في اليوم العالمي للرقص.. محاولة فهم من زاوية أخرى

يُقال أنّ الإنسان عرف الرقص والحركات والإيماءات الإيقاعية قبل أنْ يعرف اللغة والكلمات. وبالرغم من أنّ الرقص يحمل منذ زمن وصمةً سلبية في كثير من المجتمعات والثقافات لارتباطه بالمجون واللهو وانعدام الجدّية، إلا أنّه يحتمل تاريخًا قديمًا ومعقّدًا يخبرنا الكثير عن الإنسان والبشرية وتطوّرهما الثقافي والديني والاجتماعي.
وفي حين أنّ تاريخ الرقص لا يزال ضبابيًا حتى اللحظة، إلّا أنّ الأدلة الأثرية التي عُثر عليها في كهوف بيمبتكا الصخرية في الهند تُشير إلى أنّ الإنسان، وتحديدًا الهومو إريكتوس، قد عرف الرقص الجماعي ومارسه منذ أكثر من 30 ألف عام. أمّا ما وصلنا عن الفراعنة فيخبرنا أنّ الكهنة المصريّين قد عرفوا أول أشكال الرقص المنظّم كطقسٍ شائع للعبادة الدينية، وهو ما يظهر على لوحات القبور الفرعونية حيث ترقص النساء بطريقةٍ توحي أنّهنّ يتقربنَ إلى الآلهة.
استمرّ هذا الطقس لاحقًا في الاحتفالات الرومانية واليونانية، فقد عرف قدماء الإغريق الرقص المنظّم والجماعي في الأماكن المفتوحة، الأمر الذي أدّى فيما بعد إلى بزوغ فكرة المسرح اليوناني في القرن السادس للميلاد وتحوّل الرقص إلى جزءٍ أساسيّ من الثقافة.
جزء من المنحوتات التي عُثر عليها في كهوف الهند وتشير إلى أنّ الإنسان عرف الرقص منذ 30 ألف عام
لم يعرف الإنسان الأوّل الرقص المنفرد أبدًا وإنّما بصورته الجَماعية التي قد يكون أقدمها الرقص الدائري أو الرقص في دائرة والذي شاع بين العديد من الشعوب القديمة، سواء في الطقوس الدينية أو في المناسبات الدنيوية الخاصة. يعتقد علماء الأنثروبولوجيا أنّ أسلافنا لجؤوا للرقص كشكلٍ من أشكال النشاطات الجماعية التي هدفت لتقوية المجتمع وتعزيز العمل الجماعيّ.
فيما ينظر علم النفس التطوّري للرقص على أنه سلوكٌ يهدف إلى تعزيز التعاون والتكافل الضروريْن للبقاء والاستمرار بين البشر الأوائل. إذ كان الرقص من وجهة نظر أسلافنا في عصور ما قبل التاريخ وسيلةً للترابط والتواصل، لا سيّما خلال الأوقات الصعبة والحالكة.
وبكلماتٍ أخرى، يعتقد العلماء أنّ البشر الأوائل طوّروا من حركاتهم وإيقاعاتهم المنسّقة والمنظّفة لتعزيز فرص بقائهم ونجاتهم، سواء من خلال تعزيز الترابط القبلي بين أبناء المجموعة نفسها، أو أنّه كان بالفعل وسيلةً بدائية لجذب وانتقاء الشريك الجنسيّ والتزاوج. وربّما هذا ما يفسّر لنا التشابه العالميّ بين البشر جميعهم في حبّهم وميلهم للرقص؛ وهو الميل الذي يصفه علماء النفس والتطوّر بالفطريّ. وربّما يفسّر لنا هذا ميل الأطفال أو حديثي الولادة للرقص والاندماج بالحركات الإيقاعية في مرحلةٍ مبكّرة من أعمارهم حتى قبل تطوّر حسّهم الحركيّ.
الرقص الصوفيّ: نظرة من زاوية أخرى
الجميع منّا على درايةٍ بالرقص الصوفي أو المولوية، حيث يرتدي الدراويش ملابس ناصعة البياض بينما يدورون حول أنفسهم في نشوةٍ تامة. وممّا لا شكّ فيه فإنّ رقصة الدراويش أكثر بكثير من مجرّد مشهدٍ أو عرضٍ راقص. ولنحاول تفسيره ربّما ينبغي علينا رسم صورة سريعة لحيثيته: يدور الراقصون حول مركز الدائرة متأمّلين في ذواتهم باستغراقٍ تامّ طالبين التكامل والرقيّ بالنفس إلى مرتبة الصفاء الروحيّ والابتعاد عن العالم الماديّ.
يُقال أنّ الدرويش أو الصوفيّ يحتضن البشرية جمعاء بينما يدور من اليمين إلى اليسار حول قلبه. وهو المنهج الذي تقوم عليه الصوفية؛ التحرر من الأنانية والعالم المادّي، الأمر الذي يتّفق مع النظريات التي ترى في الرقص وسيلةً لتعزيز مشاعر الانتماء الجماعيّ والتخلّص من مركزية الأنا وتقوية ارتباطها بالآخر.
يتفق الرقص الصوفي مع غيره من أشكال الرقص الديني في أنه يهدف إلى تعزيز مشاعر الانتماء الجماعيّ والتخلّص من مركزية الأنا وتقوية ارتباطها بالآخر
وفي حال اتّفقنا أنّ الرقص الذي ابتدعه البشر يشترك في تاريخٍ موحّد، وذلك وفقًا لعلماء التاريخ والأنثروبولوجيا والنفس، فربّما يمكننا تفسير العديد من أشكال الرقص، سواء الديني أو غيره، في كثيرٍ من الثقافات والشعوب حول العالم.
دعنا هنا نركّز على الرقص الديني الذي تحوّل إلى طقوسٍ مقدّسة نتيجةً لحاجة الإنسان الناشئة للدين والروحانيات وتحقيق التوازن بين الجسد والروح دون هيمنة الجسد وغرائزه البدائية فقط. وإذا ما عدنا إلى عصور ما قبل الأديان السماوية، لوجدنا أنّ الإنسان لطالما كان في بحثٍ مستمرٍ عن إلهٍ أو قوةٍ خارقة في الطبيعة يتّحد معها ويسعى للتقرّب منها بطرقٍ شتّى منها الرقص وحركات الجسد.
ينظر المتصوّفة والدراويش للرقص كوسيلة للترابط الحقيقي بين الأشياء والظواهر في الطبيعة
أشارت بعض الدراسات إلى أنّ التزامن في حركات الرقص والأداء جماعي يطمس التمييز بين الذات والآخر. ولعلّ الرقصات الدينية أو الحركات المتزامنة والمنظّمة التي تتدرّب عليها الجيوش والمجنّدون ما هي إلّا دليلٌ على ميل الإنسان منذ القدم إلى تعزيز التعاون والتزامن فيما بينه وبين الآخرين من حوله.
وفي الحقيقة، يُنظر للرقص الديني القديم على أنه محاولة تعبيرية عن وحدة الإنسان مع الإله أو مع الطبيعة الأم. فيما كانت طقوس الرقص تحدث غالبًا في نمطٍ دائريّ يتمركز حول منطقةٍ محدّدة تعدّ مقدّسة، وهو محاكاة لحركة الطبيعة بما فيها من أجرام وأجسام. وفي الصوفية، فالدوران حول النفس مستوحىً من دوران الكواكب حول الشمس. أيْ أنّ الرقص بالأساس كان شكلًا رمزيًا يعتمد بالكامل على الطبيعة وقواها الخارقة.
ومن هنا نشأت أشكال الرقص المرتبطة بالقوى الروحانية للطبيعة، كالصوفية وغيرها من الطقوس التي تنظر للرقص كوسيلة للترابط الحقيقي بين الأشياء والظواهر في الطبيعة.
العلاج بالرقص: محاولة لدمج الجسد والعقل والروح
في الآونة الأخيرة، لم يعد الحديث عن الرقص كمجرّد حركات معيّنة يقوم بها الأفراد والجماعات، بل أصبح وسيلةً محتملة وناجحة للعلاج النفسيّ لا تعتمد على الأساليب التقليدية في العلاج النفسي مثل الأدوية أو الكلام والحديث عن المشكلات الذي يعتبره الكثيرون الطريقة الوحيدة لإيجاد الحلول والتعافي من الصعوبات والآلام. فخرجت لنا أساليب جديدة بما فيها الدراما والمسرح والرقص والرسم وغيرها.
يعتمد العلاج بالرقص على العلاقة بين الجسد والعقل والروح والتكامل بين هذه العناصر الثلاثة التي ترتبط فيما بينها ارتباطًا وثيقًا وقويًّا لا يمكن فصله
والرقص من وجهة نظر العلاج النفسيّ هو أداة ضمنية وتعبيرية عن النفس والذات تساعد في تعزيز تكامل واندماج الجوانب الإدراكية والعاطفية والجسدية والروحانية للذات أو النفس. وتساعد في الوقت نفسه في التعبير عن الذات والتواصل معها من جهة ومع الآخرين من حولها من جهةٍ ثانية وتخلق صحةً ووجود أفضل للأفراد والجماعات.
وتمامًا كما الرقصات الدينية القديمة التي عرفها الإنسان منذ الأزل، يعتمد العلاج بالرقص على العلاقة بين الجسد والعقل والروح والتكامل بين هذه العناصر الثلاثة التي ترتبط فيما بينها ارتباطًا وثيقًا وقويًّا لا يمكن فصله أو هدمه. أي أنّه يشدّد على ضرورة الاتّصال الكامل مع الذات بجوانبها المادّية والروحانية.
قد يتساءل كثيرون هنا إنْ كان الرقص يدعم الاتّصال مع الذات بالفعل أو عن مدى فعاليته كعلاج وإحداث تغييرات إيجابية عند الممارسين أو الخاضعين له. ثمّة عددٌ من الدراسات تُشير إلى أنّ هذا النوع من العلاج يمكن أنْ يحسّن من المزاج والرفاهية النفسية ويحسّن من صورة الجسد “body-image”، عوضًا عن أنّه يُفيد في حالات الاكتئاب، فهو يعزّز مستويات السيروتونين والأوكسيتوسين في الدماغ.
بالنهاية، لا يزال هذا النوع من العلاج حديثًا للغاية ولا تزال نتائجها وتصوّراتها في تطوّر وتشكّل ملحوظ، وقد تُجدي نفعًا مع بعض الحالات دون غيرها. ولكن تبدو النتائج إيجابية في معظم الحالات، ممّا يجعل هذا النوع من العلاج بديلًا جذابًا للعلاجات النفسية التقليدية، لا سيّما عند من يجدون أنفسهم غير ميّالين للكلام والحديث والتواصل اللفظي مع المعالِج والآخرين.