لم تكن حادثة التراشق اللساني بين رموز السلطة في بغداد ونظرائهم في المنامة، الحادثة الأولى في تاريخ علاقاتهم، إنما سبقتها حوادث مشابهة عديدة، وإن شئنا توصيفًا دقيقًا لها، فهي إرهاصات تُعبر وبشكل صريح عن الصراع السعودي الإيراني في المنطقة، نراها كخصومات بين وكلائهما بالمنطقة. فالجميع يعرف إلى أين تنتهي ولاءات كِلا النظامين الحاكمين في هذه البلدين العربيين، فبدلاً من نشوب صراع بين “الأصلاء”، يتخاصم وكلائهما نيابة عنهما.
وإذا كنَّا قد فهمنا واستوعبنا سِرَّ ولاء الطبقة الحاكمة في البحرين لجارتها الكبرى المملكة السعودية، فإن الذي يفوق فهمنا واستيعابنا، أن يجعل ساسة العراق الحاليّين من العراق ذنبًا لإيران، ينفذ أجندتها ويتخاصم لأجلها، حاله كحال أي بلد ضعيف صغير لا يمتلك من أمره شيئًا، رغم ما يمتلكه العراق من مقدرات وإمكانات وتاريخ تجعله عصيًا على أن يكون ذيلًا لدولة أخرى، ناهيك عن دولة مثل إيران.
تأتي حادثة التراشق الجديدة هذه المرة، على لسان مقتدى الصدر زعيم ما يعرف بالتيار الصدري الذي يتزعم كتلة برلمانية كبيرة جاءت عبر انتخابات شابها الكثير من شبهات التزوير، لينصب نفسه متكلمًا نيابة عن الدولة العراقية، ويتخذ مواقفًا سياسية بدلًا منها، وبسبب أن الحكومة العراقية من الضعف والارتهان لرغبات الكتل النيابية الكبيرة التي جاءت بها لسدة الحكم، نجدها تدافع عن مواقف الصدر غير المتزنة وتعتبره كأحد رموزها الوطنية والدينية.
كان مفهومًا لدينا حينما طالب بتنحي الرئيس اليمني والملك البحريني عن السلطة، كونهما في الصف المعادي لإيران التي تستمر بالتدخل بشأن بلديهما، لكن المستغرب أن يطالب بشار الأسد بالتنحي عن الحكم
تصريحات مقتدى التي جاءت ضمن سلسلة طويلة من التصريحات التي أدلى بها على حسابه بموقع تويتر، بعد فترة صمت دامت لأشهر، تناولت قضايا عديدة، بدءًا من النهي عن لعبة “البوبجي” وبيان حرمتها، ومرورًا بالحديث عن “الأضرحة الوهمية” التي يخدعون بها المغفلين من أتباعه، وانتهاءً بالدعوة إلى تنحي ثلاثة من الحكام العرب عن سدة السلطة، ولا يعلم أن مطالب الشعوب بتنحي الحكام العرب عن السلطة، كلفتهم سيلاً من دمائهم، أراقها أولئك الحكام بدم بارد.
لقد كان مفهومًا لدينا حينما طالب بتنحي الرئيس اليمني والملك البحريني عن السلطة، كونهما في الصف المعادي لإيران التي تستمر بالتدخل بشأن بلديهما، لكن المستغرب أن يطالب بشار الأسد بالتنحي عن الحكم! هل لأن الأسد بدأ يبتعد عن إيران شيئًا فشيئًا بسبب الضغط الروسي ويحرمها من مصالحها في سوريا؟ وهل الاتفاقية الأخيرة بين النظام السوري وروسيا لاستئجار ميناء طرطوس لمدة 49 سنة، مثَّل ضربة قاسية للنظام الإيراني، مما جعل الصدر يضع الأسد في قائمة الحكام الذين طالبهم بالتنحي!
وإلا فلماذا لم ينتقد الصدر الذي يدعي الوطنية ويريد تخليص العراق من التبعية لأي بلد، النظام الإيراني وهو يعيث في العراق فسادًا؟ أم أن العصا الإيرانية الغليظة تحول دون ذلك؟
من الطرائف المضحكة أن يتبارى من يسمون أنفسهم سياسيين عراقيين، لإعلان تأييدهم لتصريحات الصدر الطفولية، والرد على تصريحات الوزير البحريني، في الوقت الذي لا أرى سببًا يجعلهم غاضبين لهذا الحد من تصريحات الوزير البحريني
حكومة بغداد بدلًا من احتوائها تداعيات تصريحات الصدر، طالبت البحرين باعتذار رسمي، بسبب رد فعل وزير خارجيتها على تصريحات الصدر، وهي بهذا التصرف تغامر بعلاقاتها المثمرة والجديدة مع المملكة السعودية، لا سيما أن العراق اليوم يعتبر بأمس الحاجة لتلك العلاقة في ظرف العقوبات الأمريكية المفروضة ضد إيران، بل إنها وقفت صامتة لدعوات التظاهر ضد القنصلية البحرينية في النجف التي ربما ستجلب معها مخاوف تكرار حادثة مهاجمة القنصلية السعودية في مدينة مشهد الإيرانية، وبدلاً من ذلك انساقت مع هلوسات الصدر غير المسؤولة، ووجهت مذكرة احتجاج للحكومة البحرينية، ووصفت تصريحات وزير خارجيتها بأنها تدخل بالشأن الداخلي العراقي.
ألم تكن تصريحات الصدر وهو يدعو لتنحي ملك البحرين تدخلًا بالشأن البحريني؟ هل هناك دولة بالعالم تقبل تصريحات رسمية من شخصية مهمة “كما يصفونها” تدعو لقلب نظام الحكم فيها واستبداله بنظام آخر؟ هل نسيت حكومة بغداد أنها كانت سبَّاقة بالتدخل بالشأن البحريني حينما آوت رموز المعارضة البحرينية وأقامت لهم المؤتمرات السياسية والإعلامية في كربلاء وبغداد؟ ألم تستقبل حكومة بغداد زعيم المعارضة البحرينية قاسم عيسى في مدينة النجف والتقى بالمرجع الشيعي علي السيستاني وزعيم مليشيا “العصائب” قيس الخزعلي؟ ألم تقم شخصيات بحرينية وسعودية معارضة، مؤتمرًا خطابيًا ومعرضًا للصور ونشاطات أخرى مختلفة في العراق؟
ألم تَعْمَدَ شخصيات بحرينية معارضة إلى افتتاح مكتب للمعارضة البحرينية في بغداد باسم “ائتلاف شباب 14 فبراير في البحرين” وبرعاية عراقية، ووضعَ علم العراق عند المنصة التي ألقى منها نوري المالكي كلمته التي هاجم فيها البحرين واتهمها بالاستعانة بفدائيي صدام لقمع الاحتجاجات البحرينية؟ هل هذا كله لا يعتبر تدخلاً بالشأن الداخلي البحريني؟ ماذا يمكن تفسير إيواء العراق لعناصر إرهابية بحرينية مسلحة، ظهروا بمقاطع فيديو عديدة وهم يرتدون الزي العسكري مع عناصر الحشد الشعبي ويعلنون صراحةً معارضتهم للنظام البحريني وعزمهم على إسقاطه بقوة السلاح؟
مالذي يجعل وزير خارجية البحرين، يتكلم عن خضوع العراق لسيطرة إيران، وهو يعلم حق العلم، أن بلاده هي الأخرى تعاني من نفس المشكلة؟ أليست البحرين هي الأخرى محتلة من المملكة السعودية وتتحكم بإرادتها السياسية؟
ومن الطرائف المضحكة أن يتبارى من يسمون أنفسهم سياسيين عراقيين، لإعلان تأييدهم لتصريحات الصدر الطفولية والرد على تصريحات الوزير البحريني، في الوقت الذي لا أرى سببًا يجعلهم غاضبين لهذا الحد من تصريحات الوزير البحريني، وهو يعطي الصدر وصفًا دقيقًا لحالته، حينما قال: “أعان الله العراق عليه وعلى أمثاله من الحمقى المتسلطين”، أليس من الحُمق أن نُضيف دولة جديدة للدول التي تناصب العراق العداء بلا مقابل فقط إرضاءً لإيران؟ وإلا فما دخل البحرين في استقرار العراق وتجنيبه مشكلة التخاصم الإيراني الأمريكي التي كان يتحدث عنها الصدر في بيانه؟
بالمقابل، مالذي يجعل وزير خارجية البحرين، يتكلم عن خضوع العراق لسيطرة إيران وهو يعلم حق العلم أن بلاده هي الأخرى تعاني من نفس المشكلة؟ أليست البحرين هي الأخرى محتلة من المملكة السعودية وتتحكم بإرادتها السياسية؟ ربما فات وزير خارجية البحرين أن يستوعب المثل العربي القديم الذي يقول “إذا كان بيتك من زجاج فلا ترمي الناس بالحجر”، فكلاكما فاقدي الإرادة السياسية، وكلاكما تدوران بفلك دول أخرى ولا تملكان من أمركما شيئًا”، وسيستمر الصراع بالوكالة بين العراق والبحرين، ما بقي النظامان كذلك، وما دام المطبخ السياسي لكلا البلدين موجودًا في طهران والرياض.