التُقطت صورة مثيرة للجدل للرئيس الأمريكي المنتهية ولايته جو بايدن وهو يحمل كتابًا مناهضًا لـ”إسرائيل” أثناء خروجه من مكتبة في ولاية ماساتشوستس، اسمه “حرب المئة عام على فلسطين” للمؤرخ الأمريكي من أصل فلسطيني رشيد الخالدي، يتناول تاريخ الاستعمار الاستيطاني والمقاومة الفلسطينية من عام 1917 حتى 2017، ويصف تأسيس “إسرائيل” كعملية استعمارية، واللافت أن بايدن، الذي أعلن مرارًا دعمه لـ”إسرائيل”، مؤكدًا أنه “صهيوني“، ظهر في مشهد يثير التساؤلات حول موقفه الحقيقي من القضية الفلسطينية.
في سياق منفصل، تزامن إصدار رشيد الخالدي كتابه مع إطلاق إدارة ترامب “صفقة القرن” التي هدفت إلى تعزيز الهيمنة الإسرائيلية على الفلسطينيين، حيث تضمنت الخطة ضم 30% من الضفة الغربية، وحرمان اللاجئين من حق العودة، وتجريد الفلسطينيين داخل “إسرائيل” من الجنسية.
ورغم تفاخر جاريد كوشنر، صهر ترامب ومستشاره آنذاك، بقراءة 25 كتابًا عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني قبل إعداد “صفقة القرن”، إلا أنه من المشكوك فيه أن أيًّا من كتب الخالدي السابقة عن فلسطين وصلت إلى قائمة القراءة الضئيلة لكوشنر، ومع ذلك فإن خطة إدارة ترامب بمثابة ملحق وثيق الصلة بأطروحة كتاب الخالدي.
حرب الاستعمار الطويلة
يطرح الكتاب فكرة أساسية تتمثل في إعادة صياغة القضية الفلسطينية للرأي العام الغربي، وخاصة الأمريكي، باعتبارها حربًا مستمرة على الفلسطينيين منذ أكثر من قرن، ويُظهر الكتاب كيف أن هذه الحرب تهدف إلى فرض نظام استعماري استيطاني قاسٍ لإجبار الفلسطينيين على التخلي عن وطنهم لصالح اليهود.
ويهدف إلى تقديم الرواية الفلسطينية للصراع مع الاستيطان الصهيوني، وكسر الهيمنة الغربية على سردية الصراع، التي تميل إلى دعم الرواية الإسرائيلية، ويؤكد الخالدي أن الكتاب موجه بالأساس إلى القارئ الأمريكي العادي، الذي غالبًا ما يفتقر إلى معرفة دقيقة وشاملة عن القضية الفلسطينية وتاريخها الطويل.
ولذلك حرص الكاتب على تجاوز الإطار الأكاديمي الجافّ أو الإفراط في الصرامة العلمية، من خلال استدعاء ذكرياته الشخصية وروايات وتجارب بعض أفراد عائلته وعدة شخصيات أخرى، بالاستناد إلى أرشيف مكتبة العائلة وغيرها من مكتبات بعض العائلات المقدسية العريقة التي تمتد إلى نهايات القرن التاسع عشر.
يشارك الخالدي في هذا التاريخ باعتباره ناشطًا من نسل عائلة فلسطينية كانت فاعلة في مختلف مراحل القضية الفلسطينية، وعايشت بعض فصول الحرب المئوية على فلسطين، ويظهر هو وأفراد عائلته كشخصيات محورية في تاريخ الشعب الفلسطيني، بدءًا من منصب عمّه في اللجنة العربية العليا أثناء الانتداب البريطاني، ونفيه إلى جزيرة سيشل من قبل البريطانيين بسبب أنشطته السياسية، إلى منصب والده في الأمم المتحدة حيث شاهد التواطؤ الأمريكي مع “إسرائيل”، لتمكينها من الاستيلاء على المزيد من الأراضي قبل فرض وقف إطلاق النار لإنهاء حرب عام 1967.
كما يتضمن الكتاب المساعي البطولية التي بذلتها زوجته منى أثناء حملها، لمواصلة نشر الأخبار بصفتها محررة النشرة الإنجليزية لوكالة الأنباء الفلسطينية (وفا) أثناء غزو “إسرائيل” للبنان، وهذه القصص، التي استقاها من وثائق العائلة والمذكرات والتاريخ الشفوي والتجارب الشخصية الحية، هي التي تضفي الحيوية على التاريخ وتثريه.
ويبدأ المؤرخ والأكاديمي الفلسطيني سرده لهذه الحرب برسالة أرسلها جدّه الأكبر، ورئيس بلدية القدس يوسف ضياء الخالدي، إلى زعيم الحركة الصهيونية الناشئة آنذاك ثيودور هرتزل في عام 1899، بعد أن أثار الحديث عن فلسطين كأرض لليهود انزعاجه، وممّا جاء في الرسالة أن “البلاد تضم شعبًا أصليًا لن يقبل بسهولة تهجيره”، وأنهى رسالته بقوله: “دعوا فلسطين وشأنها”.
وينقسم الكتاب إلى 6 فصول، يتناول كل واحد منها حربًا أُعلنت على فلسطين خلال القرن الماضي، وتشكّل كل واحدة منها، بنظر الكاتب، نقطة تحول في الصراع حول فلسطين، كما تسلط الضوء على الطبيعة الاستعمارية لحرب المئة عام على فلسطين، والدور الأساسي الذي لعبته القوى الخارجية في شنّ هذه الحروب.
تبدأ إعلانات الحروب الستة ضد الشعب الفلسطيني بوعد بلفور عام 1917 الذي حدد مصير فلسطين، والانتداب البريطاني الذي تلاه، وخطة التقسيم التي وضعتها الأمم المتحدة عام 1947 ودورها في تصاعد التطهير العرقي، وحرب النكبة عام 1948، وقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 242 لعام 1967، وحرب “إسرائيل” العقابية على لبنان عام 1982، والانتفاضة الأولى التي أعقبتها اتفاقية أوسلو للسلام عام 1993.
وفي القرن الحادي والعشرين، يمرّ الكتاب بزيارة أرييل شارون وأعضاء من حزب الليكود للمسجد الأقصى عام 2000، ومحاولة “إسرائيل” اغتيال الشعب الفلسطيني سياسيًا، مستعيرًا المصطلح الذي ابتكره عالم الاجتماع الإسرائيلي الراحل باروخ كيمرلينغ، في كتاب أصدره عام 2003 بعنوان “إبادة سياسية: حروب أرييل شارون ضد الشعب الفلسطيني”، وصولًا إلى حصار “إسرائيل” لغزة وحروبها المتكررة على سكان القطاع.
القوى المصطفّة ضد الفلسطينيين
يرى الخالدي أن القضية الفلسطينية ليست مجرد نزاع بين طرفين متساويين، بل استعمار استيطاني بدأ منذ أكثر من قرن، ويناقش بعمق الدور الذي قامت به القوى العظمى في تمكين المشروع الصهيوني، ودعم قيام دولة “إسرائيل” على حساب الشعب الفلسطيني.
كما يوضح كيف ساهمت بريطانيا في تثبيت المشروع الصهيوني على أرض فلسطين، حيث استفادت الحركة الصهيونية من المساندة البريطانية والإمبريالية الأوروبية لقمع المقاومة الفلسطينية. ويؤكد أن هذا الصراع ليس فقط محليًا بل نتاج سياسات استعمارية أوروبية مكّنت المشروع الصهيوني من الهيمنة على مدى 100 عام.
وكان أول ما عرفه الفلسطينيون عن سياسة بريطانيا نحوهم، هو وعد وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفور في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917 بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، تبعه فرض الانتداب على فلسطين، وفي سبيل ذلك سهّلت هجرة عشرات الآلاف من اليهود حول العالم نحو فلسطين من أجل تغيير التركيبة السكانية للبلاد وتمكين الصهاينة من إدارة البلاد، متجاهلة مطالب الشعب الفلسطيني بالاستقلال وإيقاف حركة الهجرة.
نتيجة لتلك الإجراءات، أصبح اليهود يشكلون نسبة 30% من سكان فلسطين عام 1939، بعد أن كانوا لا يشكلون أكثر من 6% فقط مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وعندما انتفض الشعب الفلسطيني عام 1936 اعتراضًا على تلك السياسات، قمعت بريطانيا الانتفاضة بمنتهى الوحشية، فأعدمت الثوار دون محاكمة، ونفت عددًا كبيرًا منهم خارج البلاد.
في الفصلين الثاني والثالث من كتابه، يستعرض الخالدي الأسباب التي أدّت إلى نكبة فلسطين، وفي مقدمتها الدعم الدولي للصهيونية، ففي حين افتقرت القيادات الفلسطينية إلى الخبرة والدعم المالي والعسكري والسياسي، كانت الوكالة اليهودية في فلسطين تتلقى تبرعات تقدَّر بملايين الدولارات سنويًا من اليهود حول العالم ومختلف المؤسسات الأوروبية الرسمية وغير الرسمية، حتى تتمكن من احتلال جزء كبير من أرض فلسطين.
كما يسلّط الخالدي الضوء على تأثير تعدد ولاءات الزعماء العرب في النكبة، مشيرًا إلى نفوذ المستشارين الأجانب في مكاتبهم، كما في حالة مصطفى النحاس الذي رفض تمثيل فلسطين في جامعة الدول العربية استجابةً لمطالب بريطانيا، ويُظهِر أيضًا التنافس بين الزعامات العربية، مثل السعودية ومصر، بالإضافة إلى دعم الولايات المتحدة للمشروع الصهيوني، خاصة مع السماح بهجرة 100 ألف يهودي إلى فلسطين في الأربعينيات، مما قوّى القوة العسكرية الصهيونية.
ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939، حاولت بريطانيا تهدئة الأوضاع في فلسطين، فأصدرت قرارًا بفرض قيود على الهجرة اليهودية لفلسطين، لكنها بدأت تضعف أثناء الحرب لصالح الولايات المتحدة التي تبنّت الحركة الصهيونية، ومهّدت لإعلان الحرب على فلسطين، وترك أمر فلسطين للأمم المتحدة بقيادة أمريكا والاتحاد السوفيتي، فصدر قرارها رقم 181 القاضي بتقسيم فلسطين في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947.
ومنذ تلك اللحظة، سيطرت العصابات الصهيونية على يافا وحيفا وأجزاء من القدس الغربية، وطردت منها أهلها، وارتكبت مذبحة دير ياسين التي لم تكن الأولى وليست الأخيرة لكنها الأكثر ذيوعًا، وراح ضحيتها 100 شخص أغلبهم من النساء والأطفال.
ولادة المقاومة من رحم هزائم العرب
في منتصف مايو/ أيار 1948 تمّ إعلان دولة “إسرائيل”، ما أدّى إلى تجمع الجيوش العربية نتيجة الضغوط الشعبية والدخول في حرب مع “إسرائيل”، لكنها انهزمت لأسباب يرجعها الخالدي إلى ضعف العتاد العسكري وتواطؤ بعضهم مع الصهاينة، ونتيجة لذلك تهجر عشرات آلاف الفلسطينيين الذين نزحوا إلى الدول المجاورة في سوريا ولبنان والأردن، ولم يُسمح لهم بالعودة.
نتيجة لتلك النكبة توحّشت “إسرائيل”، ولم يتوقف عدوانها عند حدود فلسطين وحدها، وراحت تحتل أراضي الدول العربية الأخرى برعاية أمريكية، واعتدت على مصر مع بريطانيا وفرنسا عام 1956، واحتلت سيناء، لكنها تراجعت عنها بعد ضغط أمريكا والاتحاد السوفيتي.
بعد ذلك، استغلت الصراع بين مصر والسعودية والحرب الباردة الدائرة بينهما في اليمن عام 1962، فاتّفقت مع الولايات المتحدة ثم شنّت هجوم على عدد من الدول العربية في 5 يونيو/ حزيران عام 1967، حيث احتلت سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية ومرتفعات الجولان السورية.
يستطرد الخالدي في الحديث عن الدور الأمريكي الداعم لـ”إسرائيل”، فقد تدخلت واشنطن لإصدار مجلس الأمن الدولي قراره رقم 242، الذي جعل انسحاب “إسرائيل” من أراضي العرب التي احتلتها بعد عام 1967 مشروطًا باتفاقيات سلام مع العرب، تضمن لـ”إسرائيل” حدودها ما قبل هذا العام.
وهكذا تحول الصراع إلى عربي إسرائيلي، واختفت كلمة فلسطين وحقوقها من الأحاديث والمباحثات والمفاوضات، ونتيجة لذلك نمت روح الهوية الفلسطينية من خلال عدد من المثقفين والأدباء الفلسطينيين أمثال محمود درويش وغسان كنفاني اللذين صاغت أعمالهما الأدبية وكتابتهما معاناة الشعب الفلسطيني تحت وطأة المحتل.
مع تسارُع الأحداث، يركّز الكتاب على نشأة المقاومة الفلسطينية بدءًا من الانتفاضات الشعبية إلى محاولات الاستقلال السياسي رغم كل التحديات، ويرسم الخالدي لمحة عامة ليس فقط عن نظام الفصل العنصري الذي أقامته الحركة الصهيونية و”إسرائيل” على الشعب الفلسطيني، بل أيضًا عن مقاومتهم العنيدة لهذا النظام.
بعد النكبة لم يهدأ الفلسطينيون، إنما حاولوا تنظيم أنفسهم في حركات وتيارات سياسية وعسكرية تسعى إلى إبراز صوتهم في الصراع مع المحتل، فظهرت خلال الستينيات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كامتداد للوجود الفلسطيني في منظمة القوميين العرب، وقبل ذلك تأسست حركة فتح، وهي أكبر الفصائل الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات.
وانخرط هذان التياران وغيرهما في منظمة التحرير الفلسطينية بعد هزيمة يونيو/ حزيران 1967، وقد نالت تلك المنظمة اعترافًا دبلوماسيًا كبيرًا في الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، ما زاد من حدّة صراعها مع “إسرائيل” التي سعت إلى استهداف قادة المنظمة.
كما يسلط الكتاب الضوء على سياسات “إسرائيل” التمييزية تجاه الفلسطينيين، فبحلول عام 1976 ازدادت شدة الاغتراب، حيث تمثلت بقمع أي تعبير وطني، مثل رفع العلم الفلسطيني، أو تنظيم اتحادات مهنية، أو التعبير عن دعم منظمة التحرير الفلسطينية، أو أي منظمة مقاومة غيرها، وعوقب كل من تجرأ على اختراق هذه القيود بغرامات مالية أو بالضرب أو بالسجن.
ترافق الاعتقال والسجن عادةً بتعذيب المحتجزين، وربما أدّى الاعتراض على الاحتلال علنًا أو كتابةً إلى عقوبات مماثلة، بل ربما أدّى إلى الترحيل، أما المقاومة المسلحة فقد كانت تؤدي إلى عقوبات جماعية وهدم البيوت بالسجن دون محاكمة، تحت عنوان “الاعتقال الإداري” الذي قد يمتد لسنوات وربما الإعدام دون محاكمة.
إضافة إلى ذلك، روّجت “إسرائيل” أمام الرأي العام الغربي أن المقاومة الفلسطينية عبارة عن مجموعة من الإرهابيين، ثم هاجمت مقرات منظمة التحرير في سوريا ولبنان خلال السبعينيات، وعملت أمريكا من جهة أخرى على إخراج مصر من الصراع بأن أدخلتها في مفاوضات سلام منفردة مع “إسرائيل”، ولم تمنحها خيار التفاوض لمنظمة التحرير نتيجةً لضغط اللوبي الصهيوني في أمريكا.
وفي عام 1982، قصفت “إسرائيل” العاصمة اللبنانية بيروت التي اجتاحتها القوات الإسرائيلية، وفرضت عليها حصارًا امتد لـ 7 أسابيع بهدف محاصرة وطرد الفدائيين الفلسطينيين وقادة منظمة التحرير، ونتج عن ذلك مقتل 19 ألف فلسطيني ولبناني و30 ألف جريح، وتدمير كامل لمخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين الأكبر في لبنان، فضلًا عن دمار كبير لبيروت وعدد من مدن الجنوب اللبناني.
آنذاك، لم يجد قادة منظمة التحرير إلا الموافقة على الخروج من لبنان، خاصة بعد غياب الدعم العربي لهم، وانحياز أمريكا الصريح لـ”إسرائيل”، ما تسبب بتعاطف قطاع كبير من الرأي العام الغربي مع الفلسطينيين، بعد مشاهدة المذابح المروعة التي ارتكبتها قوات الاحتلال بحق المدنيين ونقلتها وسائل الإعلام العالمية، كما زالت الرواية المغلوطة التي روجت لها “إسرائيل” عن الشعب الفلسطيني والمقاومة باعتبارهم “جماعات إرهابية”.
يتبنى الخالدي أيديولوجية مختلفة تمامًا عن الرواية التي تروج لها أمريكا وبريطانيا عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ويرى أن هذه المقاومة استراتيجية وفعالة، فالثورة اللامركزية ضد الانتداب البريطاني من عام 1936 إلى عام 1939، وإعادة تأكيد منظمة التحرير الفلسطينية على الأجندة الجيوسياسية في الستينيات بعد أن كادت أن تنسى في أعقاب النكبة، والانتفاضة الأولى غير العنيفة في أواخر الثمانينيات، كلها أمثلة على ديناميكية الشعب الفلسطيني في رفض الاستسلام لخطط تهجيره.
السقوط في فخّ المؤامرات الدبلوماسية
يرفض الخالدي السياسة الهادئة التي انتهجها وجهاء فلسطين خلال أغلب فترة الانتداب البريطاني، فمن أجل الحصول على الاعتراف الرسمي من جانب سلطات الانتداب والدفاع عن حقهم في تقرير المصير، كان لزامًا على الهيئات التمثيلية الفلسطينية أن تقبل بنود الانتداب كشرط مسبق، وهو ما كان ينفي الحقوق الوطنية ذاتها للسكان الأصليين.
ومن عجيب المفارقات أن منظمة التحرير الفلسطينية وقعت في فخّ مماثل بعد عقود، عندما اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى بشكل عفوي تحت القيادة الوطنية الموحدة لمنظمة التحرير في ديسمبر/ كانون الأول 1987، فقابلتها سلطات الاحتلال بقمع عنيف أمام أعين الرأي العام العالمي، لذلك كان الخالدي لاذعًا في تقييمه لبعض عمليات صنع القرار الفلسطينية، التي قلّلت من احتمالات نجاح مقاومة حركة استعمارية استيطانية منظمة واستراتيجية، مدعومة من القوى الدولية والإمبريالية التي وُجّهت ضدهم.
ينتقد الخالدي أيضًا عدم استغلال قادة منظمة التحرير تلك الانتفاضة لصالح الشعب الفلسطيني، فقد وافقوا على التفاوض مع “إسرائيل” برعاية أمريكية، ما جعلهم يفقدون دعم الاتحاد السوفيتي، ودعم دول الخليج كذلك بعد أن وقفوا على الحياد، ولم يدينوا الغزو العراقي للكويت مطلع التسعينيات.
وخلال المفاوضات أصرّت “إسرائيل” على تجاهل القضايا الرئيسية، مثل إنهاء الاحتلال وقضية اللاجئين وحق تقرير المصير وحق العودة، واكتفت بحكم ذاتي للفلسطينيين دون السيطرة على الماء أو الأرض أو الحدود.
أدت تلك المفاوضات إلى توقيع اتفاقيات أوسلو، وهي سلسلة من الاتفاقيات غير المتوازنة مع “إسرائيل”، نتج عنها فرض المزيد من القيود على الشعب الفلسطيني، إذ نصّت بنودها على تعاون منظمة التحرير مع الجانب الإسرائيلي في إدارة الأمن في المناطق الفلسطينية المحتلة، وأشار الخالدي إلى ذلك على نحو ملائم بوصفها “قفصًا مذهبًا”.
بعد ذلك، عاد الكثير من قيادات منظمة التحرير إلى فلسطين، وتحققت للفلسطينيين سيطرة محدودة على مناطق لا تمثل أهمية في القدس والضفة الغربية وغزة، في حين سيطرت “إسرائيل” على منافذ تلك المدن، وأقامت العديد من المستوطنات، كما شدّدت وضيّقت على إجراءات التنقل بين المدن الفلسطينية.
وبذلك تحولت منظمة التحرير من مقاوم للاحتلال إلى شريك في تأمينه، وذلك بموجب الاتفاق الأمني بين الطرفين، الأمر الذي زاد من معاناة الفلسطينيين بشكل يفوق ما كان عليه الوضع قبل اتفاق أوسلو وعودة منظمة التحرير إلى فلسطين.
في هذا السياق، يتمتع الخالدي بمكانة تسمح له بتقديم هذه الحجة ليس فقط باعتباره مؤرخًا بارزًا، بل أيضًا باعتباره مشاركًا في المفاوضات التي سبقت اتفاقيات أوسلو، ففي مؤتمر مدريد الذي عُقد بعد حرب الخليج والمفاوضات الثنائية التي تلته في واشنطن، كان الخالدي في البداية مستشارًا للوفد الفلسطيني، ثم مفاوضًا له.
يروي المؤرخ الفلسطيني تفاصيل جرت خلف الكواليس للمفاوضات، والتي تضمنت مقترحات من فريق التفاوض الفلسطيني كان من الممكن أن تتجنب فخّ أوسلو والاحتلال الدائم، ففي إعادة سرده للأحداث، يكلف الخالدي بإطلاع فريق “عملية السلام” الأمريكي على اختراق في التنسيق الأمني، والذي لم يصدقه هو والأمريكيون في البداية، لكن ياسر عرفات هو الذي صدق على هذا الاختراق، وذلك بفضل القنوات السرّية التي أقامها رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إسحاق رابين معه بشأن التنسيق الأمني، والتي سهّلت بدورها القناة الخلفية لأوسلو.
لهذه الأسباب، ينتقد الخالدي منظمة التحرير الفلسطينية بشدة بسبب هذه الصفقة “الغريبة”، حيث حصلت حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) على اعتراف اسمي من مضطهديها، دون تحقيق التحرير، من خلال مقايضة اعترافها بالدولة التي استعمرتها واحتلت أراضيها، وكان هذا -بحسب الخالدي- “خطًأ تاريخيًا مدويًا” ترتب عنه مزيد من المستوطنات، وتضييق على الفلسطينيين، وتردي الخدمات، وانخفاض دخل الفرد، وعزل المدن الفلسطينية عن بعضها، وحصار غزة.
كل هذا أدّى إلى انتفاضة الشعب الفلسطيني مرة أخرى في سبتمبر/ أيلول 2000، حيث لجأ الفلسطينيون إلى الكفاح المسلح مرة أخرى للفت نظر الرأي العام العالمي الذي أعمى عينيه بريق أوسلو، فلم يعد يرى حجم الإرهاب الإسرائيلي بحقّ الفلسطينيين، لكن الخالدي يرفض أيضًا الهجمات التي شنّتها كل الفصائل الفلسطينية ضد الإسرائيليين خلال هذه الانتفاضة، التي أثبتت -حسب رأيه- أن عملية السلام لم تؤدِّ إلى حل الصراع بل فاقمته.
ويرى المؤلف أن قادة حركات المقاومة الفلسطينية لم يكونوا على قدر المسؤولية، ما جعلهم ضعفاء في مواجهة عدوهم المدعوم من القوى العظمى في العالم، ومستوى التجاهل والإبعاد الذي كثيرًا ما تعرضوا له، لكن هذا لا يعني أنهم في بعض الأحيان تمكنوا من تحدي هذه الصعاب بنجاح، أو لم يكن بإمكانهم في أحيان أخرى اتخاذ خيارات أفضل.
وفيما يتعلق بالسياسة الأمريكية التاريخية والأكثر حداثة تجاه “إسرائيل”، فإن عمل الخالدي أكثر لذعًا، حيث يستهدف الكتاب وسائل الإعلام الأمريكية بسبب تحيزها تجاه “إسرائيل” وتصويرها للنضال الفلسطيني، كما يصف الرئيس الأمريكي المنتخب مؤخرًا لولاية ثانية دونالد ترامب بأنه “ناطق بلسان إسرائيل”.
يختتم الخالدي الكتاب بتحليل سياسات إدارة ترامب، ففي عام 2017 اعترف بالقدس كعاصمة أبدية لـ”إسرائيل”، وأقرَّ بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، واعترف بضمّ “إسرائيل” الجولان، وتزامن ذلك مع مرور 100 عام على “وعد بلفور” الذي يُعتبر الإعلان الأول لحرب المئة عام على فلسطين وشعبها.
ويجادل المؤرخ الفلسطيني بشكل مقنع بأن “الفلسطينيين يجب أن يعاملوا الولايات المتحدة باعتبارها امتدادًا لـ”إسرائيل” لغرض المفاوضات، وباعتبارها قوة عظمى، فمن الضروري أن تكون ممثلة في أي محادثات، لكن يجب اعتبارها طرفًا معاديًا، حتى لو جلست مع “إسرائيل” على الجانب الآخر من الطاولة، وهو ما يمثل موقفها الحقيقي على الأقل منذ عام 1967″.
في النهاية، لم يتضح ما إذا كان بايدن اشترى الكتاب أم أنه أُعطي له أثناء تواجده في أحد المتاجر وفقًا لما نشرته صحيفة “نيويورك بوست“، وبالتالي لا يُعرف ما إذا كان يريد إيصال رسالة ما، لكن في كل الحالات، فإن عزم بايدن على قراءة الكتاب جاء “متأخرًا 4 سنوات” كما قال الخالدي معلقًا على الصورة، في إشارة إلى مغادرة الرئيس البيت الأبيض بعد انتهاء ولايته التي شهدت أعنف حرب إسرائيلية على قطاع غزة بدعم أمريكي غير محدود.