بخطواتٍ واسعة اقتحمت المرأة العربية سوق العمل في جميع المجالات الاقتصادية تقريبًا، ومع أن وجودها ونجاحها في هذا الميدان كان محاطًا بالعديد من العراقيل والتحديات التقليدية المتعلقة بالعادات الاجتماعية والظروف المعيشية القاسية، فإنها لم تخطئ في التصويب نحو أهدافها واستطاعت أن تبرز اسمها في العديد من قطاعات الاقتصادات المحلية.
فعلى الرغم من رغبتها في تحملها المسؤولية المالية، فإن غالبية العاملات في هذه المجالات لا يحصلن على أجرهن العادل، مقارنةً مع الرجل، إذ تعتبر مشاركتهن جزءًا من المسؤوليات الاجتماعية والواجبات العائلية، وبعيدةً كل البُعد عن المعادلة الاقتصادية القائمة على العائد المادي والتدرج المهني، ولكي نفهم هذا الواقع المرير، نستعرض في هذا التقرير المهن التي تعتمد على المرأة بشكل أساسي في إنتاجها، ولكنها في الغالب لا تمنحها حقوقها الاقتصادية كاملةً.
العراق.. نساء القيمر والريف
يتميز هذا البلد الذي أنهكته الحروب والأزمات السياسية المتتالية بالعديد من المنتجات المحلية، ومن أبرزها صناعة القيمر أو كما يُسمى “قيمر العرب” الذي يفرض نفسه على موائد العراقيين في الأفراح والأحزان، والأيام العادية والاحتفالية، وذلك لما فيه من فوائد غذائية، حيث يحتوي على فيتامين أ وفيتامين د والكالسيوم والبوتاسيوم والصوديوم، ولا يمكن الاستمتاع بمذاقه إلا برفقة الكاهي والعسل والشاي العراقي الأسود.
وبالنسبة للعراقيين، فلا يمكن تخيل الأحياء الشعبية في الصباح الباكر دون بائعات القيمر اللواتي يفترشن الأرض مع بزوغ الشمس في محطات الحافلات ووسائل النقل العمل، وبالجانب من الأفران والمحلات التجارية، إذ تحمل البائعة القيمر على رأسها، مشكلة طوابق عالية، وتبيع الحليب والزبدة بجانبه في أوانٍ كبيرة مغطاة بقطع من القماش الأبيض، فيعتبر هذا المشهد اليومي جزءًا من القصص الشعبية والموروثات الثقافية التي تختزن في ذاكرة العراقيين.
امرأة تبيع القيمر واللبن والحليب في سنة 1941
يُطلق على هؤلاء النساء عدة أسماء منها: “أمهات الكيمر” أو “نساء السحور” لأنهن يبعن هذه القشطة قبل شروق الشمس، فهي طبق رئيسي في وجبة الفطور، وذلك بالإضافة إلى “المعيديات”، وهو لفظ يطلق على الرجال والنساء، مع العلم أن الاسم يحمل معنى سلبيًا في المجتمع العراقي، ففي بعض الأحيان يستخدم للإشارة إلى الأشخاص الرجعيين، كنوع من انتقاص القيمة والتحقير.
المميز في هذا المنتج أن الآلات لم تشوه مذاقه وظل يصنع يدويًا بشكل يومي، وذلك ما يضمن طعمه الطازج، إذ يُصنع من حليب الجاموس في أهوار العراق وبعض المناطق الأخرى التي تطل على النهر وتكثر فيها تربية الجاموس مثل الكمالية والعبيدي والشاكرية والنهروان، وهي البقع التي تمضي فيها “أمهات الكيمر” ساعات طويلة في تسخين وتحريك الحليب حتى تصنع القيمر.
رغم تمثيل النساء الريفيات نحو ثلث -30% – نساء العراق، فإن الحماية الاجتماعية التي تمنحها التقاليد العشائرية للرجل العراقي تحرم المرأة الريفية العاملة من ملكية الأرض
في الجهة المقابلة، برز حضور المرأة العراقية في قطاع الزراعة، لكنه تراجع مع تدهور مساحات الأراضي الزراعية التي تعرضت للجفاف والدمار والتصحر بسبب تفاقم الأزمات الأمنية الداخلية التي عطلت نمو قطاع الزراعة، ومع ذلك يدلل تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العراق أن “المرأة في المناطق الريفية أكثر نشاطًا من المرأة في المناطق الحضرية، ولكنها تواجه أيضًا انعدام الأمن الغذائي، وعوائق أكثر أمام تعليمها”، ويضيف بأنها تشارك في الأنشطة غير الرسمية ولذلك فهي لا تملك أي حقوق وغير محمية من أي انتهاكات في مجال العمل، كما أنها غالبًا تعمل في المزارع العائلية التي تربطها فيها صلة قرابة، ما يعني أن جهودها لا تعود عليها بالفائدة المادية وتبقى في إطار المساعدة العائلية، ولذلك فهي عرضة للفقر بصورة أكبر من المرأة العاملة في المدن والقطاعات المهنية الأخرى.
ورغم تمثيل النساء الريفيات نحو ثلث – 30% – نساء العراق، فإن الحماية الاجتماعية التي تمنحها التقاليد العشائرية للرجل العراقي تحرم المرأة الريفية العاملة من ملكية الأرض – بحسب تقارير غير رسمية، تمثل المرأة العراقية أقل من 5% من مالكي الأراضي الزراعية – واتخاذ القرارات وتبقيها سجينة لظروف العمل المنهكة والأجور المتدنية، وذلك بحسب تقرير “واقع المرأة الريفية في العراق” الصادر عن قسم إحصاءات التنمية البشرية لعام 2017.
فلسطين.. المزارعات المهمشات
تعتمد كل من الضفة الغربية وقطاع غزة في تأمين احتياجاتهم المادية والغذائية على قطاع الزراعة بشكل رئيسي، ونظرًا لأن ما يقرب من 62% من الأعمال الزراعية تعتمد على الأيدي العاملة النسائية، فلا يمكننا سوى الحديث عن أهمية المرأة في تعزيز النمو الاقتصادي، وسط محاولات التهميش والاستغلال التي تمر بها النساء الفلسطينيات في الريف، سعيًا لتحسين المستوى المعيشي لأسرهم والنجاة من قيود وتشديدات الاحتلال على أنشطتهم في هذا القطاع.
ومع الكثير من الجهود البدنية والأعباء الحياتية، تعاني هؤلاء النسوة من ظروف العمل الشاقة والأجور الزهيدة، فرغم أن البعض منهن يعملن لأكثر من 16 ساعة يوميًا، فإنهن محرومات بشكل شبه كامل من الدعم الحكومي أو القانوني الذي يساعدهن في الحصول على حقوقهن وتعزيز وصول منتجاتهن إلى السوق وجني الأرباح بما يتساوى مع مجهوداتهن التي بذلوها لتقوية الاقتصاد واستئصال الفقر من حياتهن، وبحسب بعض التقديرات، فإن 71% من المزارعات الفلسطينيات لا يتقاضين أجورهن، ومن يتقاضين، يجنون أقل من 20-40% مقارنةً مع أجور الرجال.
19% فقط من العاملات مسجلات في الجمعيات التعاونية الزراعية، ما يجعل البقية منهن محرومات من الثروة الاقتصادية والدعم المؤسسي
ويعود السبب في ذلك بالمقام الأول إلى أن مشاركتهن تصب ضمن القطاع غير الرسمي الذي لا يضمن لهن أي حقوق اقتصادية ولا يحميهن من أي انتهاكات استغلالية، ولذلك تبقى المزارعات عاجزات عن تحقيق فائدة اقتصادية ملموسة، فعلى الرغم من مشاركتها وإدارتها للحصاد وجني المحصول وتعبئته وتغليفه، تستبعد من قرارات تمليك الأراضي ورؤوس الأموال، على اعتبار أن مشاركتها تطوع عائلي ليس أكثر.
وبحسب تقارير أخرى، فإن 87% من ساعات العمل في الزراعة تقوم بها المرأة، وبالتالي فهي مسؤولة عن إنتاج 70% من الغذاء ولكن 19% فقط من العاملات مسجلات في الجمعيات التعاونية الزراعية، ما يجعل البقية منهن محرومات من الثروة الاقتصادية والدعم المؤسسي وعرضة لأطماع التجار وأصحاب المشاريع الذين يفرضون ساعات عمل مضاعفة دون مقابل مادي يُذكر.
المغرب.. زيت الأركان كرمز نسوي
بالنسبة إلى المرأة المغربية، فهي معروفة باحترافها إنتاج زيت الأركان، فقد جرت العادة أن تخرج النساء في جنوب المغرب الساعة السادسة صباحًا من منازلهن للعمل خارجًا وهو أمر غير مألوف في المناطق الريفية التي عادةً ما تلزم فيها النساء المنازل بينما يتولى الرجال المسؤوليات المادية، لكن في بعض تلك المناطق غابت هذه النظرة المحافظة، فقد ساعد اكتشاف زيت الأركان المرأة القروية على ترؤس تعاونيات وجمعيات مسؤولة عن إنتاج وتصنيع هذا الزيت الذي يعد واحدًا من أكثر زيوت العالم ندرةً وفائدةً من الناحية الطبية والتجميلية والاقتصادية.
إذ تنتج النساء المغربيات نوعين من هذا الزيت، الأول زيت خاص بالطعام ويكون لونه بنيًا داكنًا وذا طعم قوي، والآخر خاص بالتجميل ولونه أصفر ذهبي. جدير بالذكر أن طريقة إعدادهما تختلف بعض الشيء، فعادةً ما يتم تحميص النوع الأول، أما الثاني فيترك دون تحميص وتكون تكلفته أعلى مقارنةً مع الأول، وذلك لأن الزيت التجميلي ينتج بكميات أقل من الزيت الغذائي، عدا أنه يحتاج إلى جهد بدني أكبر ووقت أطول قد يصل إلى 3 ساعات.
تنتهي عملية التحضير المرهقة التي تتطلب جهدًا بدنيًا وإتقانًا كبيرين، بإنتاج كميات قليلة من الزيت مقارنةً مع الطلب المحلي والدولي المرتفع، فعلى سبيل المثال يحتاج تصنيع لتر واحد من هذا الزيت إلى 40 كليوغرامًا من ثمار الأرغان و3 أيام من العمل، وعادةً ما تنتج الجمعيات نحو 4 لترات يوميًا ثم يتولى الرجال مهمة ترويجها وبيعها في الأسواق الشعبية مقابل 10 أو 13 يورو تقريبًا للتر الواحد.
التعاونيات النسائية ما زالت مستبعدة من الأسواق الدولية، إذ تذهب نسبة كبيرة من الأرباح إلى الوسطاء والمندوبين والشركات الكبرى
وفي أحيانٍ أخرى، يأتي السياح الأجانب إلى الجمعيات المتخصصة في تصنيع هذا الزيت الفريد من نوعه، حبًا للاستطلاع وفضولًا في رؤية مراحل تصنيع هذا الزيت الذي تتسابق الدول الأخرى على استيراده وزراعته في أراضيها بغرض تطويره جينيًا إن لزم الأمر، وكما ساهم انجذاب السياح لهذا الزيت وزيادة طلبهم عليه إلى مضاعفة أسعاره بشكل ملحوظ.
وغالبًا ما تنتشر الأيدي العاملة النسائية في التعاونيات المسؤولة عن تصنيع وإنتاج زيت الأركان، وهي واحدة من المراكز التي ضمنت للنساء الاستقلال الاقتصادي والقوة الاجتماعية بعدما كانت المرأة المغربية القروية ممنوعة من الخروج من منزلها، ولكن مع عملها في صناعة زيت الأركان تبدلت الأحوال تدريجيًا، ومع ذلك تشير إحدى المسؤولات في هذا القطاع، أن التعاونيات النسائية ما زالت مستبعدة من الأسواق الدولية، إذ تذهب نسبة كبيرة من الأرباح إلى الوسطاء والمندوبين والشركات الكبرى.
تونس.. النساء والبترول الأخضر قصة غير عادلة
بشكل مثير للاهتمام تشكل المرأة التونسية 92% من القطاع الفلاحي، بدايةً من جني المحصول وتنقيته من الأعشاب والحشرات الضارة ونهاية بالتوصيل، فبحسب جريدة الصباح، تتولى النساء 10% من أعمال الحراثة و17% في نقل المحصول، وتحديدًا في المناطق المنتجة لزيت الزيتون الذي يتطلب ساعات طويلة وجهد كبير لجمع حبات الزيتون عن أغصان الأشجار العالية وتعبئتها في أكياس كبيرة لنقلها إلى المعصرة وتحويلها إلى زيت والمعروف باسم “البترول الأخضر” بسبب أهميته الاقتصادية، إذ تعد تونس ثالث أكبر مصدر لزيت الزيتون في العالم بعد إسبانيا وإيطاليا، كما كانت ترسل شحناتها إليها قبل أن تمتلك كل دولة علامتها التجارية الخاصة.
صرحت بعض العاملات أن أجورهن لا ترتفع عن 12 دينارًا وأن فجوة الدخل بينهن وبين الرجال تصل إلى الثلث، إلا أنهن مجبورات عن العمل، والأسوأ من ذلك، أنهن عرضة لحوادث العمل المميتة
ومع وجود نحو 70 مليون شجرة زيتون في تونس وتمثيلها نحو 15% من القيمة الإجمالية للإنتاج الزراعي، لا يحظى العاملون في هذا القطاع بالامتيازات المتوقعة، لا سيما بالنسبة للمرأة الريفية التي تمثل 35.5% من إجمالي عدد النساء التونسيات التي تمارس دورًا حيويًا وفعالاً في قطاع الفلاحة ولكنها لا تملك أي غطاء قانوني أو حكومي يحميها من ساعات العمل التي قد تصل إلى 12 ساعة يوميًا، إذ تؤكد 73% من العاملات أنهن يعملن دون عقود رسمية وأفادت 19% أنهن يتقاضين أجورهن من الوسطاء ولذلك لا يتمكن عادةً من المطالبة بحقوقهن بشكل مباشر وفعال.
وفي ظل تجنب الرجال هذه المهمة، صرحت بعض العاملات أن أجورهن لا ترتفع عن 12 دينارًا وأن فجوة الدخل بينهن وبين الرجال تصل إلى الثلث، إلا أنهن مجبورات عن العمل، والأسوأ من ذلك، أنهن عرضة لحوادث العمل المميتة، إذ تقول المندوبة للمرأة والأسرة والطفولة في محافظة القيروان، أنيسة السعيدي: “النساء الفلاحات معرضات إلى الانتهاك على مستوى التفاوت في الأجور والنقل غير الآمن”، إشارة إلى ظروف السلامة المعدومة.