في الوقت الذي تعاني فيه الحريات العمالية في مصر من تضييق غير مسبوق خلال السنوات الأخيرة جراء حزمة من القوانين والإجراءات التي قد تكلف العامل المحتج سنوات يقضيها في غياهب السجون، لم يمنع ذلك الكثير منهم من التعبير عن رأيه مهما كلفه الأمر في ظل أوضاع يصفها البعض بـ”القاتلة”.
مركز هردو لدعم التعبير الرقمي (مدني) كشف خلال تقريره الرابع الذي يغطي التحركات الاحتجاجية في مصر خلال الأشهر الماضية عن تصدر الاحتجاجات العمالية قائمة الفعاليات الاحتجاجية التي شهدها الشارع المصري، ولم تختلف كثيرًا عن السنوات السابقة.
التقرير يأتي في إطار رصد عمليات الاحتجاجات كونها أحد أهم المؤشرات على الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها المجتمع، فضلاً عن كونها تعبر بشكل دقيق عن طبيعة الصراع السياسي والاجتماعي في المنظومة برمتها والعلاقات بين مختلف القوى المؤثرة فيها.
25 احتجاجًا شهريًا
المركز في تقريره الراصد لحركة الاحتجاجات خلال شهر فبراير الماضي رصد ما يقرب من 25 تحركًا احتجاجيًا، وهو نفس العدد تقريبًا الذي تم رصده لشهر يناير، إلا أن النقطة الملفتة للنظر في تقرير هذا الشهر هو تصدر الاحتجاجات العمالية للقائمة، الأمر الذي دفع البعض لقراءته بشكل مختلف خاصة بعد تراجع معدلات الاحتجاجات في الآونة الأخيرة.
باحثو المركز سجلوا 16 احتجاجًا مهنيًا وعماليًا خلال فبراير شكلوا نسبة 64% من إجمالي الاحتجاجات، فيما جاءت الاحتجاجات الاجتماعية في المرتبة الثانية مسجلة نسبة 36% بعد أن تم رصد 9 احتجاجات خلال الشهر، أما الوقفات الطلابية فجاءت في المركز الثالث بنسبة 4%.
أدرجت منظمة العمل الدولية في عام 2017/2018 مصر على “القائمة السوداء” وهي اللائحة الخاصة بالدول التي تمارس انتهاكات بحق العمال، وتخالف ما تعهدت به من التزامات أمام المنظمة الدولية
أما من حيث النطاق الجغرافي للاحتجاجات، فقد تم رصد تحركات في 13 محافظة من أصل 27 محافظة مصرية، فيما تصدرت القاهرة (العاصمة) القائمة مسجلة 7 احتجاجات مثلت نسبة 28% من إجمالي عدد الاحتجاجات، وفي المركز الثاني جاءت محافظات الجيزة والدقهلية، بواقع ثلاث احتجاجات لكل منهما على حدة، ثم توزعت الاحتجاجات على باقي محافظات الجمهورية.
وجاء التجمهر على رأس صور الاحتجاجات التي تم رصدها، حيث تم الوقوف على 9 وقائع تجمهر في 8 محافظات مصرية مختلفة، شكلوا نسبة 36% من العدد الكلي للاحتجاجات، ثم جاء الإضراب عن العمل والوقفات الاحتجاجية في المرتبة الثانية حيث تم رصد 4 وقائع لكل من الفئتين على حدة بنسبة متساوية 16% لكل منهما، أما أعلى الفئات احتجاجًا فقد تصدرت القائمة فئة العمال بنسبة 48% بواقع 12 فعلاً احتجاجيًا، وفي المركز الثاني جاءت فئة الأهالي حيث تم تسجيل 9 احتجاجات للأهالي شكلوا نسبة 36% من العدد الإجمالي للاحتجاجات.
خنق الحريات العمالية
الأعوام الخمس الأخيرة على وجه التحديد تعرض فيهم المشهد العمالي لموجة من التضييق والكبت لم يشهدها منذ عقود طويلة، حيث اتخذت السلطات سلسلة من الإجراءات التأديبية والجنائية لإحكام القبضة الكاملة على العمال والنقابيين، الأمر الذي خفض من سقف الحريات النقابية إلى أسوأ مستوى له على الإطلاق وهو ما انعكس على مؤشرات وتقديرات المنظمات الدولية.
وكان نتاجًا لهذه الممارسات أن أدرجت منظمة العمل الدولية في عام 2017/2018 مصر على “القائمة السوداء” وهي اللائحة الخاصة بالدول التي تمارس انتهاكات بحق العمال، وتخالف ما تعهدت به من التزامات أمام المنظمة الدولية.
المثير أن هذه ليست المرة الأولى التي تُدرج فيها مصر على تلك القائمة، حيث أدرجت 3 مرات قبل ذلك، الأولى عام 2008 بسبب إغلاق دار الخدمات النقابية، والثانية في 2010 بسبب تعهد الحكومة وقتها بتغيير قانون النقابات وهو ما لم يحدث، والثالثة كانت في 2013 وقت حكم جماعة الإخوان للسبب ذاته وإصرار الحكومة على قانون النقابات الحاليّ الذي يخالف الاتفاقيات التي وقعت مصر عليها.
نجح عمال مصر في التسعة أشهر الأولى من العام المنقضي 2018 في تنفيذ 299 احتجاجًا، بمتوسط 33 احتجاجًا في الشهر ، فيما وصلت في بعض الأشهر إلى 62 احتجاجًا كما في نوفمبر الذي يعد الأكثر سخونة تلاه أكتوبر بـ60 احتجاجًا
“حالة من القلق انتابت السلطات الحاكمة جراء تصاعد الاحتجاجات العمالية خلال السنوات الأخيرة، ومن ثم كان لا بد من تحجيم هذا الحراك وتطويق تمدده، خاصة أن التجارب السابقة لم تكن في صالح النظام”، بهذه الكلمات علقت لبنى العايدي الصحفية المصرية المتخصصة في ملف العمال على تقرير مركز هردو.
العايدي أشارت في حديث لـ”نون بوست” إلى أن ذاكرة النظام مع العمال ذاكرة مليئة بالتجارب المريرة، لافتة إلى ما حدث في المحلة الكبرى إبان فترة الرئيس الأسبق حسني مبارك، حيث كان العمال نواة تدشين حركة 6 أبريل، فضلاً عن كونهم نقطة ارتكاز رئيسية للعديد من الحركات المعارضة الأخرى على رأسها حركة “كفاية”.
وأضافت أنه رغم نجاح القبضة الأمنية في تحجيم الحراك العمالي خلال الفترة الماضية عبر قوانين وتشريعات وإعادة هيكلة لبعض القطاعات، فإن ذلك من الواضح لم يحقق الهدف المنشود، فخروج تقرير كهذا يرصد 25 احتجاجًا في شهر واحد فقط دليل كافٍ على أن الحركة العمالية في مصر حية ولم تدخل غرف الإنعاش كما يعتقد البعض.
التغيرات الجوهرية التي شهدها قطاع الأعمال في مصر في أعقاب تعويم العملة المحلية (الجنيه) التي كان على رأسها غلق مئات المصانع وتقليل الرواتب وتضييق الخناق على العمال، الأمر الذي أدى إلى تشريد آلاف الأسر وفق بيانات رسمية، لا شك أنها ستكون نقطة انطلاق جديدة لإشعال الحراك مرة أخرى خلال الفترة المقبلة، وهو الأمر الذي دفع البعض إلى الحديث بأن العامين الحاليّ والقادم سيكون للعمال فيهما الكلمة المؤثرة، هكذا أنهت الصحفية المتخصصة في الملف العمالي حديثها.
تزايد عدد الاحتجاجات خلال السنوات الأخيرة
تصاعد موجة الاحتجاجات
تصاعدت موجة الاحتجاجات العمالية في مصر في السنوات الثلاثة الأخيرة رغم التضييق الكبير على الحريات النقابية والتشريعات التي صيغت خصيصًا لوأد مثل هذه التحركات التي باتت صداعًا في رأس الحكومة، وهو ما تكشفه التقارير والمؤشرات الصادرة عن المؤسسات الحقوقية والعمالية.
فوفق تقرير لمؤسسة مؤشر الديمقراطية التابع للشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان فقد نجح عمال مصر في التسعة أشهر الأولى من العام المنقضي 2018 في تنفيذ 299 احتجاجًا، بمتوسط 33 احتجاجًا في الشهر، فيما وصلت في بعض الأشهر إلى 62 احتجاجًا كما في نوفمبر الذي يعد الأكثر سخونة تلاه أكتوبر بـ60 احتجاجًا.
التقرير أشار إلى تصدر قطاعات بعينها قائمة الاحتجاجات كان على رأسها 10 قطاعات رئيسية من بينها شركات الغزل والنسيح والقطاعات الصناعية المملوكة للدولة مثل الحديد والصلب والقومية للأسمنت وقطاع النقل والمواصلات والتعليم والصحة والهيئات الحكومية والأعمال الحرة والصحافة والإعلام والرياضة والزراعة والقطاع القانوني.
يبدو أن الأيام القادمة ستحمل المزيد من مثل هذه التحركات حال لم تنتبه الدولة لخطورة تضييق الخناق على العمال واستمرار الضغط عليهم، ماديًا وإداريًا
أما عن دوافع هذا الحراك فتصدرت الأجور والمستحقات القائمة برصيد (282 احتجاجًا) بنسبة بلغت 94% من إجمالي الاحتجاجات، بينما استحوذت المطالب المدنية والسياسية على 6% فقط من الاحتجاجات بـ17 احتجاجًا، الأمر الذي فند اتهامات السلطات بشأن تسييس مثل هذه التحركات في محاولة للتنصل من مسؤوليتها تجاهها عبر تشويه دوافعها والمشاركين فيها.
الأمر ذاته تكرر خلال الأعوام السابقة، ففي عام 2016 رصد المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (مؤسسة قانونية حقوقية مستقلة) في تقريره الختامي ما يقرب من 1736 وقفة احتجاجية، بزيادة قدرها 30% عن العام 2015 الذي وصل عدد الاحتجاجات به 1400 وقفة، وتصدرت الوقفات الاحتجاجية العمالية القائمة بإجمالي 726 وقفة، تلتها الاحتجاجات الاجتماعية بإجمالي 633 وقفة، ثم الاقتصادية في المركز الثالث بعدد 377 وقفة.
وفي المجمل يبدو أن الأيام القادمة ستحمل المزيد من مثل هذه التحركات حال لم تنتبه الدولة لخطورة تضييق الخناق على العمال واستمرار الضغط عليهم، ماديًا وإداريًا، الأمر الذي ربما يعيد للأجواء تظاهرات عمال المحلة في 2006، وهي نقطة الانطلاق التي ربما تعيد رسم خريطة الاحتجاجات في مصر مرة أخرى.