلخيصها بعدة نقاط:
1- خطاب جامع موحد لكل السوريين
حرص الخطاب الإعلامي لفصائل المعارضة على الوحدة بين مكونات الشعب السوري بغض النظر عن الانتماء العرقي أو الديني، وتم توجيه العديد من الرسائل لإعادة اللحمة إلى المجتمع مع تجنب واضح لأي لهجة أيديولوجية.
وفي يوم الإثنين الماضي أصدرت غرفة العمليات المشتركة بيانًا دعت فيه الأكراد إلى البقاء في أحيائهم، وجاء فيه: “إن الأكراد جزء لا يتجزأ من الهوية السورية المتنوعة التي نعتز بها جميعًا ولهم الحق الكامل في العيش بكرامة وحرية” وأضاف البيان: “نؤكد رفضنا القاطع للممارسات الهمجية التي ارتكبها تنظيم الدولة ضد الأكراد.. ولن نسمح لأحد أن يعبث بهذا النسيج المتكامل، أو أن يعكر صفو الأخوة والتعاون بين جميع المكونات السورية”.
كذلك في الأول من ديسمبر/كانون الأول الجاري، أصدرت إدارة العمليات العسكرية بيانًا لقوات سوريا الديمقراطية والسكان الأكراد في حلب، مشيرة إلى أن معركتها مع النظام والميليشيات التابعة لإيران، وليست مع قوات سوريا الديمقراطية، وعرضت عليهم مغادرة حلب نحو شمال شرق سوريا بأسلحتهم دون مضايقات.
وتم التأكيد في أكثر من خطاب على أن الأكراد جزء لا يتجزأ من سوريا، ويتمتعون بنفس الحقوق التي يتمتع بها أي شخص آخر في البلاد، وأن فصائل المعارضة مسؤولة عن حمايتهم وضمان حصولهم على حياة كريمة. كذلك أصدرت إدارة الشؤون السياسية بيانًا للعلويين، معلنة أنهم جزء لا غنى عنه في سوريا ودعت العلويين إلى الانفصال عن نظام الأسد.
وعلى أرض الواقع، تواصلت فصائل المعارضة مع مختلف الطوائف الدينية والثقافية لطمأنتهم أن ليس لديهم ما يخشونه، وهذا الأمر في غاية في الأهمية لتفكيك خطاب نظام الأسد الذي اعتمد على حماية الأقليات. وهناك عدة فيديوهات لسكان مسيحيين في مدينة حلب يؤكدون أنهم عوملوا بأخلاق حسنة ولم يمسسهم أحد بسوء، كذلك أكد مطران حلب أن الكنائس مفتوحة وتمارس طقوسها بشكل طبيعي.
2- لماذا هذه المعركة؟
سعى الخطاب الإعلامي لمعركة “ردع العدوان” على إفهام الناس على وجه الدقة ماذا تريد المعارضة السورية المسلحة وما الذي يحركهم، وبلورة المعركة على أنها ليست اعتداء، بل هي معركة دفاعية لإعادة المهجّريين وحماية جميع الأهالي ورد فعل على نظام الأسد وإيران ومليشياتها، وهو ما تجلى في اسم المعركة “ردع العدوان”.
لقد برزت الرزانة والهدوء والحنكة في خطابات القادة العسكريين والمدنيين الذين تصدروا للحديث مع الناس وفي وسائل الإعلام، على سبيل المثال ظهر أحمد الدالاتي المسؤول الثاني في حركة أحرار الشام في مسجد الروضة بحلب، وشرح أسباب المعركة، كما دعا بشكل خاص إلى الوحدة وحث على احترام جميع السوريين، بما في ذلك المجتمعات المسيحية والعلوية.
3- تأمين جميع الطوائف وعدم الانتقام
هناك حرص كبير في الخطاب الإعلامي لـ”غرفة العمليات المشتركة” على عدم الانتقام وتشجيع عساكر النظام على الانشقاق عن جيش الأسد، وهناك لجنة خاصة لتأمين انشقاق وسلامة الجنود.
وأصدر الجولاني في 29 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي سلسلة من التوصيات للجنود فيما يتعلق بتحرير حلب، ذكر فيها أن الأولوية الأولى هي حماية ممتلكات وأرواح المدنيين وإرساء الأمن وتهدئة مخاوف الناس من جميع الطوائف، وأشار إلى أن حلب هي مكان التقاء التنوع الثقافي والديني لجميع السوريين.
وفي بيان آخر لقائد هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني للجنود، جاء فيه: “نحن لا نسعى للانتقام، وإنما للعدالة والكرامة، كونوا قدوة في التسامح والعفو وأحسنوا لأسرى العدو وجرحاهم، وإياكم والإفراط في القتل، وعاملوهم بخلق الإسلام، فإني أحملكم مسؤولية تمثيل الثورة السورية في الميدان”.
وجدير بالذكر أن هذه الرسالة تكررت على ألسنة المعارضة المسلحة، وهناك سلسلة من الخطابات والبيانات التي مفادها أنه يجب تأمين وحماية حياة المدنيين ومعتقداتهم وممتلكاتهم، وأن المقاتلين يضمنون سلامة الناس دون انتقام، وفي الواقع ظهرت فيديوهات لمعاملة الأسرى بشكل إنساني لائق.
4- طمأنة الدول وتهدئة المخاوف
حرصت فصائل المعارضة على طمأنة مخاوف كل المكونات والطوائف السورية المختلفة. وبالأمس وجه الجولاني رسالة إلى الأهالي في مدينة محردة المسيحية، كانت تأكيدًا للرسائل السابقة للمسيحيين في حلب، ومعظم الرسائل التي وجهتها إدارة الشؤون السياسية للأقليات تدور حول طمأنتهم للبقاء في مدنهم وقراهم دون أذى، بجانب دعوتهم إلى رفض الحرب النفسية التي يمارسها النظام.
في الحقيقة هناك جهود ضخمة بذلتها المعارضة المسلحة من أجل تهدئة المخاوف لدى الأقليات التي تخضع الآن لحكم المناطق المحررة. بجانب توجيه خطاب سياسي إلى بعض الدول لتأكيد أن هذه المعركة ليست موجهة نحوهم، وهو ما ظهر بشكل واضح في البيانات السياسية التي تم توجيهها إلى العراق وروسيا ومجلس الأمن.
وردًا على الهجمات الجوية الروسية، أصدرت إدارة الشؤون السياسية في هيئة تحرير الشام بيانًا دعت فيه روسيا إلى عدم ربط مصالحها بنظام الأسد أو بشار، بل بالشعب السوري وتاريخه وحضارته ومستقبله. وأكد البيان على أن الشعب السوري يسعى إلى بناء علاقات إيجابية قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة مع جميع دول العالم، بما في ذلك روسيا، والتي اعتبرها البيان شريكًا محتملًا في بناء مستقبل مشرق لسوريا الحرة.
كما تم إصدار رسالة مماثلة موجهة إلى العراق وشعبه، ويرجع ذلك على الأرجح إلى الأخبار التي تفيد بأن الميليشيات الشيعية العراقية قادمة من العراق لمساعدة نظام الأسد. كذلك أعلنت إدارة الشؤون السياسية حمايتها للقنصليات المحلية في حلب، وقدمت أرقامًا للأجانب الموجودين في حلب للاتصال في حالة احتياجهم إلى المساعدة.
أيضًا تواصلت هيئة تحرير الشام مع موظفي الأمم المتحدة المحليين لحمايتهم وتسهيل خروج أي شخص يود مغادرة المدينة، كذلك وجهت الهيئة خطابًا إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي دعت فيه إلى تطبيق المادة 18 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تنص على حماية المستشفيات والمرافق الصحية.
الاختزال.. “ردع العدوان” في وسائل الإعلام الغربية
لم تنتقد معظم التصريحات الدولية معركة “ردع العدوان”، وتعاملت معها كنتيجة لعدم تحقيق حل سياسي في سوريا، وهناك إشارات في هذه التصريحات إلى أن تحالف النظام مع روسيا وإيران هو السبب في عدم تحقيق حل سياسي، وهو ما يمكن قراءته كقبول ضمني بالعملية.
في الواقع، كانت معظم الأخبار الغربية التي تناولت المعركة متشابهة لحد كبير، كالصحافة الأمريكية والبريطانية والقنوات الكبيرة، “سي إن إن” و”بي بي سي” و”واشنطن بوست” و”ونيويورك تايمز”، هذه الصحف والقنوات بما فيها الوكالات الكبرى اعتمدت في مصادرها على “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، كما استخدمت في تغطيتها الإخبارية مصطلح “المتمردون الإسلاميون” وفي بعض الأحيان استخدمت مصطلح “قوات المعارضة”.
أما مضمون هذه التغطية الأخبارية، فقد ركز على المخاوف بشأن فرض حالة إسلامية معينة، والمقاتلين الأجانب في صفوف المعارضة، بجانب تسليط الضوء على الأقليات العرقية والدينية التي تعيش في الأراضي التي تم تحريرها حديثًا، في الحقيقة كان التركيز منصبًا بشكل كبير على المجتمعات المسيحية في حلب، وبعض الصور والأخبار كانت بالفعل ملفقة، مثل أخبار منع المسيحيين من الاحتفال الديني في حلب، وظهرت عناوين مثل “حرب على عيد الميلاد في سوريا”.
ازدواجية المعايير عند الأمريكيين .. قصة قصيرة مع روبرت فورد pic.twitter.com/hewTxPJS0p
— موسى العمر (@MousaAlomar) December 1, 2024
وجدير بالذكر أنه ظهرت مقاطع فيديو وتقارير من مدينة حلب للمسيحيين وهم يمارسون حياتهم بشكل طبيعي، ويستعدون للاحتفالات بعيد الميلاد ويصلون في الكنائس. كما نفى مجلس كنائس الشرق الأوسط الشائعات التي تم تداولها في وسائل الإعلام الغربية عن مطالب أو شروط فرضتها الفصائل السورية على الكنائس أو على ممارساتهم الدينية، ووصفها المجلس بأنها لا أساس لها من الصحة.
وهناك مقطع فيديو حقق عشرات الملايين من المشاهدات على مواقع وسائل التواصل، وتم استخدامه على نطاق واسع في وسائل الإعلام الغربية، وهو لشخص غير معروف يقوم بكسر شجرة الميلاد في حلب، لكن حصل تدخل وأعيدت الشجرة إلى مكانها.
الأهالي في حي #العزيزية بمدينة #حلب يزينون شجرة #عيد_الميلاد وسط أجواء طبيعية pic.twitter.com/FyuIZrr4q2
— ZAMANALWSL – زمان الوصل (@zamanalwsl) December 3, 2024
صحيح أن هناك تقارير غربية عدة تتحدث عن انتهاكات ارتكبتها الفصائل المسلحة، لكن هذه الانتهاكات لم تكن في الحقيقة ممنهجة، معظمها حالات فردية، وهي حقيقة تصرفات منبوذة من إدارة العمليات العسكرية.
كذلك من المهم ملاحظة أن فصائل المعارضة السورية وخاصة “هيئة تحرير الشام”، كان خطابها مؤيدًا لـ”طوفان الأقصى”، كما قام العديد من شخصياتها بعزاء قيادات حماس، كإسماعيل هنية ويحيى السنوار، ولهذا نأى البيت الأبيض بنفسه عن أي صلة بمعركة “ردع العدوان”، واستمر في الإشارة إلى الهيئة باعتبارها منظمة إرهابية. وهو نفس الخط الذي اتبعته العديد من وسائل الإعلام الغربية، لكن هناك تحسنًا نسبيًا في تغطية الأحداث مقارنة بالسابق.
📌 في خطوة لافتة، سلطت الإذاعة الفرنسية الرسمية الضوء على مسار هيئة تحرير الشام، مشيرة إلى أنها تمثل خيارًا ثالثًا مختلفًا عن تنظيم الدولة والقاعدة.
📌 حيث قالت الإذاعة، إن غالبية مقاتلي الهيئة هم من النازحين الذين اضطروا للقتال دفاعًا عن حقهم في العودة إلى ديارهم. كثير منهم… pic.twitter.com/FFZuXmGn9H
— نون بوست (@NoonPost) December 3, 2024
أما وسائل الإعلام الإسرائيلية، فهناك قلق واضح من عملية “ردع العدوان” وانهيار النظام السوري، على سبيل المثال ذكرت “هآرتس” أنها تخشى من وصول الفصائل السورية إلى المخزون المتبقي من السلاح الكيماوي الموجود لدى نظام الأسد، كذلك من الأسلحة النوعية التي باتت بحوزتها.
الخبر الملغوم.. “ردع العدوان” في وسائل الإعلام العربية
كان الموقف العربي الرسمي من عملية “ردع العدوان” معاكسًا نوعًا ما للموقف الدولي الذي على الأقل تفهم العملية، وما زالت العديد من الدول العربية مترددة في اتخاذ موقف، وبعضها اتخذ موقفًا علنيًا في الوقوف بجانب الأسد، كمصر والإمارات.
فقد وصفت الدبلوماسية التي جاءت على لسان وزراء خارجية كل من العراق والأردن والإمارات والجزائر، التحركات العسكرية لفصائل المعارضة بأنها تحركات لفصائل تابعة لمنظمات إرهابية. وحتى في القمة الخليجية الأخيرة، لم يتم التطرق لما يجري في سوريا رغم أنها تشغل العالم اليوم.
أما وسائل الإعلام العربية، فقد تحول معظمها من إعلام منحاز إلى إعلام معادي للشعب السوري وحقوقه العادلة، معظم وسائل الإعلام المصرية التي تبث من القاهرة وقفت بشكل صريح بجانب نظام الأسد، وتناولت المعركة كصراع نفوذ بين القوى الإقليمية والعالمية.
أما وسائل الإعلام في دول الخليج، ففي أحسن الأحوال، حاول بعضها الابتعاد عن الأحداث، لكن السعودية على سبيل المثال، وخاصة قناة “العربية” وقفت بشكل فج إلى جانب بشار الأسد ضد الشعب السوري، وخرج محللون للدفاع عن نظام الأسد، كما برر إعلاميو القناة استهداف الثوار.
والغريب أن قناة “العربية” انحازت لمحور إيران وميليشياتها، وهي نفس التهمة التي كانت تلاحق بها حماس. كذلك انحازت شبكة “سكاي نيوز” لنظام الأسد، وقد غطت العملية تحت عنوان “جولة عنف جديدة في سوريا”.
واللافت حقيقة أن محور الخبر تحديدًا في قناتي “العربية” و”سكاي نيوز” جاء كأنه تبرير للقصف الروسي والأسدي، فحتى مع ارتكاب الأسد والروس لمجازر ضد مدنيين، محور الخبر ليس جريمة الحرب ضد المدنيين، محور الخبر هو حرب وصراع بين النظام و”إدارة العمليات العسكرية”.
ومن اللافت أن العديد من وسائل الإعلام العربية في تناول القصف الأسدي والروسي لم توضح ما إذا كان من مات مسلحًا أم مدنيًا! حتى حين كانت تنقل الخبر من “المرصد السوري لحقوق الإنسان” اعتمدت على التضليل والتلاعب في النقل، وإعادة رسم عنوان الخبر ومن ثم قلب الأفكار.
على سبيل المثال يذكر أحد أخبار المرصد السوري أن 11 شخصًا قتلوا من المدنيين بينهم 5 أطفال وسيدتان بسبب غارات شنها الروس والنظام، بينما حين نقلت العديد من وسائل الإعلام العربية هذا الخبر من المرصد، تلاعبت بكلماته وحذفت الإشارة إلى أن القتلى كانوا من المدنيين، وهو ما يمكن قراءته كتوفير غطاء إعلامي لتبرئة نظام الأسد من الجريمة، كما هو موضح في الصورة التالية!
في حقيقة الأمر، حولت العديد من وسائل العربية الحرب الدائرة في سوريا من معركة دفاع وتحرير تقوم بها الفصائل السورية إلى حرب إرهاب، والأسوأ محاولة إبراز أن النظام وروسيا لا يقصفان تجمعات السوريين المدنيين، بل تقصف فصائل إرهابية.
كما أن هناك شحًا لافتًا في حضور شخصيات المعارضة السورية السياسية على وسائل الإعلام العربية، فحتى قناة “العربية” ليس لديها مراسلين في مناطق المعارضة، بينما صحفيوها ومراسلوها في دمشق يعملون على إبراز وجهة نظر نظام الأسد.
كذلك من المعروف أن المعارضة المسلحة التي قامت بعملية “ردع العدوان” تتألف من أطياف واسعة مختلفة في التوجهات، ومع ذلك فهناك اختزال جائر تعرضت له العملية في معظم وسائل الإعلام العربية التي اختزلت الفصائل المعارضة في “هيئة تحرير الشام”، وعلى وجه الخصوص اختزال الأحداث في شخصية أبو محمد الجولاني.
في الواقع، هناك اهتمام غير عادي بأبي محمد الجولاني وتصريحاته القديمة، وليست إشكالية هذا المحتوى الكثيف للغاية في استعراض شخصية وأفكار الجولاني والتحولات التي مر بها، بل في التأكيدات والجزم على أنه لم يغير أيديولوجيته، هنا على سبيل المثال في تقرير لـ”بي بي سي” والذي بعد أن استعرض محطات الجولاني، أكد التقرير في نهايته على أن الجولاني رغم كل شيء “حافظ على نفس أيديولوجيته القديمة”!
في كثير من الأحيان، تم التلاعب في ذهن المتلقي من خلال إفراد مساحات كبيرة جدًا في معظم وسائل الإعلام العربية لاستدعاء أحداث ومواقف سابقة كالحديث عن جبهة النصرة التي ليس لها وجود، هناك نموذج شهير جدًا للتضليل الإعلامي استخدمه الإعلام العربي من خلال استحضار مسمى جبهة النصرة الذي له صورة ذهنية معينة في ذهن المتلقي.
حاصل هذا التشويه، التلاعب في الألفاظ والمصطلحات والسياسة التحريرية لتشويه المعركة، وأن يصير المتلقي جاهزًا لشرب اللبن المغشوش. تتعمد وسائل الإعلام العربية استدعاء الأخبار والقصص القديمة لداعش وجبهة النصرة ومضاعفة التعرض لهذا المحتوى ليس على سبيل المعرفة أو نقل خبر يحتاجه المتلقي، وإنما للتقريع ورسم روابط واهية، وخلق وتمرير أخبار معينة في وعي المتلقي بأن “إدارة العلميات العسكرية” إرهابيون مرتبطون بداعش والقاعدة.
في هذا التقرير على سبيل المثال لقناة “دويتشه فيله” الألمانية، تم التلاعب بالمعلومات وخلفية الأخبار وطريقة استدعاء الضيوف، من أجل الزعم بأن هيئة تحرير الشام تحاول مع تركيا استنساخ تجربة طالبان في سوريا، وجدير بالذكر أن هذا التقرير مثل الكثير من التقارير التي تتعمد استضافة ضيوف غير سوريين يتحدثون عما يجري على أرض الواقع.
وبالتالي لم يتم تغطية معركة ردع العدوان بحد أدني من الأمانة، بل كان التشويه والاختزال السمة الغالبة رغم الفروق والتباينات بين الفصائل السورية، ناهيك بمحاولات تنميط هيئة تحرير الشام والنظر إليها ككتلة ثابتة مسمطة ومن خلال عدسة داعش والقاعدة رغم أن أدبياتها واضحة في شرح أفكارها. والواقع أن هيئة تحرير الشام تغيرت بشكل هائل في السنوات الخمس الماضية، وهي أصلًا مكونة من سوريين من ناحية الخطاب والأشخاص.
ورغم أن غالبية وسائل الإعلام العربية لم تفرد مساحة كافية لتغطية ما يجري في سوريا، باستثناء قناة سوريا TV وقناة حلب اليوم TV وبعض القنوات والشبكات المؤيدة للثورة السورية، لكن حتى مع هذه المساحة القليلة جدًا، ما زالت هناك صياغات إعلامية وسياسات تحريرية لا تعكس الصورة الحقيقية لما يجري.
ولكي تتضح الصورة أكثر، فمجرد أن نبحث في جوجل خلال آخر أسبوع عن جملة “الطيران السوري يقصف تجمعات المسلحين في حلب” سنجد وابلًا من الأخبار والتقارير العربية التي تدخل في إطار تعظيم جيش الأسد وتوفير غطاء إعلامي لارتكاب المزيد من الجرائم، وفي المقابل لو بحثنا عن جملة “النظام السوري يقصف مستشفى إدلب الجامعي” سنجد أن وسائل الإعلام العربية التي غطت هذا الخبر لم تتعد الـ10 منصات!
كذلك من اللافت التعتيم الكامل على قصص اللاجئين والعائدين إلى منازلهم ومن تم تحريرهم من السجون، هذا التجاهل موجود حقيقة في وسائل الإعلام العربية والغربية، والتي لم تستضف معتقلًا واحدًا أو مهجرًا واحدًا عاد إلى منزله بعد تحرير حلب، وهو ما ساهم في نزع الطبيعة الإنسانية والأخلاقية عن فصائل المعارضة السورية في وسائل الإعلام.
في الواقع، تسعى وسائل الإعلام وخاصة الرسمية إلى عسكرة الأحداث، والحرص على عدم كسب أي نوع من التعاطف، وهذا موجود على مستوى الرأي العام العالمي، بما في ذلك داخل العالم العربي!
الشيطنة.. ردع العدوان في وسائل إعلام النظام وإيران
يبدو النهج الذي تتبعه وسائل الإعلام الإيرانية والنظام بسيطًا بما فيه الكفاية، فهو أقرب إلى الملاكمة اللفظية من الخطاب العقلاني، فضلًا عن تقديم حجج متماسكة. تعتمد وسائل إعلام النظام وإيران على الأكاذيب ونشر معلومات مضللة والتي أطلقها مسؤولون إيرانيون، في الواقع، العبارات المستخدمة كلها متشابهة، ويكررها العديد من الأشخاص كلمة كلمة، إنه نص واحد يتيم تم توزيعه عليهم.
ولوحظ أن هناك شيطنة وحملات تضليل إعلامية ضخمة تقوم بها دعاية النظام وإيران وتشارك فيها قنوات ممولة من الإمارات، لقد تم تداول الكثير من المعلومات المضللة من الحسابات المؤيدة للأسد وإيران حول الوضع في حلب منذ تحريرها.
وعلى وجه الخصوص، انشغلت وسائل الإعلام المدعومة من إيران للحديث عن وجود مؤامرة أمريكية صهيونية لتدمير محور المقاومة، والتركيز على سردية أن ردع العدوان جزء من ترتيب أمريكي للمنطقة من أجل الضغط على “حزب الله” وإيران وقطع خطوط إمداد المقاومة. وتتلخص هذه الدعاية في التالي:
1 – فصائل المعارضة السورية دمية في أيدي تركيا.
2- عرض فيديوهات قديمة لداعش وجبهة النصرة وتقديمها على أنها تحدث حاليًا.
3- المعارضة تدخل حلب بدعم من الغرب.
4 – عملية “رد العدوان” تمت باتفاق وتنسيق بين الفصائل السورية ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو.
5 – فصائل المعارضة هم جماعات تكفيرية متطرفة.
6 – فصائل المعارضة تضطهد الشيعة.
7 – إدراج فيديوهات وصور تنظيم الدولة في الأخبار التي تتناول معركة “ردع العدوان”.
قلب المعادلة
يمكن القول حقًا، لم يكن هناك إعلام يغطي الأحداث بشكل حقيقي ومتوازن، وهناك حرب نفسية وتشويه كبير لعملية “ردع العدوان” في وسائل الإعلام خاصة العربية، بجانب صناعة الصور غير الأمينة وغير النزيهة. ورغم أن المعارضة المسلحة دعت الصحفيين والمنظمات الدولية للقدوم إلى المناطق المحررة لرؤية الواقع على الأرض، لم نشاهد صحفيين أجانب يدخلون إلى المناطق المحررة حديثًا.
وفي المحصلة يظهر أن المعارضة السورية لديها استراتيجية إعلامية، وأظهرت حضورًا لافتًا على وسائل التواصل، بجانب العدد المحترف من المحاورين العسكريين والمدنيين الذين تحدثوا إلى وسائل الإعلام، لكن كما هو ملاحظ تم استضافتهم في عدد قليل جدًا من القنوات.
كذلك هناك تحسن كبير على مستوى خطاب المعارضة السورية مقارنة بالسابق، هناك بالفعل بعد سياسي لخطاب ونهج وسلوك الفصائل واستيعاب التعدد الديني والثقافي، وهذا الخطاب لم يكن تكتيكًا مثلما زعم البعض أو ما تم اعتباره بروبغندا من هيئة تحرير الشام لكسب ود المجتمع الدولي.
هناك مشاهد عدة من أرض الواقع تؤكد صحة هذا الخطاب، الكنائس التي احتفلت بالأعياد، كلام المسيحيين والأكراد أنفسهم، حرص الفصائل على تأمين مصالح الناس بمختلف أطيافهم وإرسال الطواقم الفنية لصيانة الكهرباء والمياه وتنظيف شوارع المناطق المحررة حديثًا، وتوزيع الخبز على الناس في الشوارع، في حين أن نظام الأسد وروسيا قصفا حي السليمانية المسيحي في حلب.
كذلك في بلدتي نبل والزهراء الشيعيتين تم تقديم الغذاء للسكان ولم يمسسهم أحد بالأذى، وأكدت إدارة الشؤون السياسية التابعة لحكومة الإنقاذ، على أن أهالي البلدتين كغيرهم من المدنيين السوريين، يجب أن يكونوا بمنأى عن أي استهداف أو تهديد قائم على الانتماء المذهبي أو العرقي.
العودة للمنازل بعد التهجير منها، فرحة لا تعادل فرحة أخرى لأهالي الشمال السوري. لسنوات سُلبوا حقهم من زيارة منازلهم وقراهم والآن عودة كريمة لها. هنا اورم الكبرى، وهنا الكثير من الأمل لأصحاب أرض حُرموا منها لسنوات. pic.twitter.com/tGHKhZF3eE
— Sara Kassim (Samia Idris) (@sarakasim98) November 30, 2024
حتى الآن، صرح المسيحيون بأنه لم يتم التضييق عليهم، وفي الحقيقة لا ينبغي أن يكون هذا مفاجئًا، لأن هناك أصلًا تجربة في إدلب نادرًا ما تم التحدث عنها، فهيئة تحرير الشام انخرطت مع المسيحيين والدروز في إدلب، وأنشأت مديرية لشؤون الأقليات تعمل على إشراك هذه المجتمعات وتلبية احتياجاتهم. وبالتأكيد لم يتسامح داعش مع أي رسائل من هذا القبيل نحو الأقليات، وهو ما يدل على أن الهيئة ليست كما يشاع عنها في وسائل الإعلام العربية التي تحاول دعشنة الأمر وصنع صورة غير موجودة.
ورغم أن المناطق السورية المحررة تكاد تخلو من صحفيين ومراسلين من وسائل الإعلام العربية والأجنبية، فإن التنسيق والجهد الإعلامي للصحفيين السوريين الذكور والإناث كان له الأثر الأكبر في نقل الصورة الحقيقية، وهناك صحفيون سوريون قُتِلُوا وهم يحملون الكاميرات، ومع الأسف لم نجد موقفًا تضامنيًا كبيرًا، أو الإشادة بهؤلاء الصحفيين من جانب الصحف والقنوات والمؤسسات الإعلامية الدولية.
استشهاد الإعلامي السوري أنس الخربوطلي في مورك بريف #حماه
رحمة الله تغشاك يا أنس رحمة الله عليك يا أنس.. هنيئًا لك الشهادة في معركة التحرير pic.twitter.com/zjft9J1mx8
— تمام أبو الخير (@RevTamam) December 4, 2024
وإذا كانت وسائل إعلام النظام وإيران والعديد من المؤسسات العربية قد نقلت صورة مغشوشة عن الأحداث، فإن هؤلاء الصحفيين السوريين الذين وجدوا ضالتهم في وسائل التواصل وتفوقوا في كثير من الأحيان على الصحفيين المحترفين، قد فرضوا حضورهم ولعبوا دورًا حاسمًا في نقل صورة واقعية لما يحدث دون أي مساحيق تجميل أو تأنق أمام الكاميرات.