حين غنت الفنانة سعاد حسني أغنيتها الشهيرة “الدنيا ربيع والجو بديع.. قفل لي على كل المواضيع.. قفل قفل قفل قفل قفل.. ما فيناش كاني وما فيناش ماني.. كاني ماني إيه.. دا الدنيا ربيع.. الدنيا ربيع الدنيا ربيع” كانت تسطر بها حالة البهجة والسرور التي تخيم على الشارع المصري بقدوم أعياد الربيع.
إن تصادف زيارتك للمحروسة لأول مرة في هذا اليوم فلست في حاجة لأن تسأل عنه، فحين تستشعر صعوبة إيجاد موطئ قدم لك في الحدائق والمتنزهات التي ربما كانت تشكو قلة زوارها قبل وبعد ذلك، وحين تتمايل مع أنغام وألحان الربيع، وحين تخطف أبصارك الألوان المبهجة، فأنت حتمًا في شم النسيم.
طقوس عدة توارثها المصريون في الاحتفاء بهذا اليوم، بعضها يعود للعصر الفرعوني، والآخر له طابع ديني (مسيحي). ورغم حالة الجدل السنوية بشأن مشروعية الاحتفال به، فإن ذلك لم يؤثر على تلك الطقوس التي باتت علامة مسجلة في تاريخ المصريين، وجزءًا من الهوية المصرية يتناقله جيل بعد جيل.
أصول فرعونية
يعود الاحتفال بشم النسيم إلى عام 2700 قبل الميلاد، حيث كان يسمى عند الفراعنة بـ”عيد شموش” الذي يعني في الهيروغليفية “بعث الحياة”، إلا أنه ومع مرور الوقت تغير الاسم لا سيما في العصر القبطي، إذ تحوّل “شموش” إلى “شم” ثم أضيفت له كلمة “النسيم” في إشارة إلى وصول نسيم الربيع، ليستقر الاسم بعد ذلك على “شم النسيم” حسبما أشارت الدكتورة فاطمة الزهراء الجبالي أستاذ الآثار المصرية بكلية الآثار جامعة الفيوم.
ووفق الجداريات المكتشفة فإن شم النسيم يشير إلى بداية حياة جديدة عند الفراعنة، حيث استقبال فصل الربيع بنسماته وأجوائه الصافية، وكان للاحتفال به طقوس مميزة سطر المصريون بها تاريخًا يحكى حتى اليوم، وذلك وفق تصريحات الجبالي لـ”نون بوست”.
وأضافت أن طقوس الاحتفال بهذا اليوم كانت تبدأ من الليلة التي تسبقها وكانت تسمى بـ”ليلة الرؤية” التي ورد ذكرها في العديد من البرديات، ومع إشراقة شمس العيد يجتمع المصريون القدماء أمام الواجهة الشمالية للهرم حيث يقيمون هناك مهرجانًا شعبيًا ضخمًا يظل حتى غروب الشمس، فيظهر قرص الشمس وهو يميل للغروب مقتربًا تدريجيًا من قمة الهرم حتى يبدو للناظرين وكأنه يجلس فوق قمة الهرم.
“الاحتفال بهذا العيد لم يقتصر على عامة الشعب وفقط آنذاك، بل كان يضم مختلف أطياف الشارع المصري بما فيهم الفرعون نفسه وكبار رجالات الدولة، أما على المستوى المجتمعي فكان يبادر الزوج زوجته بزهرة اللوتس صبيحة هذا اليوم تعبيرًا عن حبه لها وإيمانه بدورها في حياته بجانب ما ترمز إليه من معاني البعث على الحياة والخلود في معتقد المصريين القدماء” هكذا قالت أستاذة الآثار المصرية.
يعود الاحتفال بهذا اليوم إلى عصر الفراعنة
جدلية مشروعية الاحتفال
مع اقتراب أعياد الربيع كل عام تضج الساحة الإعلامية ومنصات السوشيال ميديا بالسؤال الأكثر حضورًا: الاحتفال بشم النسيم حلال أم حرام؟ حيث ينبري عشرات الدعاة ورجال الدين للإفتاء بمشروعية الاحتفاء بهذا اليوم الذي يراه البعض عيدًا مسيحيًا فيما يعتبره آخرون عادة فرعونية.
وتنقسم الصورة حيال أحكام الشرع بشأن هذا اليوم إلى قسمين: الأول وهو القسم المتعلق برؤية الدولة الرسمية التي في الغالب لا تحرم شيئًا، فكل الاحتفالات عندها مشروعة في الغالب، حيث أفتى الدكتور شوقي علام مفتي الجمهورية المصرية “أن شم النسيم من العادات المصرية التي لا توجد فيها من الطقوس ما يخالف الشريعة الإسلامية، ومن المعروف أن العادات والأعراف، طالما أنها لا تخالف الشرع فهي جائزة، ولا يلتفت إلى قول من قال إن هذا الاحتفال له من الجذور ومن الأصول، فإن الذين يحتفلون بهذا اليوم لا يلتفتون بحال من الأحوال إلى ذلك”.
أما القسم الثاني فيمثله السلفيون الذي يرون بتحريم الاحتفال بهذا اليوم، كونه يشبه الأعياد الوثنية عند الفراعنة أو أعياد المسيحيين المخالفة للعقيدة، مستندين في ذلك إلى أقوال العلماء منهم شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – الذي قال: “هذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله تعالى {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} أ.هـ (الاقتضاء 1/314)”، وهو نفس ما ذهب إليه الإمام الصنعاني – رحمه الله تعالى -: “فإذا تشبه بالكفار في زي واعتقد أن يكون بذلك مثله كفر، فإن لم يعتقد ففيه خلاف بين الفقهاء: منهم من قال: يكفر، وهو ظاهر الحديث، ومنهم من قال: لا يكفر ولكن يؤدب) سبل السلام (8/248)”.
تتنوع مائدة المصريين في هذا اليوم بالعديد من الأطعمة التي ترتبط في معظمها بمعتقدات فرعونية، على رأسها البيض الملون الذي يرمز عند المصريين القدماء إلى خلق الحياة
طقوس مميزة
بعيدًا عن جدلية الحكم الشرعي بشأن الاحتفال بشم النسيم إلا أن للمصريين طقوسًا مميزة في هذا اليوم، تبدأ باليوم الذي يسبقه، الذي يأتي غالبًا يوم السبت، ويطلق عليه “سبت النور” وفيه يتم إشعال النيران (رمزيًا) في الليل من بعض الأشخاص خاصة في القرى والأرياف.
كما يسمى أيضًا بـ”عيد الكحل” حيث يكتحل الجميع في هذا اليوم، فترى أعين الغالبية لا سيما الأطفال وصغار السن تميل إلى اللون الأزرق الداكن أو الأسود بحسب نوعية الكحل المستخدمة، والنساء في القرى لا يعرفن أقلامًا للكحل، فكثيرات منهن يرسمن الحواجب بالسبابة، يجلبنه من الأسواق صلدًا، حجرًا تختلط زرقته بلمعة فضية، ويسحقنه في أيادي الهون النحاسية الصفراء، وما إن يشرق أحد الأقباط حتى تصير كل شوارعنا نظيفة، ورش المياه أمام الأبواب طقس مقدس كذلك.
ومن الطقوس المميزة كذلك، تعليق أوراق شجر “الصفصاف” على أبواب المنازل، كما يرسم الصبية حلقات من فروع هذا النوع من الأشجار، ويصعنون منه أطواقًا (أكاليل) تزين الرأس بألوان زاهية، بالإضافة لقيامهم بتزيين الشوارع بأعواد من النباتات العطرية الأخرى كالنعناع والريحان.
تكتظ الحدائق والمتنزهات بالزائرين في شم النسيم
ثم يأتي “البيض الملون” أحد أبرز مظاهر الاحتفاء بهذا اليوم، فقلما تجد بيتًا في مصر في هذا اليوم خاليًا من البيض الملون، كذلك الفطائر والمعجنات التي يحرص الأطفال والكبار على حد سواء على تناولها مع إشراقة شمسه حيث الخروج إلى الحدائق والمتنزهات التي تضج بالزائرين في مشهد لا يتكرر في العام مرتين.
يتصدر طقوس شم النسيم في مصر السمك المملح “الفسيخ والرنجة” الوجبة الأكثر حضورًا على موائد المصريين طيلة الساعات الـ24 على مدار اليوم، ورغم التحذيرات المتتالية كل عام بخطورة تناول هذا النوع من الأسماك الذي يتضمن العديد من المخاطر الصحية على رأسها التسمم نتيجة طرح كميات كبيرة غير صالحة منها، فإن ذلك لم يؤثر في حركة البيع والشراء، إذ بلغ سعر كيلو الفسيخ قرابة 200 جنيه (12 دولارًا) وهو الرقم الأغلى على مدار تاريخ مصر بأكمله.
يعود تناول الأسماك إلى بداية اهتمام الفراعنة بتقديس النيل نهر الحياة، حيث ورد في متونه المقدسة أن الحياة في الأرض بدأت في الماء ويعبر عنها بالسمك الذي تحمله مياه النيل من الجنة
مائدة المصريين في شم النسيم
تتنوع مائدة المصريين في هذا اليوم بالعديد من الأطعمة التي ترتبط في معظمها بمعتقدات فرعونية، على رأسها البيض الملون الذي يرمز عند المصريين القدماء إلى خلق الحياة، لذا كان يعدّ أكل البيض في الاحتفال بقدوم الربيع من الشعائر المقدسة، بحسب أستاذة الآثار المصرية التي أضافت أن المصريين كانوا ينقشون على البيض أمنياتهم ودعواتهم للعام الجديد ثم يضعونه في سلال من سعف النخيل ويعلقونها في شرفات المنزل لتحظى ببركات نور الإله عند شروق الشمس.
وقبطيًا.. فإن تلوين البيض باللون الأحمر على وجه الخصوص طقس بدأ في فلسطين عندما أمر القديسون في الديانة المسيحية بصبغ البيض باللون الأحمر ليذكرهم بدم المسيح، ثم انتقلت تلك العادة إلى مصر، وفق الجبالي التي أشارت إلى حفاظ المصريين على هذه العادات المنقولة بجانب ما توارثوه من الرموز والطلاسم والنقوش الفرعونية.
الفسيخ والبصل على رأس مائدة المصريين في هذا اليوم
أما تناول البصل والثوم في شم النسيم فيعود إلى أواسط الأسرة السادسة الذي ارتبط ظهوره بما ورد في إحدى أساطير منف القديمة أن أحد ملوك الفراعنة كان له طفل وحيد وكان محبوبًا من الشعب، وأصيب بمرض غامض أقعده عن الحركة وعجز الأطباء والكهنة والسحرة عن علاجه ولازم الفراش عدة سنوات واستدعى الملك الكاهن الأكبر لمعبد آمون لعلاج الطفل فعالجه بثمار البصل.
ويعود تناول الأسماك إلى بداية اهتمام الفراعنة بتقديس النيل نهر الحياة، حيث ورد في متونه المقدسة أن الحياة في الأرض بدأت في الماء ويعبر عنها بالسمك الذي تحمله مياه النيل من الجنة، وقد ورد عن بعض المؤرخين أن المصريين كانوا يأكلون السمك المملح في أعيادهم ويرون أن أكله مفيد في وقت معين من السنة وكانوا يفضلون نوعًا معينًا لتمليحه وحفظه للعيد أطلقوا عليه اسم (بور) وهو الاسم الذي حور في اللغة القبطية إلى (يور) وما زال يطلق عليه حتى الآن.
وفي المجمل يبقى شم النسيم رغم الجدل المثار بشأن مشروعية الاحتفال به عيدًا للمصريين يتنفسون خلاله الصعداء، فالكثيرون ربما لا يعرفون كونه عيدًا مسيحيًا أم فرعونيًا، لكن إعلان البيوت المصرية حالة الطوارئ الاحتفالية فيه تشعرك بأنه لا فرق بينه وبين عيد الأضحى أو الفطر، ربما الفارق الوحيد بينهما هو العيدية فقط.