في رحلة ممتدة بين الغريزة والوعي، استخدم الإنسان على مرّ التأريخ البشري أشكالًا عدة من التوثيق، لتخليد الأحداث والتغيّرات والابتكارات لضمان بقاء الجنس البشري حاضرًا لملايين السنين. فسجّل تاريخه حفرًا على جدران الكهوف والحجارة والجلود، واستخدم اللغة المألوفة لنا اليوم بعد تطوّرها لنفس الغرض، ونظم الشعر وكتب النثر وتداول القصص المكتوبة من جيل لأخر أو اعتمد على النقل الشفوي المنظّم.
وبعد الثورة الصناعية التي جرت في القرن الثامن عشر تغيرت أشكال كتابة التاريخ وتدوينه، فدخلت الطابعة والآلة الكاتبة، ومع الثورة العلمية ودخول الحاسوب وشبكة الإنترنت تأثرت طرق الحفظ والنقل والتوثيق سريعًا، حتى أصبح فضاء الإنترنت، بمنصاته المختلفة، وسيلة سهلة وسريعة لتوثيق المعلومات التاريخية وحفظ البيانات. لكن سريعًا ما أثير جدل جدوى استخدام المنصات لتوثيق التاريخ وحفظ الأحداث، في ظل وجود البيانات في قبضة شركات كبرى خاضعة للأخطاء التقنية ولاعتبارات سياسية، قادرة على محو كل ما نريد حفظه.
دور المنصات بمحو الحقائق فترة الربيع
كانت البداية في الشرق الأوسط عند انطلاق ثورات الربيع العربي عام 2011 حين بدأ النشطاء بنقل وتوثيق الأحداث عبر المنصات الاجتماعية ومنصات الفيديو والمواقع المختلفة بسبب غياب المنصات الإعلامية أو تغييبها أو دورها المناهض للحراك الثوري ومساهمتها المقصودة بتشويه الواقع، لنكتشف فيما بعد وخلال الـ7 سنين الماضية أننا نشهد ظهور شكلٍ جديد من التأريخ. كميةً هائلة من الصور والفيديوهات التي التقطها أفراد مهتمين بنقل الحقيقة وتوثيقها في مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك ويوتيوب، ولكن ما لم يكن مأخوذًا بالحسبان بالنسبة لهم هو صلاحية هذه المنصات بحذف أرشيف المنشورات كاملًا، وتعليل ذلك باعتبارها “مخلة بشروط الاستخدام” أو “عنيفة”. وهذا ما حصل بالفعل.
فبإجراء عملية بحث بسيطة في يوتيوب سنجد مئات الفيديوهات التي تتضمن مشاهد قتل وتخريب وعنف، جزء منها واقعي، وآخر من مشاهد تلفزيونية درامية.
تقوم فكرة مسح بعض الفيديوهات والصور من قبل الشركة المالكة للمنصة على عدة أسباب: أولًا، إدعاء المنصة بأن هذه الخطوة هي جزء من عملية مسح المحتوى الذي يتضمن مشاهد عنف أو عنصرية أو يحرّض فئة على أخرى. يطبق هذا القانون برغم عدم توضيح المنصة لتعريف العنف أو المقصود به، وعدم توضيح سير عملية الفحص ومعاييرها والقائمين عليها، أي إذا ما كانوا بشرًا أو آلات، قد تنحاز وقد تصيب. فبإجراء عملية بحث بسيطة في يوتيوب سنجد مئات الفيديوهات التي تتضمن مشاهد قتل وتخريب وعنف، جزء منها واقعي، وآخر من مشاهد تلفزيونية درامية.
ثانيًا، تعرّض هذه المنصة للضغط من قِبل دول أو جهات معينة لمسح محتوى معين، وهو ما رأيناه في الحالة الفلسطينية، إذ تعاونت شركة فيسبوك مع الاحتلال الإسرائيلي بتعقب كل من ينشر صورًا لحركة حماس أو صورًا للمقاومة، وحذفها، وهو نتيجة لتعريف الاحتلال لهذه المشاهدة على أنها محتوى “إرهابي” يمس بأمن الدولة. برغم نفي فيسبوك إبرام اتفاق رسمي مع دولة الاحتلال، إلا أن حملة شرسة يشنها فيسبوك سنويًا على الصفحات الفلسطينية بينما يبقي آلاف المضامين العنصرية التي تنشرها صفحات إسرائيلية التي تحرّض على الفلسطينيين، والتي وفقاً لتقرير حديث، تنشر مضامين عنصرية مرة كل 77 ثانية.
أن عدم وجود وعي كافي للتحايل على هذه المنصات ونشر المحتوى بالشكل الذي يراعي قوانين المؤسسة واستخدام مصطلحات وصف معينة هو ما يعرضها للحذف.
في حديث حول الموضوع مع المدوّن الفلسطيني، والمختص في الشبكات الاجتماعية، ياسر عاشور، أفادنا أن “المنصات الاجتماعية المتواجدة حالياً، أيّ التي تسيطر على سوق منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك ويوتيوب، شروطها لا تراعي خصوصية دولة عن أخرى. مثلاً إذا أرادت منصة إعلامية تغطية الحرب أو المقاومة أو الثورة بالطبع سيكون فيها صور وفيديوهات (عنيفة) بينما ستقوم هذه المنصات بتصنيفها كقناة إرهابية”.
ويضيف عاشور، الذي قامت منصة يوتيوب بمسح قناته من على محركاتها، بأنه حاول استعادة ملفاته ولكن الشركة رفضت طلبه ثلاث مرات مشيرًا إلى أن هناك مسؤولية تقع أيضاً على عاتق المستخدم كما هي على المنصة، قائلاً بما معناه أن عدم وجود وعي كافي للتحايل على هذه المنصات ونشر المحتوى بالشكل الذي يراعي قوانين المؤسسة واستخدام مصطلحات وصف معينة هو ما يعرضها للحذف.
يثير هذا الحديث العديد من التساؤلات، من بينها، من هو المستفيد من عملية الحذف هذه؟ ما الذي سيضر شركة كبيرة مثل يوتيوب هدفها الأول هو جمع مشاهدات أكبر، لأسباب ربحية من نشر فيديو يتضمن مشاهد عنف أو قتل أو حرب، ومن هو المسؤول عن رقابة المحتوى؟ ومن يملكه؟ هل يوجد موظفون مختصون مهمتهم ملاحقة هذه المواد وحذفها أم هي برمجيات خاصة بهذا النوع من المهام؟
قام تامر تركماني، وهو باحث سوري في مجال توثيق أحداث الثورة السورية، بتوثيق ما يقارب نصف مليون فيديو مدعوم بمصادر ومراجع.
ليس لدينا حتى الآن إجابات حاسمة ولكن ما بات واضحاً جداً أن هذه المنصات لم تعد مواقع ترفيهية لمشاركة الصور والمقاطع مع الأصدقاء، بل أصبحت أشبه بمؤسسة دولية إلكترونية فيها ممّثلون عن الدول، تتواصل مع الحكومات وتؤثر في حياة الفرد الواقعية وتفرض عقوبات وسياسات خاصة بها كجهة مستقلة، كما تستخدم كدلائل قانونية لإدانة نشطاء وحبسهم، وبالنظر للحالة الفلسطينية والمصري نجد عشرات (أو ربما مئات) المعتقلين سنويًا بسبب منشورات ومقاطع فيديو.
الأرشفة الرقمية للثورات: تجارب بديلة
من أبرز ما قامت به منصة يوتيوب مؤخراً، ضمن عملية الحذف العشوائية هذه (أو المنظمة لأسباب مجهولة)، هو مسحها أكثر من 480 قناة تحتوي على فيديوهات وصور موثقة لعمليات القصف الروسية على المدن السورية، وصوراً للشهداء الذين وقعوا خلال الثورة السورية. ونتيجة وعي بعض الناشطين بهذا الإجراء قام تامر تركماني، وهو باحث سوري في مجال توثيق أحداث الثورة السورية، بتوثيق ما يقارب نصف مليون فيديو مدعوم بمصادر ومراجع.
نال إعلان تامر عن مشروعه الذي بدأه عام 2014 صدى واسعًا في مواقع التواصل الاجتماعي كما تم تعليق إحدى لوحاته التي تحتوي على صور الشهداء في واشنطن أمام البيت الأبيض مباشرة العام الماضي.
في حديث لـ “نون بوست”، أكد تامر أن من أهم ما يضعف الثقة في موقع مشهور عالمياً مثل يوتيوب، هو قيامه بتدمير مجهود سنوات لناشطين حقوقيين، عبر مسحه قنواتهم دون الرجوع إليهم أو الإشارة إلى الفيديو المسيء بتحذير مسبق. ويضيف: “إن أغلب الفيديوهات التي حُذِفت تحتوي على أدلة تؤكد قصف الجيش الروسي أو التحالف الدولي لمناطق مدنية في سوريا، كما أن هذا الحذف قائم على تبليغات عشوائية ومن حسابات وهمية تابعة للنظام السوري وغيره”.
أيضاً أقدمت الكثير من المواقع الإلكترونية والقنوات الفضائية المصرية المؤيدة لنظام حكم الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، على مسح فيديوهات توثق مختلف مراحل ثورة يناير عام 2011، ومن دون تقديم أيّ شروح ومبررات، بينما قد نفسّر هذا الفعل بإنه نتيجة لضغوطات أمنية يواجهها الإعلام المصري.
إن أهمية التوثيق الرقمي بطرق بديلة بعيدًا عن المنصات الكبرى، وتأريخ الأحداث من خلالها لا تقل أهمية عن كتابة التاريخ، بل هي جزء لا يتجزأ وشكل جديد من أشكال الكتابة والتدوين والأرشفة
أثارت هذه الخطوة غضب الكثير من الناشطين والحقوقيين المصريين المهتمين بتوثيق شهداء ثورة 25 يناير كونها ثورة الشعب على الدكتاتورية والاستبداد، فقام البعض بالتعبير عن رفضهم على مواقع التواصل الاجتماعي مثل المذيع يسري فودة الذي اشتهر بتقديمه برنامج “آخر كلام” على قناة “أون تي في”، إذ قال في منشور سابق على حسابه في فيسبوك “المشكلة أنهم تأخروا كثيرًا، الأرشيف في الحفظ والصون لدينا، و أيضًا لدى كثيرين غيرنا كما هو واضح من خلال محركات البحث”، في إشارة منه إلى مسح قناة “أو إن تي في” حلقات من برنامجه تطرّق فيها إلى أحداث ثورة يناير.
كما ذهب البعض الآخر إلى إنشاء موقع كامل يوثق ويسجّل كل أحداث الثورة المصرية بكل تفاصيلها ليكون أرشيفًا كاملًا ودعوةً لكل من يريد حماية التاريخ من الضياع، موقع 585 هو أرشيف ثوري مصري بجهود شبابية يهدف إلى توثيق ذكرى ثورة 25 يناير خوفًا من الضياع أو التحريف.
أثر المحو على تسجيل التاريخ
إن أهمية التوثيق الرقمي بطرق بديلة بعيدًا عن المنصات الكبرى، وتأريخ الأحداث من خلالها لا تقل أهمية عن كتابة التاريخ، بل هي جزء لا يتجزأ وشكل جديد من أشكال الكتابة والتدوين والأرشفة. توثيقٌ سيمثّل لاحقًا مصدرًا خصبًا لدراسة وتحليل تاريخنا الحاضر وثوراتنا المستمرة، كما يحد من تدخل الجهات الراغبة بتحريفه وردعهم بأدلة واضحة وصريحة.
وربما من أبرز ما يميز التوثيق الرقمي، أنه دليل لا يمكن نفيه، وذلك بسبب تضمنه صورًا متحركة وناطقة بالزمان والمكان كالفيديوهات، وأيضاً إمكانية الاحتفاظ به لعشرات السنين دون ضياع، باستخدام طرق الحفظ التكنولوجية الصلبة خارج فضاء الإنترنت. ويرى الكثير من المهتمين في مجال توثيق الأحداث وثورات الربيع العربي على وجه الخصوص، بأن حل مشكلة إعاقة المنصات لتوثيق المرحلة يكمن في إنشاء منصات بديلة تحفظ هذه الملفات بمراجع ومصادر موثوقة بهدف جعلها مادةً تاريخية.
لذا من المهم أن نستمر في عملية الحفظ والملاحقة هذه، وتقديم الدعم اللازم لبعضنا البعض كمهتمين وباحثين.
إضافة لذلك، ولمواجهة سياسات منصات التواصل بشأن التوثيق، أُسّست بعض المواقع والمشاريع في المؤسسات الحقوقية لرصد انتهاكات الحقوق الرقمية من قبل المنصات اتجاه الأفراد، بتوثيقها ومحاولة التواصل مع إدارة المنصات لاستعادة المواد أو للتراجع مع حذف الصفحات والقنوات. نذكر مثالًا على ذلك موقع صدى، وهو مبادرة شبابية فلسطينية انطلقت من الحاجة لإنصاف المحتوى الفلسطيني الذي يتعرض لانتهاكات عديدة من قبل الاحتلال الإسرائيلي. يسعى الموقع للتواصل مع إدارات المنصات في محاولة لحل الإشكاليات التي يواجهها محتوى معين،كما أنه يقدم مجموعة من النصائح والأفكار للمهتمين والعاملين في قطاع الإعلام الرقمي الفلسطيني لتطوير انتاجاتهم ولتعزيز المحتوى الفلسطيني.
إن امتلاكنا لكاميرات وأجهزة توثيق سريعة كالتي لدينا، يعطينا فرصةً لتوثيق رواية الضحية، ولحفظ تاريخنا من المنتصر الذي لا ينفك يبحث عن طريقة لتحريف التاريخ ومجرى الاحداث لما يصب في صالحه، لذا من المهم أن نستمر في عملية الحفظ والملاحقة هذه، وتقديم الدعم اللازم لبعضنا البعض كمهتمين وباحثين.