على صهوة جواده محاطًا بثُلَّة من القناصين ومصارعي الثيران، اختار رئيس حزب “فوكس” اليميني المتطرف سانتياغو أباسكال، شعار حرب الاسترداد (أو سقوط الأندلس كما تطلق عليها المصادر الإسلامية) لفيديو ترويجي معادٍ للحقبة الإسلامية في إسبانيا، مراهنًا على شعارات كطرد المهاجرين وتحويل ذكرى سقوط غرناطة إلى عيد وطنيّ.
بُث هذا المقطع الدعائي كجزء من الحملة الدعائية لأحدث الأحزاب الإسبانية عهدًا، قبل أيام من الانتخابات التشريعية المبكرة في إسبانيا، ففي 28 من أبريل/نيسان الحاليّ، سيكون لدى 36 مليون ناخب إسباني الفرصة لتحديد ما إذا كانت بلادهم ستنضم إلى إيطاليا والمجر والنمسا عن طريق انتخاب حكومة يمينية متطرفة أو تبقى – إلى جانب البرتغال – الاستثناء اليساري الأوروبي.
اليمين الإسباني قادم
في أواخر عام 2018، أدى النجاح غير المتوقع لحزب “فوكس” (Vox)، وهو حزب يميني متطرف وشعبوي معارض للمهاجرين ومناوئ للإسلام، وفوزه بـ12 مقعدًا لأول مرة في الانتخابات الإسبانية، وتحديدًا في إقليم الأندلس، إلى هز السياسة الإسبانية، وتسبب بزيادة تطرف خطاب اليمين واليسار، والانتقال بعيدًا عن الوسط.
تبنت قوى اليمين المتطرف في أوروبا خطابًا عنصريًا للغاية ضد المهاجرين، وهو ما تبناه الحزب اليميني الإسباني، خاصة ضد المهاجرين من جنسية مغربية الذين يشكلون أكبر جالية في الأندلس
لم تكمن أهمية نتائج انتخابات إقليم الأندلس في دلالاتها وتبعاتها المحلية، بقدر ما كانت تكمن في سياقاتها الأوروبية والغربية عمومًا، حيث تشهد أغلب الدول الأوروبية صعودًا كبيرًا لقوى اليمين المتطرف، لذلك كان فوز “فوكس” أحدث خطوة في زيادة المد القومي الذي يجتاح أرجاء أوروبا، وكان كثيرون يظنون أن إسبانيا محمية من هذا المد بسبب الذكريات التي عاشتها تحت حكم الديكتاتورية الفاشية.
تبنت قوى اليمين المتطرف في أوروبا خطابًا عنصريًا للغاية ضد المهاجرين، وهو ما تبنّاه الحزب اليميني الإسباني، خاصة ضد المهاجرين من جنسية مغربية الذين يشكلون أكبر جالية في الأندلس.
في الوقت الذي حظيت فيه هذه السياسات “المتطرفة” بالترحيب من معظم الناخبين اليمينيين واليساريين الذين سئموا من المواقف الحزبية لأحزابهم، أثار هذا الأمر قلق القطاع المعتدل من الناخبين الذين يشكلون على الأرجح غالبية الـ28% الذيم لم يقرروا بعد.
بالتأكيد سوف يلعب “فوكس” دورًا رئيسيًا في نتائج انتخابات 28 من أبريل/نيسان الحاليّ، فبعد نجاحه الانتخابي في الأندلس، أصبح الحزب اليميني المتطرف جزءًا من الائتلاف الحاكم – إلى جانب حزب المواطنين والحزب الشعبي اليميني المحافظ – في منطقة خضعت للحكم الاشتراكي لأكثر من 3 عقود.
هناك مخاوف الآن من أن هذه الأحزاب الثلاث لديها فرصة للفوز في الانتخابات العامة كذلك، حيث تُظهر استطلاعات الرأي حاليًّا أن حوالي 12.5% من الأصوات ستذهب إلى حزب “فوكس” و17.8% إلى الحزب الشعبي اليميني و19 إلى حزب المواطنين، يمثل هذا في المجمل عددًا أقل من المقاعد (156) مقارنة بما يُقَّدر لحزب العمال الاشتراكي وحزب “بوميدوس” حاليًّا (162).
لكن ذلك لا يزعج رئيس الحزب كثيرًا، إذ يعتبر أن هذا الرأي يشبه مزاج الناخبين القابل للتغيير، وأن “فوكس” يواصل التقدم لأنه معني بالمشاكل الإسبانية، وأن ارتباطه مرتبط بتراجع الآخرين أيضًا، في إشارة إلى تشرذم الطبقة السياسية المكونة للأحزاب اليسارية وهي العقبة الأساسية التي تعيق خطوة تشكيل الحكومة.
تشرذم اليسار
على الرغم من أن بيدرو سانشيز رئيس الوزراء الحاليّ وزعيم حزب العمال الاشتراكي الإسباني “PSOE“، يتصدر الاستطلاعات متقدمًا على الأحزاب الأخرى، لكن هذا التقدم لا يمنحه بالضرورة مقعد التجديد لرئاسة الحكومة، لأن عدم وجود دعم من الأحزاب الإقليمية الأصغر قد يحول دون تشكيل حكومة يسارية.
بينما من المحتمل أن ينضم حزب بوميدوس (ويعني بالإنجليزية We Can”“) اليساري، والحزب القومي الباسكيBasque” ” إلى مثل هذا الائتلاف، فمن غير المرجح أن يدعم الحزبان الكتالونيان الرئيسيان المؤيدان للانفصال، وهما حزب اليسار الجمهوري الكتالوني والحزب الديمقراطي الأوروبي الكاتالوني، حزب العمال الاشتراكي الذي يرأسه رئيس الوزراء هذه المرة.
الأغلبية الضرورية لتشكيل حكومة يسارية قد تبدو صعبة المنال بعد تراجع حظوظ “حزب بوديموس” اليساري التي انخفضت أسهمه في السنوات الأخيرة لأسباب عدة
على الرغم من أن سانشيز اتخذ نهجًا أكثر تصالحًا تجاه المسألة الكتالونية من أجل تأمين الدعم السياسي للأحزاب الكتالونية لحكومته الأقلية، فقد رفض في نهاية المطاف مطالب للتفاوض على تقرير مصير إقليم كتالونيا وسجن ومحاكمة العديد من الزعماء الكتالونيين الذين قادوا استفتاءً غير مصرح به وإعلان الاستقلال من جانب واحد عام 2017.
كان رفض القوميين الكتالونيين المؤيدين للانفصال ودعم مشروع قانون الموازنة العامة للدولة هو ما دفع رئيس الوزراء الإسباني إلى الدعوة لإعلان إجراء انتخابات مبكرة في فبراير/شباط الماضي، ولم يتمكن سانشيز بذلك من المحافظة على الأغلبية الهشّة التي يشكلها الاشتراكيون واليسار الراديكالي والاستقلاليون الكتالونيون والقوميون الباسكيون، وسمحت له بالإطاحة بسلفه المحافظ ماريانو راخوي في الأول من يونيو/حزيران الماضي.
رؤساء الأحزاب الإسبانية خلال مناظرة قبل أيام من موعد الانتخابات التشريعية
ويسعى القوميون الكتالونيون لكسب أصوات ترجح قدرتهم على التأثير في قرارات حكومة مدريد، بينما يريد اليمين المحافظ الفوز لنزع صلاحيات الحكم الذاتي عن كتالونيا، ومع ذلك، فإن الوضع مائع تمامًا ولا تزال نتيجة الانتخابات غير مؤكدة، حيث تظهر آخر استطلاعات الرأي أن ما يقرب من 28% من الناخبين لم يقرروا بعد، في حين أن بقية الأصوات مجزأة بين مختلف أحزاب الطيف السياسي بين اليسار واليمين.
وعلى عكس فرنسا وألمانيا، حيث تدير الأحزاب والائتلافات الليبرالية الوسطية البلاد، اختفت أحزاب الوسط الليبرالية تقريبًا في إسبانيا، فبعد ظهور حزب “بوميدوس” اليساري الإسباني ونظيره حزب المواطنين (ciudadanos) اليميني عام 2016، توقفت الخريطة الانتخابية الإسبانية عن طريق هيمنة حزب العمال الاشتراكي من يسار الوسط والحزب الشعبي اليميني المحافظ “PP“، ما تسبب في عدم اليقين والارتباك بين الناخبين.
تجمع جل استطلاعات الرأي التي أنجزتها المعاهد الإسبانية أن الفوز بالانتخابات التشريعية الإسبانية سيكون من نصيب الحزب الاشتراكي، لكنها توضح أيضًا أن الأغلبية الضرورية لتشكيل حكومة يسارية قد تبدو صعبة المنال بعد تراجع حظوظ “حزب بوديموس” اليساري التي انخفضت أسهمه في السنوات الأخيرة لأسباب عدة.
قد تنتقل فترة الولاية القادمة إلى اليمين، ومن المرجح أن يؤدي هذا في النهاية إلى إدخال سياسات حزب “فوكس” القومية السامة في الحكومة
لم تُحسن قيادة حزب بوديموس التعامل مع فروع الحزب في الأقاليم الإسبانية الأخرى، هناك أيضًا تناقض في الخطاب، ففي حين يقول زعيم الحزب إنه يدافع عن الفقراء، فإنه لم يتوان عن شراء بيت فخم في أرقى ضواحي مدريد.
لا تفسر هذه المعطيات وحدها هذا التراجع، فبالإضافة إلى هذه الأخطاء، تعرض هذا الحزب لحملة تشويه من طرف قيادة الشرطة الإسبانية في الحكومة السابقة التي لم تتردد في اختلاق تقارير تتهم حزب “بوديموس” بتلقي دعم من إيران وفنزويلا، فضلاً عن النبش في الحياة الخاصة لبعض قيادييه، وهو ما حقق مسعاه وأحدث شرخًا داخل “بوديموس”.
مكَّن هذا الشرخ اليمين من السيطرة على مفاصل الدولة الإسبانية، ويهدّد الآن بمنح فضاء لليمين المتطرف الذي يستقطب جزءًا من أصوات سكان الأحياء التي كانت حكرًا على اليسار، مستفيدًا من موجة التطرف التي تكتسح الغرب، ومستغلاً عجز البسطاء عن تحسين أوضاعهم المعيشية، وفي هذه الحالة قد تنتقل فترة الولاية القادمة إلى اليمين، ومن المرجح أن يؤدي هذا في النهاية إلى إدخال سياسات حزب “فوكس” القومية السامة في الحكومة.
حزب فوكس يحتفل بذكرى الاستيلاء على غرناطة
اليمين الإسباني على خطى ترامب
اكتسب “فوكس” الذي أسسه سنتياغو أباسكال عام 2013، وهو محامٍ سابق لرئيس وزراء إسبانيا الأسبق خوسيه ماريا أثنار، زخمًا في السنوات القليلة الماضية، حيث تسببت حالة من عدم اليقين الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة وارتفاع مستويات الهجرة في قلق العديد من المواطنين الإسبان، وأضفت مزيدًا من الحماسة القومية تغذيها الأزمة الكتالونية واستخراج الجثث المثير للجدل قرب مقبرة الديكتاتور الراحل فرانسيسكو فرانكو.
لا يختلف خطاب حزب “فوكس” اليميني المتطرف في بعض تفاصيله عن الشعارات التي رفعها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في حملته الانتخابية علم 2016
استحوذ “فوكس” على هذا القلق المتزايد من خلال اللجوء إلى الخطاب القومي المتطرف، وادَّعى أعضاؤه أن الهوية الثقافية واللغوية والدينية لإسبانيا مهددة من “هجرة المسلمين”، كما قال خافيير أورتيغا سميث الكاتب العام للحزب، والرجل الثاني بعد أباسكال: “عدونا المشترك، عدو أوروبا، عدو التقدم، عدو الديمقراطية، عدو الأسرة، عدو الحياة، عدو المستقبل يسمى الغزو الإسلامي”.
بعد 80 عامًا على انتهاء الحرب الأهلية الإسبانية استعاد اليمين المتطرف خطابًا متشددًا كان وراء أسوأ نزاع شهده الإسبان، وذلك سيناريو يصعب تكراره، لكن صعود نجم المتطرفين يشكك في جودة الديمقراطية الإسبانية التي يبدو أنها لم تتخلص من تركة نظام فرانكو.
ومثل الكثير من الزعماء الشعبويين الآخرين، يقترح أباسكال إضعاف الاتحاد الأوروبي، حيث يتم التحكم بالهجرة “وفقًا للمصالح الاقتصادية الوطنية والقرب الثقافي“، ومن جهة أخرى، يجد “فوكس” صعوبة في التواصل مع نظرائه الأوروبيين من أحزاب اليمين المتطرف، لا سيما بسبب تعاطف بعض تلك الأحزاب مع فكرة انفصال إقليم كتالونيا، وهو الأمر الذي يعارضه الحزب بشدة.
نتيجة لهذه السياسات، لا ينبغي أن يكون مفاجأة أن حزب “فوكس” يريد إلغاء “المادة 510.1” من القانون الجنائي التي تنص على عقوبات بالسجن لمدة تتراوح بين سنة و4 سنوات على من تثبت إدانتهم “بالتشجيع أو الترويج أو التحريض علانية على الكراهية”، وإغلاق القنوات التليفزيونية العامة الإقليمية، وبناء جدار عازل مع إفريقيا فوق التراب المغربي.
دفع خطاب “فوكس” المتشدد باقي أحزاب اليمين إلى الخروج عن نبرة الاعتدال
ولطالما سخر الإعلام الإسباني من كل ما يتعلق بالحزب الحديث، وتحديدًا دفاع الأخير وتمسكه بكل ما هو إسباني، بدءًا بمصارعة الثيران وليس انتهاءً بالحنين إلى فترة إسقاط الحكم الإسلامي في القرن الخامس عشر من مملكة قشتالة والحنين أيضًا لفترة استعمار القارة الأمريكية.
وفي حين غابت بشكل كبير قضايا الهجرة من برامج الأحزاب الكبرى بالجارة الشمالية، خصص لها حزب “فوكس” حيزًا كبيرًا مقدمًا الهجرة كتهديد للوحدة الإسبانية، وقال الحزب الذي بنا جزءًا كبيرًا من حملته الانتخابية على معاداة الأجانب، أن برنامجه الانتخابي، يحمل مشروعًا يتضمن بناء جدران تفصل مدينتي سبتة ومليلية عن كامل إفريقيا وتجعل الأراضي الإسبانية في أمان.
كذلك انتقد الحزب اليميني المتطرف الحركة النسوية المتنامية في إسبانيا، ففي السنوات الأخيرة، احتجت النساء الإسبانيات على مستويات مروعة من العنف الأسري وتدني الأجور المتواصلة للعمل الإناث (لا تزال أرباح النساء في الساعة أقل بنسبة 14.9% عن الرجال)، وهو ما اعتبره الحزب تهديدًا، وادعى أن “الأيديولوجية الجنسانية” التي يفترض أنه يروج لها تتعارض مع القيم الأسرية غير المتجانسة والمسيحية والبيضاء في إسبانيا.
ولا يختلف هذا الخطاب في بعض تفاصيله عن الشعارات التي رفعها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في حملته الانتخابية علم 2016، كما أن بعض إستراتيجيات التواصل التي ينتهجها هذا الحزب لا تختلف عن تلك التي نهجها ترامب خلال حملته الانتخابية، في سباق انتخابي غيَّب الحديث عن ملفات مفصلية كالاقتصاد، لكنه قد يكون حلاً ناجعًا لعودة اليمين إلى الحكم.
دفع خطاب “فوكس” المتشدد باقي أحزاب اليمين إلى الخروج عن نبرة الاعتدال والانسياق وراء الحلول التصعيدية لتفادي فقدان أصوات الناخبين
ولا يخفي هذا الحزب ذو المرجعية الدينية المتطرفة استفادته من استشارات ستيف بانون المساعد السابق للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وهو ما يفسر الرهان شبه التام على وسائل التواصل الاجتماعي والأخبار الزائفة التي تحمّل عبء الأزمة الاقتصادية للمهاجرين، وعلى أجوبة مبسطة لقضايا معقدة كالأزمة الاقتصادية والنزاع الكتالوني وقضايا الهجرة.
نتيجة لذلك، دفع خطاب “فوكس” المتشدد باقي أحزاب اليمين إلى الخروج عن نبرة الاعتدال والانسياق وراء الحلول التصعيدية لتفادي فقدان أصوات الناخبين، ولم يعد غريبًا في إسبانيا العثور على المدافعين عن الإرث الدموي للديكتاتور فرانكو أو المطالبين بحل الأحزاب القومية.
وبغض النظر عن نتيجة التصويت الذي سينطلق بعد ساعات قليلة، منح هذا الموسم الانتخابي أباسكال فرصة فريدة لإظهار أن حزبه هو الوحيد الذي يضع “الإسبان أولاً”، وقد صوَّر الحزب الشعبي وحزب المواطنين على أنهما “معتدلان وناعمان وجبانان” وسانشيز وبابلو إيغليسياس، زعيم حزب “بوديموس”، بوصفهما “أعداءً لإسبانيا”.