ترجمة وتحرير نون بوست
تسرد رواية خالد خليفة بعنوان “الموت عمل شاق” أطوار رحلة طريق لا مثيل لها، ولا يعزى ذلك إلى المناظر الطبيعية التي وصفتها الرواية (الطرق السريعة القاتمة في سوريا التي مزقتها الحرب)، ولا إلى سبب هذه الرحلة (نقل جثمان الأب إلى قريته الأصلية لدفنها). لكن ما يجعل رواية “الموت عمل شاق” فريدة من نوعها هو أنها تبدو في الظاهر قصة حركة وتغيير، بيد أنها في الواقع قصة ركود.
في الحقيقة، لا يوجد تحوّل روحي يصاحب الرحلة المادية في هذه الرواية؛ فلن تعود الشخصيات إلى المنزل بعد أن تعلمت شيئًا ما، ولا حتى لُقنت درسًا عن خيبة الأمل. ولطالما كان خليفة مؤرخًا ثابتًا لتاريخ سوريا الصاخب. ومع أن رواياته تتجنب التركيز على المواقف السياسية لصالح الشخصية الرئيسية، إلا أنه مع ذلك لم يتوان عن الحديث بدقة عن كيفية رسم وتقييد الحياة اليومية للسوريين العاديين من قبل النظام الوحشي.
كان عمله تحت عنوان “مديح الكراهية” الصادر سنة 2006 يدور حول المعارك الضارية بين الحكومة السورية والإخوان المسلمين التي بلغت ذروتها في مذبحة حماة الوحشية سنة 1982، حيث حاصرت قوات النظام البلدة لمدة 27 يومًا. وقد حُظر الكتاب في سوريا بعد نشره، وكان لا بد من إعادة نشره في بيروت. ومع ذلك، أدرِج عمله في القائمة الدولية للرواية العربية. أما روايته الرابعة “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” الصادرة سنة 2013، فترصد تاريخ حلب تحت الحكم الطاغي لحزب البعث، وقد فازت بجائزة نجيب محفوظ للأدب خلال السنة ذاتها.
في الوقت الحالي، يعيش خالد خليفة في دمشق ولا يزال يكتب عنها، رُغم الحرب ورُغم الثمن الذي كان عليه دفعه بسبب شهرته، حيث تعرض سنة 2012 أثناء موكب جنازة للضرب على أيدي بلطجية النظام الذين تعمدوا كسر ذراعه.
ثلاثة أشقاء، جثة واحدة
يمكن وصف خيال خليفة على أنه نوع من السريالية الوثائقية، وذلك باستخدام عناصر واقعية لتهيئة جو غريب وعالم افتراضي من الاضطهاد. ولا يوجد مكان أكثر تعبيرا عن ذلك سوى روايته الخامسة “الموت عمل شاق”. ثلاثة أشقاء، بلبل وحسين وفاطمة، يستقلون حافلة صغيرة في دمشق بغية إعادة جثمان والدهم إلى قرية عنابية التي تقع بالقرب من حلب في أقصى الشمال، ليدفنوه بجوار أخته تلبية لرغبته.
توفي والدهم عبد اللطيف بشكل مفاجئ لأسباب طبيعية، على عكس الكثير من السوريين الآخرين الذين قتلوا خلال الصراع الدموي في سوريا. وفي هذا الصدد، يقول ابنه بلبل: “حتى جارته أم إلياس قتلت، على الرغم من أنها كانت في عقدها الثامن”. وخلال السنوات العشر الماضية، كان الأشقاء منفصلين عن بعضهم لا يجتمعون في المكان نفسه لأكثر من ساعة أو ساعتين. لقد أثبتوا جميعًا وهم في مرحلة البلوغ، بطريقة أو بأخرى، أنهم كانوا مخيبين للآمال في عيون والدهم الصارم.
في المقابل، اجتمع الأشقاء الثلاثة في حافلة حسين الصغيرة لدفن جثمان والدهم عبد اللطيف. وكان بلبل يأمل في أن يتمكنوا من رأب الصدع واغتنام هذه “الفرصة الحقيقية للحديث عما إذا كان بإمكانهم أن يكونوا عائلة من جديد”.
منظر سوريا من داخل حافلة صغيرة في دمشق بعد وقوع هجوم.
باتت الرحلات التي كانت فيما مضى تستغرق بضع ساعات تستغرق عدة أيام. وفي مطلع كل صباح جديد، تتلاشى ببطء توقعات وصولهم إلى عنابية بحلول منتصف الليل، حيث تعرضوا في طريقهم للغارات الجوية والقصف والاستجوابات والانتظار الطويل عند نقاط التفتيش فضلا عن رداءة حالة الطرقات. هذه هي سوريا التي تحولت آمالها المبكرة في اندلاع ثورة ناجحة إلى حرب أهلية متوحشة، حيث أن مجرد ارتكاب خطأ في اسم العائلة أو القرية الأصلية على بطاقة الهوية يعد سببًا كافيًا لنقل الشخص إلى الزنزانة أو اختفائه أو تعذيبه إلى حد الجنون.
عوضا عن الكلام، غرق الأشقاء في صمتهم وراحوا يقيّمون الماضي وما الذي أوصلهم بالضبط إلى هذه النقطة. هنا، على حافلة صغيرة في وسط أرض قاحلة وخالية بشكل مروع، في محاولة لتحقيق رغبة الأب الذي قطع الرجاء منهم، لم تعد شعائر وطقوس الموت تحمل أي معنى.
بيروقراطية الموت
تتمثل خدعة خليفة الذكية، من خلال الانتفاض على التّمشي المعتاد لروايات الرحلات، في أخذنا إلى المناظر الطبيعية للشخصية للتعرف على القوى التي فجرت المشهد الخارجي في شكله الحالي. إن سوريا التي سبقت الحرب لم تكن أقل كآبة أو صرامة من سوريا التي نراها تتكشف الآن خارج نوافذ الحافلة الصغيرة.
لقد اجتمع الإخوة وهم في حالة إرهاق، بعد أن اختنقت أحلامهم المختلفة منذ فترة طويلة بسبب ندرة الفرص المتاحة لهم. كان حسين الابن المفضل لوالده الذي كان “يحلم بقيادة إمبراطورية” ليجد نفسه مجرد عنصر في عصابة إجرامية صغيرة بل و”ليس لديه أمل في الصعود ليصبح عضوًا فيها” لأن الشرطة السرية نفسها في الجزء العلوي من السلسلة الجنائية.
التحق بلبل بالجامعة لدراسة الفلسفة متمنيا “فهم العالم”، لكنه سرعان ما اكتشف أن “أساتذته يحتقرون الفكر ويبيعون الدرجات ويجيبون على الامتحانات لأعلى مقدمي العروض”. ويعمل بلبل حاليا في معهد تخزين الأغذية والتبريد، حيث يسجل مدى نضارة البصل والطماطم.
يشوب الرحلة بأكملها العبء الخانق للحياة التي لا تطاق. كما كان للضغوطات التي واجهوها في الأيام الطويلة التي قضوها على الطريق تأثير ضار على الحالة العقلية للأشقاء بقدر تأثيرها على جثمان والدهم، الذي بدأ يتعفن وخرج منه النغف في النهاية.
دُمرت فاطمة، مثل والدتها وكثير من النساء الأخريات قبلها، بسبب زواجها دون حب ودخولها في علاقة لا تشبه الرومانسية التي كانت تحلم بها ذات يوم. أصبحت الآن تبلغ من العمر 40 عاما تقريبا، مثلها مثل كل أولئك الذين فقدوا فخرهم، “يروون قصصًا عن كل الأشياء البطولية التي لم تحدث في حياتهم والتي لم يعيشوها أبدًا”.
في البداية، سأل بلبل نفسه “ماذا يعني جسد والده؟” ماذا يعني أي شيء داخل حدود دولة قمعية وبيروقراطية. وقال له ضابط في إحدى نقاط التفتيش، “الحياة والموت ليسا سوى مسألة وثائق رسمية”. إذن، ماذا تعني الشجاعة أو الخوف أو الحب بين هذه القواعد السخيفة والسحق؟ يعود خليفة في روايته إلى هذه المواضيع مرارًا وتكرارًا، حيث يقدم عدة إجابات ممكنة. ولا يمكن للأشقاء تقديم شهادة وفاة لوالدهم موقعة من طبيب معتمد من قبل النظام. وتُظهر السجلات الرسمية أن عبد اللطيف ما زال مطلوبًا من قبل الدولة. فجثته المتعفنة ليست دليلًا كافيًا على وفاته، وبالنسبة للدولة البيروقراطية لا يوجد أي حقيقة إلا تلك التي وثقوها هم وأقروا بها.
لقد عاشت ليلى قصتها على الرغم من الجهود التي بذلتها عائلتها لمحوها. قد تتغير القصص هنا بمرور الوقت، وتُسرد بطرق جديدة، لكنها لن تموت مطلقًا
نرى الشجاعة في طرفي الطيف، الشجاعة التي تأتي من اليأس، من عدم وجود شيء نخسره. الشجاعة مستوحاة من الحب، حب البلاد، ومن خلال حب آخر. في المقابل، لا يوجد فرق ظاهريا. في هذه المرحلة من الرواية، ما إذا كان فعل الشجاعة ينشط بالأمل أو اليأس وليس بسبب المشاعر الجماعية أو القومية بل الحقائق الهادئة والخاصة التي تكمن في قلب كل شخص.
ندم رجل ميت
من بين كل شخصيات الرواية، كان عبد اللطيف هو الشخص الوحيد الذي تمكن من العثور على بعض السعادة، حيث تزوج من حبيبته القديمة قبل فترة وجيزة من وفاته؛ فالمرأة التي كان يحبها في شبابه لم يكن لديه الشجاعة للاقتراب منها عندما كانت حياتهما أمامهما. ومع ذلك، كانت هذه المرأة متاحة فقط وعلى استعداد للزواج منه لأنها فقدت كل شيء بما في ذلك زوجها وابنيها في الثورة.
توفي عبد اللطيف وهو يفكر في المرة الأولى التي يحب فيها ويؤمن بإخلاص. كما أخبر بلبل مرارًا وتكرارًا، متحدثا عن النجاح النهائي للثورة، بحقيقة أن “أطفال الثورة موجودون في كل مكان”. في مرحلة ما، ساعد الحب بلبل، الذي كان يخاف من كل شيء، في التخلي عن خوفه من السير في الشوارع بجانب حبه غير المشروط، وهو يهتف بتحد في وجه الجنود. لقد قيل لنا: “لقد شعر بفرحة شديدة لأن فرحة اللحظة التي دفن فيها خوفه كانت مثل هزة الجماع الأولى”.
لكن تفاؤل بلبل وشجاعته لم يدوما طويلًا، فقد نشأ في جيل غير مهتم بالفعل بحلم التحرر العربي الذي يبدو بالنسبة لأمثال عبد اللطيف أنه سيثمر أخيرًا بعد كل هذه العقود. في المقابل، لا يعني هذا أن عبد اللطيف توفي دون أن يشعر بالندم. إن طلب دفنه في عنابية هو محاولة لمصالحة أخته ليلى بعد وفاتها، التي فشل في الدفاع عنها وهو حي. وإذا كانت هناك شخصية ذات أبعاد رمزية وعميقة في رواية “الموت عمل شاق” فهي شخصية ليلى.
قتلت ليلى نفسها منذ سنوات حينما كانت في ريعان شبابها كي لا تعاني من الإهانة والإخضاع بزواجها من رجل لم تحبه. لكنه لم يكن انتحارًا خاصًا وهادئًا اختارته ليلى لنفسها. لقد صعدت إلى سطح المنزل بينما كان المحتفلون بالزفاف يتجمعون في الفناء بالأسفل للاحتفال، ثم سكبت على نفسها الكيروسين وأضرمت النار في نفسها.
كانت ليلى غارقة في الطريقة التي انتحر بها البائع المتجول التونسي، محمد البوعزيزي في أواخر سنة 2010، وهو عمل ينِمُ عن يأس شخصي واحتجاج سياسي تم تفسيره على نطاق واسع على أنه الشرارة السّردية للثورات التي اندلعت في العديد من البلدان العربية قبل أن تشتعل في نهاية المطاف في سوريا سنة 2011.
لم يكن انتحار ليلى عملًا يدل على مظاهر الاحتجاج السياسي. قبل أن تموت، أخبرت والدة بلبل بأنها “ستصبح شعلة ملتهبة، تحرق أسرتها وتضيء الطريق أمام نساء أخريات”. وبالتالي، إن انتحارها كان تضحية بالنفس ويعني، من خلال عنفه المذهل، التعبير عن الغضب الشخصي من الاضطهاد والانتقام من الظالم من خلال إثارة الذنب وإلهام أعمال التمرد الأخرى الكبيرة منها والصغيرة.
إن رؤية خليفة لسوريا تقترب شيئا فشيئا من الاختناق دون أي مسافة رومانسية من المنفى. وفي الحقيقة، لم يقدم خليفة أي إجابات مبتذلة في روايته “الموت عمل شاق”، الذي ترجم من العربية الباهتة بحذر إلى الإنجليزية من قبل “ليري برايس”.
نعود من جديد إلى وفاة ليلى وإلى الطريقة التي غطت بها عائلتها على الواقعة. [التآمر] وتلفيق قصص خيالية لتغطية الحقيقة. مما لا شك فيه، لا يغير انتحارها شيئًا، باستثناء الطريقة التي يتم بها تذكرها أو عدم تذكرها. إن لهيب تمرد وفاتها يتقد مثل الأمل في ثورة ناجحة.
هذا هو السبب في أن الاحتمال الصغير الذي يقدمه في ظل كآبة هذه الرواية يبدو جادًا وحقيقيًا، وهو احتمال أن خليفة سيبقى على قيد الحياة بمجرد الاستمرار في الكتابة. لأنه كما قيل لنا عن ليلى في النهاية “عاشت قصتها على الرغم من الجهود التي بذلتها عائلتها لمحوها. قد تتغير القصص هنا بمرور الوقت، وتُسرد بطرق جديدة، لكنها لن تموت مطلقًا”.
المصدر: ميدل إيست آي