نشتكي يوميًا من الروتين ونشعر أنّه حمل ثقيل أو حاجزٌ يقف بيننا وبين إبداعنا أو نموّنا أو إضفاء تجارب جديدة إلى حياتنا نتعلّم منها ونكتشف من خلالها ذواتنا وأنفسنا. وعادةً ما يتمّ ربطه بالملل والرتابة والتكرار عديم المعنى أو الجدوى.
لكنّنا ننسى في كثيرٍ من الأحيان أنّ للروتين جانبًا جيّدًا يسمح لنا بتنظيم أوقاتنا وأيّامنا بشكلٍ فعّالٍ دون أنْ نغرق في كآبة التفكير بلا جدوى أفعالنا أو فوضوية أيّامنا أو أنْ نغرق في دوامة المهامّ والواجبات المتأخرة التي قد تقيّد أيدينا وتزيد من الضغط الواقع علينا وتقلّل من شعورنا بالرضا عن أنفسنا وما نقوم به.
تشير دراسة إلى أنّ الروتين يخلق جوًّا من الاستقرار والتنظيم وشعورًا بالتماسك والاستمرارية في الذات
وإنْ أردنا التكلّم بلغة الأبحاث، فقد وجدت إحداها أنّ وجود روتينٍ يوميّ فعّال يزيد من شعور الشخص بأنّ حياته ذات مغزى. يمكن تفسير ذلك بطريقتين: إمّا أنّ الروتين يخلق جوًّا من الاستقرار والتنظيم وشعورًا بالتماسك والاستمرارية في الذات وهو ما يسهّل من جعل الحياة مجدية. أو من المحتمل أنّ المشاركين في الدراسة يؤمنون أو يشعرون بجدوى الحياة ما يقودهم إلى ممارسة الروتين الفعّال.
الروتين طريقُ المبدعين والناجحين
لا عجب أنّنا نسمع كثيرًا من المبدعين والناجحين في مجالات الحياة المختلفة يقرّون ويأكدون على أنّ روتينهم اليوميّ كان عاملًا مهمًّا في طريق نجاحهم وإبداعهم. في عام 1932، وضع الأديب الأمريكي هنري ميلر لنفسه روتينًا صارمًا لمساعدته على الكتابة والإبداع، ثمّ كتب عنه كوصايا للكتابة.
يوصي ميلر في نصائحه أو وصاياه بالعمل على العمل بشيءٍ محدّد، وفقًا لبرنامجٍ محدّد لا وفقًا للمزاج أو النفسية، حتّى إتمامه والانتهاء منه، مع تأكيده على ضرورة التخلص من ذلك البرنامج إذا دعت الحاجة لهذا بشرط العودة إليه في اليوم التالي، تمامًا كما يؤكّد أيضًا على ضرورة إغناء الحياة اليومية بالنشاطات الأخرى كمقابلة الناس والذهاب للسينما وزيارة المتاحف والمكتبات أو الخروج للعمل في مقهىً أو شارعٍ ما، على أنْ تأتي هذه الأشياء لاحقًا للبرنامج الأساسيّ.
أما الروائي الياباني الشهير هاروكي موراكامي فكان قد صرّح في إحدى المقابلات الصحافية أنّه يتّبع روتينًا معيّنًا بدءًا من الاستيقاظ وحتى النوم مشيرًا إلى ضرورة الحفاظ على الروتين دون أيّ تغيير ومؤكّدًا على أهمّية التكرار الذي يساعد في الوصول إلى حالةٍ ذهنيةٍ أعمق، سواء في الكتابة أو في الأعمال الأخرى.
فيما يُروى عن نجيب محفوظ أنّه كان شخصًا روتينيًّا للغاية. وقد سُئل عن نظام حياته الصارم مرةً وعلاقته بإبداعه فقال أنّ الإبداع ليس مرتبطًا بنظامٍ أو روتين، فهو حالة داخلية. لكنْ ما يخضع للنظام هو العمل؛ فالفكرة تولد وتنمو ثمّ تتحوّل إلى عمل. ومن هنا، عمل محفوظ على خلق طقوسٍ محدّدة يُمضي من خلالها أيامه.
كيف يفسّر علم النفس الروتين؟
يُطلق مصطلح “الشحُّ المعرفي congnitive miser” في علم النفس على ميْل عقولنا إلى التعامل مع الأمور بطرقٍ بسيطة لا تتطلّب جهدًا كبيرًا أو طاقة أو وقتًا طويلًا في التفكير واتخاذ القرارات والبحث عن طرق لحلّ المشكلات بدلًا من التفكير العميق واللجوء إلى طرقٍ أكثر تعقيدًا وموائمةً للظروف المتغيّرة في حياتنا. بمعنى أنّ الدماغ يميل إلى القيام بالأمور بطريقةٍ تتطلب أقلّ جهدٍ عقليّ يمكن صرفه عليها.
يمكننا الاستناد إلى هذه النظرية لتفسير ميلنا في معظم الأيّام، إنْ لم يكن جميعها، لشرح الأسباب التي تجعل منّا كُسالى ومنساقين للروتين اليوميّ في أعمالنا ومهامّنا وسلوكيّاتنا دون أنْ نكلّف أنفسنا عناء القيام بأمورٍ وأشياء جديدة أو بطرقٍ مختلفة. فنحن ننهض في نفس الوقت كلّ صباح، ونأكل في وجبة الإفطار، وننطلق إلى مكان العمل نفسه بنفس وسيلة المواصلات، ونلتقي بنفس الزملاء ونشارك في نفس المهام، ونعود للبيتِ للقيام بما قمنا به البارحة تقريبًا، وهكذا.
يحرّرنا الروتين من القرارات الصغيرة التي يمكن أنْ توقف أداءنا أو تبطّئ عملنا أو تستهلك جزءًا من جهد أدمغتنا الذي قد نستخدمه لفعل شيءٍ آخر
في النهاية، تساعدنا هذه الطريقة التي يعمل بها الدماغ بشكلٍ روتينيّ في تخفيف عبء عمليّة اتخاذ القرارات المستمرّة والتي يمكن أنْ تتعدّى العشرات في كلّ يوم بشكلٍ قد لا تستطيع إحصاءه أو تتبّعه بشكلٍ سلس. ما يعني أنّ الروتين يحرّرنا من القرارات الصغيرة التي يمكن أنْ توقف أداءنا أو تبطّئ عملنا أو تستهلك جزءًا من جهد أدمغتنا الذي قد نستخدمه لفعل شيءٍ آخر.
ونظرًا للكنّ الهائل من المعلومات والبيانات التي تمرّ على أدمغتنا كلّ يوم، نجد أنفسنا ميّالين إلى اتّخاذ القرارات السريعة لما يجب علينا أن نفعله أو نقوم به دون أيّ تفكيرٍ عميق فيها. أمّا الطريقة الأفضل لذلك فهي الاعتماد على المعلومات أو الذكريات السابقة للسلوكيّات والتصرّفات المتوفّرة لدى الدماغ من التجارب السابقة التي مرّ بها.
أيْ أنّكَ لنْ تكون بحاجةٍ لاتخاذ قرارٍ مستمرٍّ فيما يجب عليكَ فعله كخطوةٍ ثانية. ستنهض من فراشك في الساعة السادسة صباحًا لتستحمّ وتنظّف أسنانك وتشرب فنجان قهوتك وتتناول فطورك الخفيف قبل خروجك من المنزل لأداء وظيفتك أو للقيام بالأمور التي عليك القيام بها والتي تستهلك جزءًا كبيرًا من طاقتك ووقتك. إذ يمكن للطقوس أو الإجراءات الروتينية أن توفّر هيكلًا منظّمًا وسريعًا ليومك.
كيف نتجنّب الجانب المظلم للروتين؟
قد يكون البخل المعرفيّ أو لجوء الدماغ للكسل والروتين أمرًا جيّدًا يساعد على إتمام المهامّ بشكلٍ سريع في بعض الأحيان. لكنّ هذا حتمًا لا ينفي جانبه المُظلم أو السلبيّ الذي يجعلنا محبوسين ومقيّدين لأنماط صارمة من التفكير والتصرفات التي نكاد نشعر أنْ لا مفرّ منها. وهذا بالضبط ما يعنيه علماء النفس بقولهم أنّ واحدًا من أوجه القصور في الدماغ هو ميله للكسل أو البُخل المعرفيّ في كثيرٍ من الأحيان.
من جهةٍ ثانية، قد يصبح الكثير من الروتين مملًّا للغاية وعديم المعنى في كثيرٍ من الأحيان. وحتى الروتين الجيد أو الصحي يمكنْ له أنْ يؤثّر سلبيّنًا علينا ويقوّضنا إذا لم نكسره ونعيد تشكيله من وقتٍ لآخر، فقد يجعلنا محصورين في أنماطٍ جامدة من التفكير. لذلك يسأل الكثيرون كيف يمكنهم حماية أنفسهم من فخّ الروتين.
قد تكون الطريقة الأفضل من خلال تحقيق توازنٍ بين كلٍّ من الروتين والتنوّع. وهو الأمر الذي قد يعتمد على كثيرٍ من العوامل سواء الشخصية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو أيّة عوامل خارجية أخرى. فالبعض منّا قد يميل للتمسّك بعاداته وروتينه في حين يرفضه البعض الآخر بجميع أنواعه.
في حال شعورنا كما لو أنّ الروتين مفروضٌ علينا بسبب الظروف الخارجية، فسنبقى في توقٍ دائم إلى الخروج منه والتحرّر من قبضته، سواء كنا قادرين على القيام بذلك أم لا
في واحدة من التجارب الكلاسيكية في علم النفس السلوكيّ، ُطلب من المشاركين التخطيط لاستهلاك الطعام للأسبوع التالي. بعضهم بحث عن التنوّع والاختلاف فيما مال آخرون إلى اختيار نفس الشيء كلّ يوم. لاحقًا، نظر الباحثون إلى المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية للمشاركين واكتشفوا أنّ الأشخاص الذين يشعرون بأنهم “عالقون اقتصاديًا” ويشعرون بانعدام السيطرة على حياتهم فإنهم غالبًا ما يميلون إلى مزيدٍ من التنوّع على حساب الروتين. يمكن تفسير ذلك أنّ البحث عن التنوّع الدائم قد يكون محاولة لتعويض عدم التحكم والقدرة على الاختيار في مكانٍ أو جانبٍ آخر.
من جانبٍ آخر، تخبرنا هذه التجربة أنّنا إذا شعرنا بالسيطرة على حياتنا فسنميل إلى اختيار روتيننا الفعّال بحرية. أمّا في حال شعورنا كما لو أنّه مفروضٌ علينا بسبب الظروف الخارجية، فعندها سنبقى في توقٍ دائم إلى الخروج منه والتحرّر من قبضته، سواء كنا قادرين على القيام بذلك أم لا.
هنا لنعود لنصائح هنري ميلر بضرورة الخروج عن الروتين في بعض الأحيان. فنحن بحاجةٍ دائمة لتحقيق مزيجٍ من الروتين والتنوّع. لذلك، قد نستطيع التخلّص من عبء الروتين وضغطه من خلال تحديد أيّ جوانبٍ من حياتنا نرغب في جعلها روتينيةً ومنظّمة، ثمّ التركيز على إتمامها والانتهاء منها حتى يتسنّى لنا بعدها تحقيق حياةٍ أكثر تنوّعًا وإثارةً للاهتمام.