ترجمة وتحرير نون بوست
خلال السنة الماضية، شاركت في نقاش حول كتاب بعنوان “الاستخدام البشري للكائن البشري” لعالم الرياضيات الأمريكي نوربرت فاينر، الذي تحدّث فيه عن نظرية السِبرانية. ومن هذا المنطلق، ظهرت لدي فكرة ما أعتبره اليوم بيانًا ضد حركة التفرّد المتزايدة، التي تفترض أن ما يعرف بالذكاء الاصطناعي سيُلغي وجود الإنسان ويحل محله في نهاية المطاف.
إن مفهوم التفرد، الذي يفيد بأن الذكاء الاصطناعي بنموّه المتسارع سيتفوّق على البشر ويجرّد كل المهام البشرية من قيمتها، يعتبر بمثابة الديانة التي ساهم في ظهورها أشخاص اكتشفوا ونشروا عملية بحوسبة ساعدت على حل مشكلات كانت تعتبر في السابق معقّدة عجزت الآلات عن حلّها. لقد اكتشف العلماء شريكا مثاليا في مجال الحوسبة الرقمية ونظامًا فكريًا قابلا للتحكّم قائمًا على الآلات، ما يعزّز قدرته على تحليل ومعالجة التعقيد. وتساهم هذه العملية في خلق ثروة ومنح السلطة في يدي من يتقن هذا النظام.
في منطقة وادي السيليكون، ساهم الدمج بين التفكير الجماعي والنجاح المالي لهذه النظرية التكنولوجية في ظهور حلقة من الارتجاع التي تفتقر إلى التنظيم الذاتي. وفي منحنى الجرس، تبدو بداية المنحدر مشابهة للمنحنى الأسي. ومع ذلك، يعتقد الأشخاص الذين يتبنون نظرية ديناميات النظام بأن المنحنى الأسي يعكس منحنى ارتجاع إيجابي ولا متناهي وخطير، ويتميّز بالقدرة على التعزيز الذاتي.
يرى مؤيدو مبدأ التفرّد أن المنحنيات الأسية فائقة الذكاء ومتوفرة بشدة، بينما يعتقد معظم الأشخاص المناهضين لهذا المبدأ أن الأنظمة الطبيعية تضاهي هذه المنحنيات، حيث تستجيب بسرعة وتنظم نفسها بنفسها. فعلى سبيل المثال، عندما تأخذ الآفة مجراها، تتباطأ عملية انتشارها ويبلغ العالم حالة جديدة من التوازن. وفي هذه الحالة، قد لا يبقى العالم على الحالة ذاتها قبل ظهور الآفة أو غيرها من التغيرات السريعة، إلا أن فكرة التفرد برمتها تعتبر بالأساس معيبة. ولا يعتبر هذا النوع من التفكير الاختزالي وليد اللحظة، فحين اكتشف عالم النفس بورهوس فريدريك سكينر مبدأ التعزيز وتمكن من وصفه، قمنا بتصميم التعليم استنادا إلى نظرياته.
من الجلي أن معظم مشاكلنا على غرار تغير المناخ أو الفقر أو الأمراض المزمنة أو ظاهرة الإرهاب الحديث ناجمة في واقع الأمر عن سعينا لتحقيق حلم التفرّد والنمو الهائل
مع ذلك، يدرك العلماء الذين هم بصدد دراسة التعلم حاليا المناهج المتعلقة بالسلوك، على غرار دراسة سكينر الوحيدة لمجموعة محدودة من أنواع التعلم. في المقابل، تواصل العديد من المدارس الاعتماد على التدريب والممارسة وغيرها من الأساليب التي تدعم مبدأ التعزيز. ونذكر مجال تحسين النسل، الذي بسّط بشكل خاطئ ومبالغ فيه دور علم الوراثة في المجتمع. وقد ساهمت هذه الحركة في تغذية الإبادة الجماعية التي تسبّب فيها النظام النازي من خلال اقتراح وجهة نظر علمية اختزالية مفادها أنه بإمكاننا “إصلاح البشرية” عن طريق دفع عملية الاصطفاء الطبيعي يدويًا. وتتواصل انعكاسات هذه الفكرة المرعبة إلى اليوم، مما يجعل من المحظور تقريبًا القيام بأي بحث يربط علم الوراثة بالذكاء.
في حين أن أحد المحركات الرئيسية للعلوم يتمثل في شرح المفاهيم المعقّدة بكل سلاسة وتعزيز قدرتنا على الفهم، فإنه لا يجب أن نتغاضى عن وجهة نظر ألبرت أينشتاين حين قال: “يجب أن يكون كل شيء بسيطًا قدر الإمكان، ولكن ليس أكثر بساطة من ذلك”. بعبارة أخرى، ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار غياب كل من المعرفة وقابلية الاختزال داخل العالم الحقيقي الذي يشعر فيه الفنانون وعلماء الأحياء وأولئك الذين يعملون في عالم فوضوي من الفنون المتحررة والعلوم الإنسانية، بالراحة.
في الوقت الحالي، من الجلي أن معظم مشاكلنا على غرار تغير المناخ أو الفقر أو الأمراض المزمنة أو ظاهرة الإرهاب الحديث ناجمة في واقع الأمر عن سعينا لتحقيق حلم التفرّد والنمو الهائل. وتتّسم هذه المشاكل بالتعقيد الشديد نتيجة الأساليب المستخدمة في حل المشاكل السابقة، من قبيل الإفراط في الضغط من أجل تعزيز الإنتاجية أو ممارسة السيطرة على الأنظمة التي أصبحت معقدة للغاية، لتعذّر التحكم فيها.
في سبيل تحقيق الاستجابة الفعالة للتحديات العلمية الهامة في عصرنا، أعتقد أنه يجدر بنا أن نبدي شيئا من الاحترام إزاء العديد من الأنظمة المترابطة والمعقدة وذاتية التكيف من خلال اتباع مختلف المقاييس والأبعاد التي لا يمكن أن تكون معروفة بشكل كلي أو منفصلة عن كل من المراقب والمصمم.
بدلاً من التفكير في الذكاء الاصطناعي باعتباره مفهومًا يتعارض مع البشر، فإنه يجب أن نعتبره نظامًا يدمج البشر والآلات معا
من جهة أخرى، نعتبر جميعًا مشاركين في أنظمة تطورية متعددة الأوجه وذات مقاييس مختلفة انطلاقا من الميكروبات وصولا إلى هوياتنا الفردية والمجتمع الذي نعيش فيه والفصائل التي ننتمي إليها. ويعد الأفراد أنفسهم عبارة عن أنظمة تتكون من أنظمة تتكوّن بدورها من أنظمة أخرى، تماما مثل تلك الخلايا التي تلعب دور مصمّم النظام داخل أجسامنا. وحسب ما نشره كيفن سلافين في مقال بعنوان “التصميم كمشاركة” لسنة 2016: “أنت لست عالقًا في حركة المرور، فأنت حركة المرور نفسها”.
يتمثّل الدافع وراء التطور البيولوجي أو التطوّر الوراثي للفصائل الفردية في التكاثر والبقاء على قيد الحياة ما يرسّخ فينا الرغبة والتطلّع للإنجاب والنمو. ويواصل هذا النظام التطوّر لينظم عملية النمو، ويعزّز عملية التنوع والتعقيد، ويحسّن من مرونته وقدرته على التكيف والاستمرار. ويمكن أن نسميها “تصميم المشاركين” أي تصميم الأنظمة حسب المشاركين من جهة ومن قبلهم من جهة ثانية؛ الأمر الذي يعتبر أقرب إلى تعزيز وظيفة الازدهار، الذي يمثل مقياسًا للنشاط والصحة بدلاً من الحجم أو المال أو القوة.
مع ذلك، تتمتّع الآلات ذات الذكاء المحدود بأهداف ومنهجيات مختلفة. ونظرًا لأننا نوظّف هذه الآلات ضمن أنظمة تكيفية معقدة على غرار مجالات الاقتصاد أو البيئة أو الصحة، فإنني أعتقد أنها تعمل على الزيادة في أعداد الكائنات البشرية لا على استبدالهم، والأهم من ذلك تعمل على تعزيز هذه الأنظمة. وفي هذه الحالة، تصبح صياغة الإشكالية فيما يتعلّق “بالذكاء الاصطناعي” كما حددها العديد من المؤيدين لمبدأ التفرّد واضحةً، حيث تقترح أشكالًا وأهدافًا وأساليب تعجز عن التفاعل مع أنظمة التكيّف المعقدة الأخرى.
بدلاً من التفكير في الذكاء الاصطناعي باعتباره مفهومًا يتعارض مع البشر، فإنه يجب أن نعتبره نظامًا يدمج البشر والآلات معا، وليس الذكاء الاصطناعي بل الذكاء الموسَّع. وعوضًا عن محاولة التحكم في الأنظمة أو تصميمها أو حتى فهمها، فمن المهم تصميم الأنظمة التي تشارك كعناصر مسؤولة واعية وقوية للأنظمة الأكثر تعقيدًا. ويجب علينا أن نستفسر ونكيف هدفنا وحساسيتنا كمراقبين ومصممين داخل الأنظمة لنهج يتفوّق فيه التواضع على السيطرة.
المصدر: وايرد