ترجمة وتحرير: نون بوست
عُزل السلطان عبد الحميد الثاني من الحُكم في مثل هذه الأيام قبل 111 سنة نتيجة فتوى استندت إلى الكثير من الادعاءات الباطلة والافتراءات. وكان المفتي الذي أصدر هذه الفتوى قد عبّر عن ندمه الشديد، واعترف بأنه ارتكب خطأ لا يُغتفر، وتسبب ببقعة سوداء لا يُمكن إزالتها من صفحات التاريخ. فلماذا عُزل السلطان؟ ومن الأطراف التي عزلته؟
من أسقط السلطان من عرش الخلافة؟
تسببت حادثة 31 آذار/ مارس سنة 1909، في تعزيز قوة “جمعية الاتحاد والترقي” التي سعت لفرض سيطرتها على الحُكم من خلال إسقاط السلطان عبد الحميد. وعلى الرغم من أن هذه الجمعية هي التي تسببت في حالة العصيان التي اجتاحت البلاد، إلا أنها أرادت أن تجعل السلطان عبد الحميد يدفع ثمن ذلك، وأعلنت عزله من العرش.
“إلماليلي حمدي”؛ كاتب الفتوى
اجتمع المجلس الوطني العمومي في 27 نيسان/ أبريل سنة 1909، وحضر الاجتماع 240 مبعوثًا، في جلسة عُقدت في منطقة السلطان أحمد. وقررت هيئة مكونة من 36 شخصًا عزل السلطان عبد الحميد الثاني من حُكم الخلافة العثمانية. وقررت الهيئة، بموافقة جميع أعضائها، تنصيب ولي العهد، محمد رشاد، على عرش الدولة العثمانية. لكن هذا القرار كان بحاجة إلى صدور فتوى حتى يكتسب الشرعية، وكان تصديق أمين الإفتاء عليه شرطا أساسيا كي يدخل حيّز التنفيذ الفعلي.
الفتوى التي أسقطت السلطان عبد الحميد
عبّر المفتي إلماليلي حمدي يازير، لاحقا عن ندمه الشديد، وذكر أنّ ذلك كان أكبر خطأ ارتكبه في حياته، والذي تمثل في المشاركة في عزل السلطان عبد الحميد
كتب الشيخ إلماليلي حمدي يازير الفتوى بصورتها الأولية، وطُلب من أمين الإفتاء، الشيخ حاجي نوري أفندي، الحضور إلى المجلس العمومي والمصادقة عليها. وقد تضمنت الفتوى الذرائع التالية كأسباب لطلب عزل السلطان من العرش:
“أليس من الواجب والصواب تطبيق قرار عزل الحاكم أو السلطان، الذي صدر عن أهل الحل والعقد، لأنهم رأوا أنّ إمام المسلمين خرج في بعض المسائل الفقهية عن كتب الشريعة الإسلامية، ومنع تداول هذه الكتب وطباعتها، ومزقها وحرقها، وأسرف في استخدام موارد الدولة، وتصرف فيها بصورة مُخالفة للشريعة، وتسبب بقتل أشخاص عملوا معه في إدارة الدولة دون وجه حق، وسجنهم، ونفاهم، وظلم الكثيرين منهم. وعاد عن كلامه رغم حلفه اليمين على ذلك، وتسبب بفتنة أثرت على حياة المسلمين، وتسبب بالاقتتال فيما بينهم، ومنع من يحاول من المسلمين مقاومة ذلك، وتسبب في فرقة المسلمين وتفرّق ديارهم”.
كانت هذه الذرائع عبارة عن افتراءات باطلة
كانت كل هذه الذرائع، لا سيما تلك المتعلقة بمنع الكتب العقائدية وطباعتها وقتل من يطبعها، والإسراف في استخدام موارد الدولة وغيرها، عبارة عن افتراءات باطلة لا أساس لها من الصحة، إذ عُرف عن السلطان عبد الحميد تديّنه أكثر من أسلافه. كما نأى السلطان بنفسه عن إراقة الدماء، ولهذا السبب، منع جيش الحركة من مقاومة ما جرى ضده. ورغم أنّ السلطان خلال فترة حُكمه عمل على دفع جميع الديون المتراكمة على الدولة منذ عهد السلطان عبد العزيز، إلا أنه اتُّهم بالإسراف.
عُزل السلطان بقرار حظي بالإجماع
رفض أمين الإفتاء، الشيخ حاجي نوري أفندي، التوقيع على هذه الفتوى لأنها لا تعكس الحقائق، ونصحهم أن يُقنعوا الخليفة بالتنازل عن الحُكم بقرار منه. ولهذا السبب، قاموا بتغيير القسم الأخير من الفتوى، وعرضوها بصورة مخالفة للأصول على شيخ الإسلام، ضياء الدين أفندي، الذي قام بتوقيعها ليتم عرضها على المجلس للتصويت عليها، وكان الحضور يهتف “عزل…عزل”. وبناء على ذلك، طلب الصدر الأعظم سعيد باشا التصويت على هذا القرار، حيث قال: “أيها السادة، بناء على الفتوى الشريفة المقدمة، وبناء على طلب الشعب والأمة والمجلس العمومي، هل توافقون على قرار عزل السلطان عبد الحميد من السلطنة والخلافة؟”. ورغم أنّ البعض منهم أراد أن يكون التنازل عن الخلافة بقرار شخصي من السلطان عبد الحميد، إلا أنّ نظرات طلعت باشا التي تحمل التهديد والوعيد، جعلتهم جميعا يوافقون على قرار العزل بالإجماع.
الهيئة التي أخبرت السلطان بقرار العزل
أعضاء الهيئة التي أخبرت السلطان بقرار عزله من الحُكم
تكونت الهيئة التي وُكّلت لها مهمة تبليغ السلطان عبد الحميد بقرار العزل، من كل من آرام أفندي، أحد أعضاء مجلس الأعيان الأرمني، وأسد توبتاني، مبعوث دُراس من ألبانيا (الذي أصبح برتبة باشا نظير الخدمات التي قدّمها)، واليهودي إيمانويل كاراسو، مبعوث سالونيك اليونانية، وعارف حكمت باشا، الذي ترقى في مختلف المناصب في الدولة العثمانية نظير ما كان يُظهره للسلطان من احترام.
خطأ سياسي عظيم
وصف العديد من الكتاب، حتى من أنصار الاتحاد والترقي، هذا القرار بأنه “خطأ سياسي عظيم ولا يُغتفر، كما أنه وصمة عار لا يُمكن إزالتها”. وقد بدأ أسد توبتاني الحديث مع السلطان عن قرار عزله بالقول: “نحن جئنا كممثلين للمجلس العمومي، وهناك فتوى شريفة. لقد قررت الأمة عزلك، لكن حياتك في مأمن”. من جانبه، ردّ عبد الحميد قائلا: “أعتقد أنك تقصد أنهم قرروا إزاحتي عن الحُكم. حسنا، لكن ما السبب الذي دعا إلى ذلك؟”. وبعدما قرأوا عليه نص الفتوى، صرخ عبد الحميد: “أي كتاب للشريعة قمتُ بحرقه؟”.
“أسدلوا ستارا أسودا على جميع الخدمات التي قُمتُ بها!”
بعد تبليغ الهيئة للسلطان عبد الحميد بقرار عزله، ألقى عبد الحميد كلمات سجّلها التاريخ، حينما قال: “أنا عملتُ في خدمة الشعب والأمة والدولة على مدار 33 سنة. الله سيحكُم بيننا ورسوله. وسأسلم هذه الدولة على الحالة التي وجدتها فيها. فأنا لم أمنح أحدا أي حفنة من تراب الدولة. وأترك تقدير ما قدّمته من خدمات لله عز وجل. وللأسف، سعى الأعداء طويلا من أجل إسدال ستار أسود قاتم على خدماتي، ونجحوا في ذلك”.
“ليُديروا هذه الدولة لعشر سنوات قادمة من بعدي”
قبل أن يترك السلطان غرفته أضاف: “ليُديروا هذه الدولة بسلام لعشر سنوات من بعدي، وسأعتبر أنهم أداروها لمئة سنة”. وبالفعل، عجزوا عن إدارة الدولة لعشر سنوات من بعد السلطان عبد الحميد، إذ أن هذا الأخير ترك الحُكم في 27 نيسان/ أبريل سنة 1909، وسقطت الدولة العثمانية مع الأسف في 31 تشرين الأول/ أكتوبر سنة 1918، أي بعد تسع سنوات ونصف من قرار عزل السلطان عبد الحميد.
قال “إنْ الحكم إلا لله” وقبِل بما جرى
هذه اللوحة للسلطان عبد المجيد، التي وصف من خلالها عزل السلطان عبد الحميد “بوداع للدولة العثمانية”
أعلن عبد الحميد من خلال هذه الكلمات نهاية حُكمه الذي استمر 32 سنة، و7 أشهر، و27 يوما. وقد قبِل السلطان عبد الحميد بقرار عزله مؤكدا أنّ “الحكم لله”. لكن ما أحزن السلطان أكثر من قرار عزله هو طريقة عزله والهيئة التي أبلغته بقرار العزل.
نُفي السلطان عبد الحميد إلى سالونيك
بعد عزله، طلب السلطان عبد الحميد أن يقيم في قصر “تشيراغان” في إسطنبول، غير أنّ طلبه رُفض، وتقرر نفيه إلى قصر ألاتيني في سالونيك، بقرار من الباشا محمود شوكت. وتحرك السلطان في الليلة ذاتها باتجاه سالونيك دون أن يحمل الشيء الكثير من أمتعته. وقبل خروجه، قام السلطان بتسليم مفتاح غرفة النوم الخاصة به لأحد أفراد حرسه الذين يثق بهم، وقال له: “أنا لا أُؤمّن أي أحد في القصر يا بُني، وأنت يبدو عليك أنك شاب طيب. خذ هذا المفتاح، وهو مفتاح غرفة نومي التي عشتُ فيها طيلة سنوات. هي أمانة لديك الآن”.
نهب قصر يلدز
بعدما غادر السلطان العاصمة إسطنبول، دخل أفراد الاتحاد والترقي إلى قصر يلدز من كل حدب وصوب، وبدأوا عمليات البحث والتفتيش. ومثلما يحدث بعد كل انقلاب، وقعت عمليات نهب واسعة. ولأول مرة، فُتح القصر أمام جميع وسائل الإعلام المحلية والأجنبية.
حرقوا أرشيف عبد الحميد الذي عمره 33 سنة
نشرت صحيفة “لالوستخاسيو” الفرنسية صورة لعبد الحميد من داخل القصر تحت عنوان “نهاية السلطنة”، فيما نشرت صحيفة “شهبال” هذه الصورة (على اليسار) كغلاف لصفحتها الرئيسية.
قامت لجنة خاصة بتدقيق أرشيف عبد الحميد الذي عمره 33 سنة، لا سيما المجلات والصحف، وأصدر أنور باشا قرارًا بحرق جميع هذه الموجودات في نظارة الحربية، التي أصبحت اليوم مقر جامعة إسطنبول.
المصدر: صحيفة فكرييّت