قبل 25 سنة، أجريت أول انتخابات ديمقراطية بمشاركة “السود” في جنوب إفريقيا، انتخابات أفرزت نظامًا جديدًا يقوده الزعيم نيلسون مانديلا المؤمن بالتعدد والاختلاف والحرية، لينتهي بذلك نظام التمييز العنصري الذي حكم البلاد طيلة عقود عدة، ليبدأ نظام جديد قوامه التصدي للعنصرية المؤسساتية والفقر وعدم المساواة وتعزيز المصالحة العرقية، لكن هل تحقق ما سعى له مانديلا ووضع أرضية له؟
ارتفاع نسبة الفقر
يقول رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوسا إنه رغم مرور 25 عامًا على انتهاء نظام الفصل العنصري الذي أربك البلاد، ما زال سكان جنوب إفريقيا “غير أحرار”، نتيجة الفقر الذي ابتليت به البلاد خلال السنوات الأخيرة.
أضاف سيريل رامافوسا في
“>خطاب له خلال إحياء ذكرى إنهاء نظام الفصل العنصري، السبت، “لا يمكننا أن نكون أمة حرة طالما أن الكثير من الناس يعيشون في فقر، ليس لديهم ما يكفي من الطعام، وليس لديهم سقف يستحق هذا الاسم، لا يستطيعون الوصول إلى الخدمات الصحية الجيدة، ولا يستطيعون كسب لقمة العيش”.
ويرى رامافوسا ضرورة مواجهة التحديات القائمة في بلاده، حيث قال: “لقد قاتلنا الفصل العنصري معًا وانتصرنا.. يجب علينا أن نواجه التحديات الحاليّة”، داعيًا إلى “بذل الجهود لضمان تمتُع جميع سكان جنوب إفريقيا بالمزايا الاقتصادية والاجتماعية للحرية”.
يعتبر معدل البطالة في جنوب إفريقيا من بين أعلى المعدلات في العالم، حيث بلغ نهاية السنة الماضية، 27.1% من القوى العاملة، مقارنة بنسبة 20% سنة 1994
يعبر كلام الرئيس الجنوب إفريقي عن واقع مرير يعيشه أغلبية سكان البلاد بعد ربع قرن من نهاية نظام عانوا منه كثيرًا، غير أن نهاية ذلك النظام لم تفرز نهاية للمعاناة التي تسبب بها، فغير الحرية لا يوجد ما يتباهى به أهل هذا البلد الإفريقي.
يعاني أكثر من نصف سكان البلاد من الفقر، حيث خلصت دراسة أعدها المعهد الوطني للإحصاء في جنوب إفريقيا في أغسطس/آب2017، إلى أن أكثر من نصف السكان يعيشون تحت خط الفقر، والاتجاه آخذ في الارتفاع أكثر.
وكشفت النتائج التي توصل لها المعهد أن السود في جنوب إفريقيا هم الأكثر تضررًا، حيث يعيش 47% منهم تحت خط الفقر، وتظهر هذه الإحصاءات أن عدد الفقراء في هذا البلد الإفريقي زاد بنسبة 2.8 مليون بين عامي 2011 و2015، ليصل إلى 14 مليون سنة 2017.
يعيش قرابة مليوني شخص في جنوب إفريقيا التي تعد أغنى بلد في القارة الإفريقية، في مدن الأكواخ في البلد الذي يوجد به قرابة 6 ملايين شخص مصاب بفيروس نقص المناعة البشرية، فحتى في المرض نسبة السود أكثر، ويعتبر النساء والأطفال أول ضحايا الفقر الذي يؤثر أولًا على السكان الريفيين وضعفي التعليم، وتعد مقاطعتا ليمبوبو وشرقي كيب الأكثر فقرًا في جنوب إفريقيا.
البطالة في تزايد
يعتبر معدل البطالة في جنوب إفريقيا من بين أعلى المعدلات في العالم، حيث بلغ نهاية السنة الماضية 27.1% من القوى العاملة، مقارنة بنسبة 20% سنة 1994 التي انتهى فيها نظام الفصل العنصري بصفة قانونية، وفقًا للأرقام التي نشرتها الوكالة الوطنية للإحصاء في شهر فبراير/شباط من العام الحاليّ.
نضيف إلى هذا الرقم، معدل “الأصول المحبطة” وهو المصطلح الرسمي لجميع أولئك الذين سئموا العمل وتخلوا عن الوظيفة لعدم توافر الظروف الملائمة للعمل، لتصل النسبة إلى 37.3% من السكان العاملين في البلاد، أي ما يقرب من 10 ملايين من جنوب إفريقيا دون عمل.
يعتبر الشباب الأكثر تضررًا من البطالة، فما يقارب من 53% ممن تقل أعمارهم عن 34 سنة، لم يجدوا وظيفة بعد، حتى إن وجد أصحاب الشهادات العليا وظيفة فإن الراتب يكون منخفضًا، أما الذين لا يتمتعون بتكوين جيد فأجورهم تكون زهيدة جدًا.
وتبلغ نسبة البطالة طويلة الأجل في جنوب إفريقيا سنة 2017، 60.4% وفق البنك الدولي، ونعني بالبطالة طويلة الأجل الأشخاص الذين ظلوا عاطلين عن العمل لمدة 12 شهرًا أو أكثر، ويذكر أن البطالة طويلة الأجل تولد ضغطًا نفسيًا وماديًا قويًا لكل من العاطلين عن العمل وعائلاتهم.
وفي أكتوبر الماضي، أعلن الرئيس سيريل رامافوسا الذي جعل مكافحة البطالة أحد أبرز أولوياته في إطار الحملة الانتخابية العامة، المقرر إجراؤها في مايو/أيار المقبل، عن عزمها خلق 275 ألف فرصة عمل سنويًا من خلال إطلاق جولة جديدة من الإصلاحات الاقتصادية، بما في ذلك استثمارات تبلغ قيمتها نحو 7 مليارات دولار في شركات محلية مملوكة للسود ومضاعفة صادرات البستنة، إلى 6 مليارات دولار بحلول عام 2030.
انعدام المساواة
رغم انتهاء نظام التمييز العنصري منذ 25 سنة، ما زالت جنوب إفريقيا تعاني مع انعدام المساواة، فعلى مقياس جيني من 0 إلى 1، بلغت حالات عدم المساواة بين الأسر 0.62 عام 2015. ومؤشر جيني هو مقياس إحصائي يفسر توزيع المتغير (الراتب، الدخل، الثروة) داخل مجتمع ما، أي أنه يقيس مستوى عدم المساواة في توزيع المتغير في السكان.
ويعني الرقم 0 المساواة الكاملة، فيما يعني الرقم 1 عدم المساواة الكاملة (شخص واحد فقط لديه كل الدخل ولا يملك الآخرون أي دخل)، وتمتلك جنوب إفريقيا المعدل الأعلى في العالم في هذا المقياس، وفقًا لتقرير البنك الدولي صادر في مارس/آذار 2018.
من بين أبرز الخطوط العريضة التي تبناها نيلسون منديلا عند توليه رئاسة البلاد سنة 1994، القضاء على الفساد، إلا أن ذلك لم يحصل للأسف، فالفساد تدعم أكثر
في دليل على انعدام المساواة، تتحصل 50% من الأسر على 8% من الدخل القومي، في حين أن 10% من أغنى الأسر تشترك في 55% من الدخل القومي، وتعتبر المنافع الاجتماعية مصدرًا مهمًا للدخل في جنوب إفريقيا، حيث تم اعتبارها في الأصل تدبيرًا قصير الأجل في مواجهة الفقر، خاصة في المناطق الريفية التي تعاني من بطالة مزمنة.
ويبلغ متوسط الأجر الشهري عند الأقلية البيضاء 10000 راوند (نحو 627 يورو)، مقابل 2800 راوند (175 يورو) لأغلبية السكان السود في البلاد، وهو ما يؤكد تواصل عدم المساواة الاجتماعية مع عدم المساواة العرقية.
إضافة لذلك، من أبشع جوانب عدم المساواة في جنوب إفريقيا ملكية الأراضي، إذ تمتلك الأقلية البيضاء أكثر من 80% من الأراضي الصالحة للزراعة في حين أنها تمثل 20% فقط من السكان، ورغم الإصلاح الزراعي الذي أعلن بدء العمل به سنة 1994، فإن الوضع يزداد سوءًا، فالأغنياء وهم طبعًا من البيض، يشترون يوميًا أراضي السود.
تنامي درجات الفساد
من بين أبرز الخطوط العريضة التي تبناها نيلسون منديلا عند توليه رئاسة البلاد سنة 1994، القضاء على الفساد، إلا أن ذلك لم يحصل للأسف، فالفساد تدعم أكثر وازدادت حدته حتى قارب على النيل من البلاد والسكان على حد السواء.
سنة 1999، أعلن الرئيس ثابو مبيكي أنه جاء لاستكمال نهج مانديلا وتحرير البلاد من سلطة الفساد وعدم الكفاءة، إلا أنه بعد عدة سنوات، تم اصطياده كرجل “فاسد”، لم يكن لديه حتى الفرصة لإنهاء ولايته الثانية.
مظاهرة ضد الفساد في جنوب إفريقيا
خلفه جاكوب زوما في الحكم، في أبريل/نيسان 2009، واعدًا بأن تكون البلاد لجميع سكان جنوب إفريقيا، وبعد 8 سنوات، تمكن زوما الذي أعيد انتخابه لولاية ثانية سنة 2013، من القيام بكل شيء إلا مكافحة الفساد، فقد أصبح عنوانًا للفساد، ما عجل باستقالته في فبراير/شباط 2018 نتيجة الضغط الذي مورس عليها.
وسبق أن أمر القضاء الجنوب إفريقي جاكوب زوما في شهر ديسمبر/كانون الأول 2017، بتشكيل لجنة تقصي حقائق خلال شهر للتحقيق في سلسلة قضايا فساد منسوبة إليه، ويتهم زوما بقبول رشاوى من مصنعي الأسلحة الدوليين للتأثير على اختيار الأسلحة وبتبذير المال العام خدمة للصالح الخاص.
نظام الفصل العنصري الجديد
بعد 25 سنة من انتهاء نظام الفصل العنصري، لم تعد ناطحات السحاب في كبرى مدن البلاد مثل جوهانسبرغ وبريتوريا، تستطيع إخفاء البؤس المتفشي في البلاد ولا إخفاء مظاهر عدم المساواة المنتشرة هناك بين البيض والسود.
أوجه التمييز العنصري ما زالت حاضرة
من نيلسون مانديلا إلى جوب زوما عبر ثابو مبيكي، تميزت جنوب إفريقيا بعدم المساواة القاتمة، ولكن تم حجبها دوليًا من خلال التواصل الخيري الذي دعم الناتج المحلي الإجمالي البالغ 353.9 مليار دولار (2013) في محاولة لإخفاء التباينات. وبرغم حذف جميع القوانين العنصرية، لكن لا تزال هناك هذه القواعد غير المرئية التي تمنع سلالات معينة من الذهاب إلى أماكن معينة، وقواعد تمنع السود من تقلد المناصب العليا في البلاد والتمتع بخيرات بلادهم الكبيرة.
بعد ما يقرب من ربع قرن من النهاية الرسمية للفصل العنصري، لم يكن السود والبيض في القارب نفسه. بعد ربع قرن من النهاية الرسمية للنظام العنصري، تتحول جنوب إفريقيا تدريجيًا إلى نظام الفصل العنصري الجديد.