أزقّة المخيمات الفلسطينية في سوريا باتت اليوم أكثر ضيقا وبؤساً من نظيراتها في أي بقعة من العالم، الدمار يكتسح المباني والشوارع، واللون الرماديُّ القاتم يعتلي وجوه السكان – أو ما تبقى منهم- بعد أن نزح غالبيتهم تحت أزيز الاشتباكات إلى دول العالم، بعضها احتضنهم على مضض، وبعضها لفظهم إلى البحر الذي قرر في كثيرٍ من الحالات أن يبتلعهم مع أطفالهم، وصارت العودة تعني عند كثير منهم العودة إلى المخيّم بدل العودة إلى فلسطين.
حين يتجوّل الفلسطينيّ في أزقة مخيماته التي باتت له الآن وطناً يجد ظلال الشهداء مرسومة على بقايا الجدران، مرفقةً بعباراتٍ كان يرددها الشهداء. هذه وسيلةٌ ابتكرها شبّان المخيم كي لا ينسوا شهدائهم الذين يزداد عددهم يومياً.
تاريخ الفلسطينيّ في سوريا:
لم تتوقف معاناة اللاجئين الفلسطينيين في سوريا عند مرارة لجوئهم الأول و تبعاته، فبعد قرابة نصف قرن أصبحوا لاجئين من سوريا إلى دول عدة للمرة الثانية، محتارين على أي وطن سليب يبكون.
تحتضن سوريا أعداداً كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين، يصل عددهم قرابة 600,000لاجئ، حظوا بمعاملةٍ جيّدة من قبل النظام السوريّ مقارنةً باللاجئين في دولٍ أخرى، وعلى الرغم من محاولتهم أخذ الموقف المحايد من النزاع المسلح الدائر في الأراضي السورية منذ قرابة ثلاثة أعوام، إلا أن ذلك لم يبعدهم عن التأثر المباشر وغير المباشر بذلك الصراع، وحسب ما تفيد تقارير صحفية موثقة، تجاوز عدد الضحايا الإجمالي للاجئين الفلسطينيين في سوريا( 1600) شهيد حتى نهاية سبتمبر 2013، فيما تعرض المئات من أبناء المخيمات للاعتقال والاختطاف، وقضى منهم العشرات تحت التعذيب أو نتيجة التصفية المباشرة، كما تعرضت مساكن اللاجئين، لا سيما في مخيم اليرموك بدمشق، للقصف المباشر عدة مرات. وقد دفع هذا الواقع البائس في سوريا بهؤلاء اللاجئين، أسوة بإخوتهم السوريين، إلى الهرب من الموت الذي يواجهون هناك. وما زاد وضعهم سوءا أنهم واجهوا مشاكل تتعلق بالجنسية في البلاد التي سعوا إليها طلباً للجوء، حيث أنهم لا يحملون أية جنسية، فهم أصلاً لاجئون، لم تمنحهم الحكومة السورية جنسيّتها طوال مدة إقامتهم فيها، والتي تصل في جزء منها إلى أكثر من 60 عاماً.
شرارات الصراع تطول الفلسطينيين وتحرقهم:
منذ اندلاع الاحتجاجات والحراك الشعبي في سوريا، بدأت مختلف أجهزة الأمن التابعة للنظام تقوم بحملات اعتقال فردية محددة، وجماعية عشوائية، ولم يكن الفلسطينيون بمنأى عن ذلك، فمنذ الأيام الأولى تم اعتقال فلسطينيين، لكن بشكل غير ممنهج، الرابطة الفلسطينية لحقوق الإنسان في سوريّا تجعل من شهر آب عام 2011تاريخاً مفصلياً في عمليات اعتقال الفلسطينيين، ففي هذا التاريخ حسب الرابطة تم اعتقال العشرات من أبناء مخيم الرمل الفلسطيني في مدينة اللاذقية دفعة واحدة وفارق بعضهم الحياة داخل المعتقل، وتورد الرابطة أن الاعتقال بعد ذلك بدأ يتصاعد تدريجيا إلى أن بلغ ذروته في شهر سبتمبر 2012 بسبب إدخال مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين – أكبر مخيمات الفلسطينيين في الشتات والواقع جنوب دمشق – إلى أتون الصراع بشكل مباشر.
إحصاءات وشهادات:
لا توجد جهة رسمية من الممكن أن تمنح العدد الدقيق للمعتقلين الفلسطينيين، بسبب كثرة الأعداد والأفرع التابعة للنظام، وبسبب تكتم عدد كبير من أهالي المعتقلين على اعتقال ابنائهم خوفا من تبعات الإعلان على المعتقلين وعلى الأهل أنفسهم.
من جهتها رصدت مجموعة العمل من أجل فلسطيني سورية بشكل تقريبيّ (604) حالة اعتقال واختفاء قسري لفلسطينيين لاجئين حتى تاريخ سبتمبر 2013 جميعهم معتقلون أو مختفون قسرياً في ظروف مجهولة تماماً.
ونقلت الرابطة الفلسطينية لحقوق الإنسان في سوريا شهادة المعتقل السابق “عدنان المالكي” حول اعتقاله قال فيها: “في أحد الأفرع التابعة لجهاز أمن الدولة في دمشق كان يفارق الحياة كل يومين معتقل بسبب سوء التهوية وضيق التنفس الناتج عن الازدحام والاعداد الكبيرة جدا من المعتقلين داخل زنزانة واحدة “.
فيما أظهر الرصد الميداني لمجموعة العمل بالتعاون مع الشبكة اﻷوروبية للدفاع عن حقوق الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين “ UFree Network ” عمليات قتل تحت التعذيب ل (195) ضحية حتى 14-5-2014 من اللاجئين الفلسطينيين الذين تم اعتقالهم في وقت سابق، ويشير تقرير لمجموعة العمل أنه يتبع للفروع الأمنية في سورية العديد من المعتقلات، بالإضافة إلى مواقع غير قانونية مستخدمة كمراكز احتجاز مثل المدارس والمعامل والملاعب الرياضية والمستودعات والمباني المهجورة، ومناطق التخزين تحت الأرض، والتي تستخدمها القوات الأمنية والعسكرية الحكومية لمحاولة استيعاب العدد الهائل الذي يتم اعتقاله كل يوم، وتمارس في هذه المعتقلات حسب المجموعة أبشع عمليات التعذيب والجرائم الواقعة على كرامة الإنسان وحقوقه.
وتتحدث المعلومات الموثقة عن عشرات المدنيين الفلسطينيين الذين قضوا في السجون السورية نتيجة التصفية المباشرة أو تحت التعذيب بعد تعرضهم لأقسى وأشد أنواعه، كثيرٌ منهم من الطلبة مثل الشهيد محمد أمجد أبو ماضي من مخيم اليرموك الذي اعتقل وهو في طريقه للحصول على مصدّقة التخرج بعد أن تخرج من كلية الاقتصاد قسم المحاسبة، ومنهم من اعتقل أثناء عملية توزيع المساعدات وخروج الطلاب الجامعيين من مخيم اليرموك, على الرغم من تشديد الوعود بعدم اعتقال اي شخص اثناء عملية توزيع المساعدات وخروج المرضى والطلاب.
ومن بين الشهداء عدد من الناشطين المدنيين في مختلف المجالات، مثل خالد بكراوي وعمر الحارس وطه حسين في المجال الإغاثي، وحسان حسان وهو أحد مؤسسي الرابطة الفلسطينية لحقوق الإنسان وفنان مسرحي فلسطيني شاب، إضافة أاحد رجال الدين الذين عملوا في المجال الإغاثي وهو الشهيد ربيع عللوه.
وقد رصدت مجموعة العمل عمليات اعتقال مباشرة لأشخاص على حواجز التفتيش أو أثناء الاقتحامات التي ينفذها الجيش داخل المدن والقرى السورية، أو أثناء حملات الاعتقال العشوائي لمنطقة ما، وبعد الاعتقال يتعذر على أي جهة التعرف على مصير الشخص المعتقل، وفي حالات متعددة تقوم الجهات الأمنية بالاتصال بذوي المعتقل للحضور لتسلم جثته من أحد المستشفيات العسكرية أو الحكومية العامة أو إبلاغ ذويه بمكان قبره. وفي حالات تسليم الجثث فقد سجلت المجموعة ملاحظتها آثار رهيبة للتعذيب جراء الضرب والحرق واستخدام أدوات حادة على جسم الضحية كما في حالة) محمد المصري (من المزيريب في مدينة درعا الذي اعتقل قبل أيام من تسليم جثته، وتسجل المجموعة حالات اعتقال بشعة طالت حتى المسنين، فالشهيد أسامه عمر أبو هاشم من سكان مدينة حلب قضى تحت التعذيب في سجون الأمن الجوي في حلب وهو من مواليد ترشيحا في الأراضي المحتلة وعمره 70 عاما! فيما تم رصد حالات اختطاف من داخل المستشفيات والمراكز الصحية لبعض الجرحى، إذ تعرض مستشفى فلسطين داخل مخيم اليرموك لأكثر من حالة اقتحام تم خلالها اعتقال عدد من الجرحى وهم في وضع صحي خطير، ففي تاريخ 10 / 11 / 2012 تم الإبلاغ رسمياً من قبل الأجهزة الأمنية عن وفاة المعتقل) سامح الخيال( في دمشق، بعد أن كانت قوات الأمن قد اعتقلته من داخل مستشفى الرحمة في مخيم اليرموك، علماً أنه كان مصاباً بشظية نتيجة القصف أدت إلى بتر قدمه، ولم تسلم جثته إلى ذويه.
كما سجل رصد مجموعة العمل حالات مروعة لبعض الأشخاص الذين اعتقلوا على حواجز التفتيش التابعة للنظام، ثم وجدت جثثهم ملقاة على قارعة الطريق وعليها آثار التعذيب والطعن بالسكاكين، بعضهم كان ذاهباَ لاستلام جثة ابنه الذي قضى تحت التعذيب، وفي الطريق أوقفهم حاجزٌ وجدوا قربه في اليوم التالي جثثاً ملقاة وعليها آثار التعذيب، كما حصل مع عائلة ومعارف الشهيد اسماعيل علي يعقوب.
وقد وردت حالات تعذيب وتصفية جماعية أثناء الاقتحامات التي ينفذها الجيش والقوى الأمنية ومثالها ما حصل مع عائلة ” الظاهر”بتاريخ 26 / 03 / 2013 في منطقة عرطوز في ريف دمشق الغربي حيث تمت تصفية ستة من عائلة الظاهر بعد احتجازهم أحياء.
وقد سجلت ذات المجموعة حالات اعتقال في السنة الأخيرة تمت فيها تصفيتهم تحت التعذيب ولم تسلم جثثهم إلى ذويهم، ولم يتم الإفصاح عن مكان وجودها، وهو ما يطرح استفهاماً كبيراً عن مصيرها، في وقت نشرت فيه تقارير عديدة عن ازدهار أنواع كثيرة من )التجارة القذرة( كما تصفها المجموعة، في ظل الحروب والأزمات.
ليس النظام فقط!
لم يتوقف الاعتقال على أجهزة النظام، حيث تم رصد حالات اختفاء قسري على يد مجموعات تتبع المعارضة المسلحة، فقد تمت تصفية) باسل عبود (بعد اختطافه من قبل مجموعة تتبع المعارضة المسلحة في منطقة الحجر الأسود المتاخم لمخيم اليرموك بتاريخ 20 / 03 / 2013 ولوحظت آثار التعذيب على جثته.
شبابُ المخيمات المعتقلون كُثر، وتسجل المنظمات الحقوقية ارتفاع وتيرة الاستشهاد تحت التعذيب، ففي ابريل الماضي لوحده استشهد أكثر من 23 شاباً 7 منهم في يوم واحد، ما يعني أنّ المعتقلين جميعهم شهداءُ مع وقف التنفيذ.
وعلى الرغم من هذا ما زال شباب مخيم اليرموك الذي حوصر شهوراً طوال حتى مات أبناءه جوعاً يغنون للمخيم، وينشدون أبناءه أن يعودوا له..
” يا شعبي الغالي يا مهجر..
بيكفي برّة تتهجر..
يللا عودوا يا أحباب..
بكفينا طال الغياب
يللا نرجع على الدار..
نتذكر كيف كنا صغار..
نلعب على سطح البيت..
ونتخبى خلف الجدران”
هذا التقرير ضمن سلسلة تقارير مشتركة بين نون بوست وشبكة قدس الإخبارية