من الواضح أن عقلية التاجر الذي يبحث عن الربح أينما كان وبأي وسيلة لا تزال تسيطر على فكر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي يثبت يومًا تلو الآخر أن الميكافيلية أبرز محاور البرنامج الذي يعتمد عليه منذ توليه زمام الأمور في يناير 2017.
تلك العقلية التي دفعت رئيس أكبر دولة في العالم إلى الانسحاب يومًا تلو الآخر من الاتفاقيات الدولية التي أبرمتها الإدارات السابقة، حتى وصف بأنه “عدو المعاهدات”؛ الأمر الذي قوبل بتنديد داخلي واسع الناطق لما يعرض أمن ومصالح أمريكا في مختلف دول العالم إلى التهديد.
ومواصلة لهذا النهج تعهد ترامب بإلغاء وضع الولايات المتحدة كإحدى الدول الموقعة على معاهدة تجارة الأسلحة التي تنظم التجارة الدولية في الأسلحة التقليدية، منوهًا إلى أنه سيطلب من مجلس الشيوخ الأمريكي عدم التصديق على المعاهدة التي وقعها سلفه الديمقراطي باراك أوباما في 2013.
قال الرئيس الأمريكي أمام الجمعية الوطنية للبنادق: “نحن بصدد سحب توقيعنا… سأوقع رسالة أطلب فيها من مجلس الشيوخ وقف عملية التصديق على المعاهدة”، ومن فوق المنصة التي ألقى عليها كلمته في إنديانابوليس، وقع رسالة رسمية إلى مجلس الشيوخ يطلب فيها وقف توقيع المعاهدة و”إعادتها الآن مباشرة لي في المكتب البيضاوي، حيث سأتخلص منها”، حسبما قال وسط تصفيق الحاضرين.
حالة من الجدل أثارها هذا القرار المفاجئ الذي من المتوقع أن يكون له ارتدادات عكسية على أمن أمريكا الداخلي، فضلاً عما يحمله من دلالات ومؤشرات تعكس إصرار واشنطن على المضي قدمًا في مسار الانعزال عن العالم ودعمها لجرائم حلفائها في العالم لا سيما الشرق الأوسط رغم ما يتعرض له من ضغوط تشريعية وشعبية داخلية.
“Under my Administration, we will never surrender American sovereignty to anyone. We will never allow foreign bureaucrats to trample on your Second Amendment freedoms. And that is why my Administration will never ratify the UN Arms Trade Treaty.” pic.twitter.com/j1xnuUdX1x
— The White House (@WhiteHouse) April 26, 2019
دفاع عن السيادة
استند ترامب في قراره إلى ما سماه “الدفاع عن السيادة الأمريكية“، موقعًا على رسالته للشيوخ بالأحرف الأولى من اسم بلاده “يو إس إيه”، مضيفًا: “نعيد التأكيد على أن الحرية الأمريكية مقدسة، وأن المواطنين الأمريكيين يعيشون وفقًا للقوانين الأمريكية، وليس قوانين الدول الأجنبية”.
وكعادته في توظيف الأحداث لخدمة أجندته الداخلية والتسويق لنفسه دعائيًا، لا سيما مع اقتراب الانتخابات الرئاسية وتصاعد الضغوط الممارسة ضده عقب ما كشفه تقرير مولر بشأن احتمالية التنسيق مع الجانب الروسي في الانتخابات الماضية، استغل الرئيس سلسلة الحوادث التي تعرضت لها أمريكا الأشهر الماضية من إطلاق النار في المدارس، والتي خلّفت عشرات الضحايا، ليشيد خلال كلمته بالولايات المتحدة التي سمحت للمعلمين المدربين بحمل السلاح في الفصل “لحماية أنفسهم وطلابهم الذين يحبونهم”.
وعلى صفحته الرسمية على موقع تويتر دافع ترامب عن العدول عن موقف بلاده من المعاهدة التي وقعها أوباما، قائلًا: “لن نسمح لبيروقراطيين أجانب على الإطلاق بالتعدي على حرياتكم المكفولة بالتعديل الثاني” في إشارة للدستور الأمريكي، وهو الأمر الذي لاقى ترحيبًا كبيرًا من الرابطة الوطنية الأمريكية للسلاح.
يذكر أن الرابطة كثيرًا ما عارضت تلك المعاهدة التي تنظم حركة التجارة في الأسلحة التقليدية المقدرة بنحو 70 مليار دولار وتهدف لإبقاء الأسلحة بعيدة عن متناول منتهكي حقوق الإنسان، وتجادل الرابطة التي يسيطر عليها أباطرة تجارة السلام في الولايات بأن المعاهدة تقوض الحقوق الفردية في حيازة الأسلحة وهي وجهة نظر رفضتها إدارة أوباما سابقًا.
No money was paid to North Korea for Otto Warmbier, not two Million Dollars, not anything else. This is not the Obama Administration that paid 1.8 Billion Dollars for four hostages, or gave five terroist hostages plus, who soon went back to battle, for traitor Sgt. Bergdahl!
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) April 26, 2019
مزيد من الانعزالية
في الوقت الذي لاقى فيه قرار ترامب ترحيبًا من بعض الكيانات والمنظمات التي ترى فيه خطوة نحو إنعاش تجارة السلاح وتعويض العديد من تجار هذه السلعة الرائجة في أمريكا عن الخسائر التي كان من المتوقع أن يتعرضوا لها حال الموافقة على تلك المعاهدة، تصاعدت في الجانب الآخر المخاوف بشأن الأمن الداخلي للبلاد.
السماح للمواطنين الأمريكيين بحمل السلاح بحرية بزعم التصدي للجرائم التي من المحتمل أن يتعرضوا لها باب يقوض الأمن الداخلي للبلاد حسبما عبّر كثير من المحللين، الأمر الذي ربما يساهم في إحداث حالة من الفوضى في نشر السلاح مهما كانت التشديدات والضوابط.
علاوة على هذا فإن إطلاق العنان لتصدير السلاح الأمريكي للخارج ولدول بعينها صاحبة سجلات حقوقية مشينة دون ضوابط وآليات محددة قد يحمل مخاطر عدة تغذي روح الانتقام لدى المتضررين من هذا التوجه، ما قد يهدد مصالح الولايات المتحدة في الخارج وتهديد أمن المجتمع واستقراره في الداخل خاصة مع تصاعد الجرائم الإرهابية والمتطرفة.
وفي سياق متصل لقي تحرك ترامب انتقادات فورية من جماعات دولية لحقوق الإنسان، فوفقًا لما قالته آبي ماكسمان مديرة منظمة أوكسفام في أمريكا، فإنه وبموجب هذا القرار “ستنضم الولايات المتحدة إلى إيران وكوريا الشمالية وسوريا كدولة غير موقعة على هذه المعاهدة التاريخية التي تركز أساسًا على حماية الأبرياء من الأسلحة الفتاكة”.
يعد هذا القرار هو العاشر من نوعه بخصوص انسحابات ترامب من التزامات أمريكا في العديد من المجالات منذ تنصيبه رئيسًا قبل 27 شهرًا
أما أدوتي أكوي، المسؤولة في منظمة العفو الدولية بالولايات المتحدة، ففي بيان تعليقًا على هذا القرار أشارت إلى أنه “بهذا الإعلان تعيد إدارة ترامب فتح الباب على مصراعيه أمام مبيعات في ظل معايير ضعيفة لحقوق الإنسان”، مطالبة بإعادة النظر فيه مرة أخرى قبل رفضه بصورة رسمية.
ويواصل الرئيس الامريكي بهذه الخطوة سيره على طريق الانعزالية الدولية متجردًا من العديد من الاتفاقيات والمعاهدات التي وقعتها بلاده، ويعد هذا القرار هو العاشر من نوعه بخصوص انسحابات ترامب من التزامات أمريكا في العديد من المجالات منذ تنصيبه رئيسًا قبل 27 شهرًا.
البداية كانت في 23 من يناير 2017 حين انسحب من اتفاقية الشراكة مع دول المحيط الهادئ، ثم من اتفاقية باريس للتغير المناخي في 1 من يونيو من نفس العام وبعدها بخمسة عشر يومًا ألغى الاتفاق الذي وقعه أوباما بخصوص العقوبات على كوبا، ثم في 12 من أكتوبر انسحب من منظمة اليونسكو، ليختتم عامه الأول بالانسحاب من ميثاق الأمم المتحدة العالمي للهجرة في 3 من ديسمبر.
وفي 8 من مايو 2018 كان القرار المثير للجدل حين ألغى الاتفاق النووي الموقع مع إيران ثم الانسحاب من المجلس الدولي لحقوق الإنسان في 19 من يونيو قبل أن ينسحب من الاتفاق النووي الروسي في 20 من أكتوبر، بينما استهل هذا العام بالانسحاب من معاهدة الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى مع روسيا في الـ2 من يناير.
مكاسب عدة حصل عليها ترامب من وراء دعمه لحلفائه في الشرق الأوسط
دعم انتهاكات التحالف في اليمن
من الواضح أن هناك إصرارًا على مواصلة دعم ترامب لحلفائه في الشرق الأوسط وتزويدهم بالسلاح، على رأسهم السعودية والإمارات، رغم ما يتعرض له الرجل من ضغوط تشريعية طالبته أكثر من مرة بوقف هذا الدعم في ظل التقارير الأممية التي كشفت حجم الانتهاكات التي تمارسها أنظمة تلك الدول عبر السلاح الأمريكي سواء في اليمن أم لقمع المعارضين في الداخل.
قرار الأمس يأتي بعد أيام قليلة من استخدام ترامب لحق النقض “الفيتو”، ضد قرار الكونغرس الذي قضى بوقف مشاركة الولايات المتحدة في الحرب على اليمن وسحب قواتها بالكامل من هناك ووقف دعم التحالف العسكري السعودي الإماراتي بجميع أشكاله، الأمر الذي فسّره البعض بأنه تأكيد على قبول واشنطن بما ترتكبه الرياض وأبو ظبي من جرائم ضد الإنسانية بحق المدنيين اليمنيين بما فيهم النساء والأطفال الأبرياء.
توقيع أمريكا على المعاهدة وإن كانت لم تعتمد بعد بصورة نهائية من مجلس الشيوخ كان بمثابة الضامن المؤقت للحيلولة دون تزويد السلاح الأمريكي للجهات التي تستخدمه ضد الإنسانية، ففي ظل التوقيع يعد ذلك مشاركة في الانتهاكات وإدانة تستوجب المعاقبة، لكن بعد قرار الانسحاب لن يكون بمقدور الجهات الدولية إدانة ومقاضاة الولايات المتحدة بناءً على نتائج أي تحقيقات قد تتم في اليمن بشأن جرائم التحالف التي ستدان فيها الولايات المتحدة كون الأسلحة المستخدمة والقذائف والصواريخ التي تسببت بمقتل المدنيين أمريكية الصنع.
يبدو أن المكاسب الاقتصادية والسياسية التي يسعى ترامب للحصول عليها من وراء إلغاء تلك المعاهدة التي تفتح الباب على مصراعيه لدعم مستهلكي السلاح الأول في الشرق الأوسط، حلفائه المقربين، ستفرض نفسها بقوة على كل المعطيات والقيم الأخرى
ماذا عن المعاهدة؟
عام 2012 صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية 154 صوتًا مقابل اعتراض 3 أصوات على أول معاهدة لتنظيم تجارة الأسلحة التقليدية البالغ حجمها 80 مليار دولار سنويًا، فيما امتنعت 23 دولة عن التصويت من بينها روسيا والصين وإندونيسيا والهند.
منذ معاهدة الحظر الشامل على التجارب النووية 1996 لم تتطرق أي اتفاقيات أخرى لحظر انتشار أي نوع من الأسلحة، إلا أن المعاهدة الموقعة في 2012 أضافت مختلف أنواع الأسلحة التقليدية مثل الدبابات والعربات القتالية المدرعة والأنظمة المدفعية والطائرات المقاتلة والمروحيات القتالية والسفن الحربية والصواريخ ومنصات إطلاق الصواريخ وكذلك الأسلحة الصغيرة والخفيفة.
تجبر المعاهدة الدول الموقعة عليها على وضع ضوابط على تصدير الأسلحة، كذك تقييم ما إذا كانت ستستخدم في عمليات إبادة أو جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب وغيرها، هذا بخلاف ما تتضمنه بشأن عمليات نقل الأسلحة من استيراد وتصدير ومرور عبر أراضي بلد ثالث، وكذلك أعمال الوساطة لبيع الأسلحة.
وعلى الأرجح يبدو أن المكاسب الاقتصادية والسياسية التي يسعى ترامب للحصول عليها من وراء إلغاء تلك المعاهدة التي تفتح الباب على مصراعيه لدعم مستهلكي السلاح الأول في الشرق الأوسط، حلفائه المقربين، ستفرض نفسها بقوة على كل المعطيات والقيم الأخرى، ما لم تتحول الضغوط الداخلية إلى خطوات ملموسة تجبره على إعادة النظر في سياسته الميكافيلية التي تشوه واشنطن صورتها الخارجية يومًا تلو الآخر.