بمضمون مقتضب ومطمئن تميزت رسالة الرئيس الصيني شي جين بينغ في منتدى الحزام والطريق للتعاون الدولي، فعلى عكس الدورة الأولى التي ركز خلالها على زيادة الاستثمارات الخارجية، سعي شي في الدورة الثانية التي اختتمت أعمالها بالأمس إلى تفنيد اتهامات بعض الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة، بأن مبادرة الحزام والطريق مستنقع من الديون التي تغرق بها الصين الدول النامية.
جاء ذلك في كلمة ألقاها الرئيس الصيني، خلال افتتاح الدورة الثانية لأعمال منتدى مبادرة الحزام والطريق تحت عنوان “حزام واحد طريق واحد”، في العاصمة الصينية بكين، أمام رؤساء ومسؤولين من 37 دولة والأمين العام للأمم المتحدة، وأكد خلالها تأييده لإقامة مشاريع تتسم بالشفافية وقابلة للاستمرار، بالنسبة لميزانيات الدول المشاركة في مبادرة طرق الحرير الجديدة.
عولمة على الطريقة الصينية
“الحزام والطريق”، إنها المبادرة التي أطلقتها الصين عام 2013 لإحياء طريق الحرير القديم، وهو الأكبر على مستوى المساحة والكلفة المالية، بعد مشروع “مارشال” لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تغطي النسخة الجديدة من طريق الحرير أكثر من 68 دولة.
المبادرة هي خطة صينية لتوسيع الممر التجاري لبكين، وتعزيز الروابط التجارية ونقل السلع والبضائع بين آسيا وأوروبا وإفريقيا بضخ قروض لإقامة شبكة من البنية التحتية تربط بين القارات الثلاثة، وتشمل عدد من الطرق البرية والبحرية بما في ذلك مرافئ وسكك حديدية ومطارات في مناطق مختلفة.
تُثار الشكوك بشأن أهداف الصين من خلال هذا المشروع، وتتمثل في فرض هيمنتها الاقتصادية على الدول النامية، واستخدام تلك الدول كنقاط عبور لمنتجاتها المحلية
وعلى الرغم من مرور 5 أعوام على إطلاق المبادرة لا تزال تفاصيلها تعاني من ضبابية شديدة، على الصعيدين النظري والتنفيذي، حيث يطغى على معظم أخبارها الطابع الدعائي والترويجي.
دعوات صينية تناقض الأساس الفكري الذي قامت عليه، وتبنٍ لمفاهيم التحرير الاقتصادي وإلغاء الحمائية في وقت ينحصر فيه هذا الخطاب في معقل الليبرالية الغربية، في أمريكا، وخطاب كوني يضع الصين في مقدمة المتحكمين في فضاء سياسي واقتصادي يمتد على قارات العالم القديم ويعيد تعريف شكل التحالفات المقبلة وطبيعتها.
راهنت الصين على الدول الفقيرة والمتعثرة للقبول بقروضها السخية، فأنشأت شبكة طرق في باكستان ومحطة قطارات في كازاخستان وميناء بحري في سريلانكا وصولاً إلى إنشاء جسر جديد في لاوس (جمهورية لاو الديمقراطية الشعبية).
وقعت 125 دولة على مبادرة الحزام والطريق
كذلك حرصت الصين على إغراء دول تعاني كثافة سكانية كبيرة وضعفًا في التنمية الاقتصادية والبنى التحتية فتمددت استثماراتها على مساحة جغرافية تضم 63% من سكان العالم عبر مشاريع كبيرة ومعقدة تحاول بناءها في دول من مناخات سياسية واقتصادية صعبة.
في هذا الشأن، تُثار الشكوك بشأن أهداف الصين من خلال هذا المشروع، وتتمثل في فرض هيمنتها الاقتصادية على الدول النامية، واستخدام تلك الدول كنقاط عبور لمنتجاتها المحلية، كما تسعى أيضًا إلى إعادة توجيه طرق التجارة العالمية، حيث تصبح بكين مركزًا للنظام المالي العالمي.
مبادرة الصين، التي ستستثمر فيها أكثر من تريليون دولار، يتخوف منها اقتصاديون، ويصفها بعضهم بهجوم اقتصادي تشنه الصين لإغراق الأسواق بمنتجاتها على حساب الأسواق المحلية، ويرى محللون أن أكبر ثاني اقتصاد في العالم قد يحل محل البنك الدولي بقروض واستثمارات في الدول النامية فاقت 90 مليار دولار امريكي خلال السنوات الخمسة الماضية.
يحذر المعارضون للمشروع الصيني من الانحيار السياسي للدول التي ستحصل على قروض صينية لتغطية نفقات المشاريع
كما يحذر مراقبون من هذا الهجوم الاقتصادي الناعم الذي تشنه الصين، مؤكدين أهمية الحذر من مبادرة بهذا الحجم، التي يمكن أن تؤدي إلى تراكم على بعض الدول المشاركة في حال فشل المشروع.
ويثير المشروع الصيني انقسامًا بين الأوروبيين ومعارضة من الولايات المتحدة، ويحذر المعارضون من الانحيار السياسي للدول التي ستحصل على قروض صينية لتغطية نفقات المشاريع، وهنا، يبدو أن غياب الولايات المتحدة عن المنتدى وانسحاب دول أخرى يؤكد مخاوفها من تزايد النفوذ الجيوسياسي للصين.
وفي الوقت الذي انسحبت فيه دول من المبادرة، عادت أخرى لاستئناف مشاريعها مع الصين على غرار ماليزيا، بينما تشارك إيطاليا لأول مرة كدولة من “مجموعة السبع”، وذلك بعد توقيع 29 صفقة مع الصين بقيمة تجاوزت 3 مليارات دولار، كما وقَّعت الصين 173 وثيقة تعاون مع أكثر من 120 دولة، وقد تجاوز إجمالي التجارة بين الصين ودول الحزام والطريق 6 تريليونات دولار.
الهجوم الاقتصادي الناعم
عملت الصين خلال السنوات العشرة الماضية على إبرام اتفاقيات للتجارة عبر بحر الصين الجنوبي وآسيا الوسطى، وعقدت اتفاقيات مع عشرات الدول الساعية لجذب الاستثمارات الصينية من آسيا إلى إفريقيا وصولاً إلى أوروبا.
ويحظي العالم العربي بأهمية كبيرة في هذه المبادرة باعتباره أحد أهم مصادر الطاقة بالنسبة للصين، وكونه من أكبر الأسواق استهلاكًا للبضائع والمنتجات الصينية.
الموقع الجغرافي للدول العربية الذي يضعها في قلب طريق التجارة القديم يجعل منها شريكًا مهمًا لبكين
وللمرة السادسة منذ توليه منصب رئيس الجمهورية، يزور الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الصين، لحضور القمة الثانية للمبادرة، وبرئاسته للاتحاد الإفريقي هذا العام، تأتي مصر على رأس الدول العربية والإفريقية الحاضرة لقمة منتدى “الحزام والطريق”، حيث قال شي إن الصين مستعدة للمشاركة في مشروع تطوير قناة السويس.
لا ترى وزيرة الاستثمار والتعاون الدولي المصرية سحر نصر مخاطر للاستثمارات الصينية في البلاد، وعلى هامش اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في مقاطعة بالي بإندونيسيا، قالت إن مصر تقبل فقط الاستثمارات الصينية في المشروعات التي تعود بالنفع على الجانبين.
تصريحات الوزيرة جاءت رغم انتقادات وتخوفات متنامية بشأن التغول الصيني في اقتصادات دول عدة بشأن المخاطر المتصلة بمبادرة الحزام والطريق التي وقعت مصر في إطارها صفقات بـ18 مليار دولار مع الصين.
الرئيس السيسي خلال كلمته بالجلسة الافتتاحية لقمة منتدى الحزام والطريق
القوة الصينية الناعمة تتمدد في المنطقة العربية على شكل مساعدات وقروض واستثمارات بمليارات الدولية، ففي يوليو/تموز الماضي تعهدت الصين بتقديم أكثر من 23 مليار دولار لدول عربية، وأعلن الرئيس الصيني أن بلاده ستقدم أيضًا 15 مليون دولار مساعدات لفلسطين، إلى جانب 91 مليون دولار أخرى للأردن وسوريا ولبنان واليمن.
“الشعوب العربية والصينية بعيدة جغرافيًا، لكنها أسرة واحدة”، يقول الرئيس الصيني في تذكير بتاريخ التجارة على طريق الحرير، وجاء هذا التعهد الصيني خلال الدورة الثامنة لمنتدى التعاون الصيني العربي بحضور أمير الكويت ورئيس جامعة الدول العربية وممثلين عن 19 دولة.
القروض الضخمة التي تقدمها الصين تثير قلقًا في الداخل والخارج إزاء الموقف الضعيف لدول فقيرة أمام ديون بهذا الحجم
لم تكن القروض الصينية التي أعُلن عنها الأولى من نوعها، فقد سبق أن قدمت بكين قروضًا لدول عربية منها 1.3 مليار دولار لجيبوتي وحدها، فالموقع الجغرافي للدول العربية الذي يضعها في قلب طريق التجارة القديم يجعل منها شريكًا مهمًا لبكين.
القروض الضخمة التي تقدمها الصين تثير قلقًا في الداخل والخارج إزاء الموقف الضعيف لدول فقيرة أمام ديون بهذا الحجم، لكن بكين تقول إنها تلتزم بسياسة عدم التدخل عندما تقدم مساعادت مالية وصفقات لدول نامية، وإن مبادرتها تأتي في إطار مشروع “الحزام والطريق” من أجل إقامة طرق تجارية تربط الصين بوسط وجنوب شرق آسيا.
وخلال السنوات الأخيرة، عززت الصين من علاقتها الاقتصادية مع دول في القارة، فقد استضافت العاصمة الصينية بكين قمة 2018 لمنتدى التعاون الصيني الإفريقي في سبتمبر/أيلول الماضي، ووصل حجم التجارة بين العملاق الآسيوي والقارة السمراء إلى 170 مليار دولار عام 2017، متفوقة بذلك على الولايات المتحدة وفرنسا ذات النفوذ التاريخي في إفريقيا.
يحاول الصينيون توسيع نفوذهم في القارة السمراء عبر استثمارات ضخمة بلغت مليارات الدولارات في مشاريع البنى التحتية والصناعات ومناجم الثروات الباطنية وتشغيل العمالة الصينية في قارة أغلب بلدانها حديقة خلفية للنفوذ الفرنسي، فالأفارقة من جهتهم في حاجة لهذه الاستثمارات التي يعبرونها مخففة لوطأة إملاءات مؤسسات واشنطن، وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدولي.
فرصة اقصادية أو مستنقع ديون؟
تتراوح الكلفة التقديرية للمشروع بين 900 مليار دولار و1.5 تريليون دولار، تتوزع تلك الأموال على شكل قروض لتمويل استثمارات في البنى التحتية تنفذها شركات صينية، وتنحصر هذه الاستثمارات في مشاريع لربط خطوط التجارة بين الصين وبقية دول العالم، كخطوط النقل وإنتاج الطاقة وتبادل المعلوماتية.
لا تستفيد الدول النامية من تشغيل الأيدي العاملة المحلية في تلك المشاريع، كما أن تحولها إلى نقاط عبور للبضائع الصينية سيزيد من معدلات الاستهلاك، ويقضي على الإنتاج المحلي، ويزيد من الفقر والبطالة.
لا تضع الصين معايير إنسانية أو أخلاقية لمنح القروض المالية، فعدد كبير من الدول التي منحتها الصين قروضًا تعاني من أنظمة حكم شمولية ينخرها الفساد ويزدهر فيها هدر المال العام، نهايك عن انتهاكاتها لحقوق الإنسان
وبعد أن وقعت 63 دولة على قروض مع الصين حتى الآن، بدأت ملامح الغزو الاقتصادي الصيني تزداد وضوحًا وثباتًا، فهل ستؤثر خطة “الحزام والطريق” على النظام المالي والاقتصادي العالمي؟ يجيب الباحث في مركز الدراسات الدولية جوناثان هيلمان على هذا السؤال بـ”نعم”، ويفسر ذلك بأن نجاح المشروع الصيني سيعني إعادة رسم طرق تدفق البضائع والأشخاص وحتى العلومات والأفكار.
بخلاف دول كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لا تضع الصين معايير إنسانية أو أخلاقية لمنح القروض المالية، فعدد كبير من الدول التي منحتها الصين قروضًا تعاني من أنظمة حكم شمولية ينخرها الفساد ويزدهر فيها هدر المال العام، نهايك عن انتهاكاتها لحقوق الإنسان.
لا يتردد رأس المال الصيني في ولوج حتى الدول التي تشهد نزاعات مسلحة أو تعاني أزمات سياسية واقتصادية، فالمشروع الصيني لا يهدف إلى تحقيق التنمية والاستقرار في تلك الدول، ولا يعنيه بأي حال من الأحوال تمكين الدول النامية من مواجهة تحديات الفقر والبطالة، بل هو سعي لاستغلال فساد بعض الحكومات وحاجة حكومات أخرى لجذب استثمارات لا تُسمن ولا تغني من جوع.
يعد تطوير ميناء جوادار الباكستاني أحد المشاريع الرئيسية لمبادرة الحزام والطريق
هذا الأمر سيضاعف من مديونية تلك الدول ويزيد من مشاكلها الاقتصادية والأمنية، كما أن تلك المشاريع يمكن أن تكون دائمًا عرضة للفشل من خلال سوء إدارة العائدات المالية، أي الفساد، لذلك تحذر مديرة صندوق النقدي الدولي كريستين لاغارد الدول التي تعاني أصلاً من ديون مرتفعة في التعامل مع تلك الديون الجديدة، فهذا سيحمي النظام المالي للدول المستدينة، ويحمي أيضًا المستثمرين بما فيهم الصين، بحسب قولها.
على سبيل المثال، لم تكن باكستان بلدًا جاذبًا للاستثمار الأجنبية، لكن الصين دخلت بمليارات الدولارات لإنشاء ميناء بحري وطرق للنقل البري ومحطة قطارات دولية، وبعد سنوات قليلة فقط، فشلت باكستان في تسديد مستحقات الديون الصينية، فاُضطرت إلى الموافقة على منح الصين إدارة ميناء “جوادار” البحري لـ40 عامًا.
وبذلك حصلت الصين على موقع إستراتيجي مهم بين جنوب ووسط آسيا والشرق الأوسط، حيث يقع على مصب الخليج العربي، خارج مضيق هرمز الذي يمر عبره نحو 20% من النفط العالمي، كما يشكل الميناء نهاية الممر الاقتصادي الذي يمتد على طول 3 آلاف كيلومتر من جوادار إلى مدينة كشغر الصينية، ويمثل جزءًا مهمًا من طريق الحرير القديم الذي يربط الصين مع أوروبا وآسيا وإفريقيا.
هناك أيضًا 8 دول فشلت في تسديد ديونها للصين كسريلانكا التي منحت الصين حق إدارة ميناء “هامبانتوتا” الحيوي في جنوب البلاد، الذي يتوسط أكثر طرق الملاحة النشطة والمزدحمة بين الشرق والغرب، وذلك لمدة 99 عامًا، في خطوة أثارت قلق عدد من الدول على رأسها الهند.
لن تكون الاستثمارات الصينية قاعدة لمرور البضائع الرخيصة والتبادل التجاري فحسب، وإنما أرباح طائلة لشركات البناء الصينية
بهذه الطريقة ستكمل الصين السيطرة على ما تسميه “قلادة اللؤلؤ البحرية”، وهو الوجه الآخر لخطة الهيمنة الصينية على سواحل الدول النامية، حيث هناك عدد كبير من المشاريع التي تتضمنها خطة “الحزام والطريق”، ويمكن أن يكون لها تأثير إستراتيجي واستعمالات متعددة، منها مشاريع الطرق السريعة ومحطات القطارات والموانئ.
لن تكون الاستثمارات الصينية قاعدة لمرور البضائع الرخيصة والتبادل التجاري فحسب، وإنما أرباح طائلة لشركات البناء الصينية التي سيطرت مؤخرًا على 7 من المراكز العشرة الأولى على مستوى العالم، ناهيك عن نشر الأيدي العاملة الصينية في جميع الأرجاء التي يمتد إليها المشروع.
كما أن سيطرة الصين على إدارة المشاريع المنتشرة حول العالم، لا سيما الموانئ البحرية الإستراتيجية، سيسمح لها بفتح قواعد بحرية ثابتة تمكنها من تحريك أساطيلها من المحيط الهندي وصولاً إلى البحر الأبيض المتوسط، ما يغزز من نفوذها السياسي والعسكري بشكل غير مسبوق.
ربما بات من المؤكد أن الصين لن تحصل على الأموال التي دفعتها لحكومات الدول النامية، لكن حتمًا حصلت على أهداف إستراتيجية بالغة الأهمية.