ترجمة وتحرير: نون بوست
بين الحماس الذي رافق روايات جون لو كاريه والاهتمام اللامتناهي بالسلسلة الشهيرة لأفلام جيمس بوند، عملت بريطانيا لفترة طويلة على ترسيخ صورتها كبلد منتج لجواسيس من طراز رفيع. في الواقع، تقوم هذه السمعة على أكثر من مجرد أسطورة. فعلى امتداد عقود، سواء كان ذلك خلال الحرب العالمية الثانية أو بعدها، مثّل العمل المُضني والمكثّف لضباط المخابرات البريطانية أحد المصادر الرئيسية لنفوذ المملكة المتحدة.
لكن، يواجه هذا النفوذ وركائزه الأساسية خطرا بسبب انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، حيث من المحتمل أن يكون لهذا القرار سلسلة متعاقبة من التداعيات على الاستخبارات البريطانية، بما في ذلك إقصاء بريطانيا من مؤسسات الاتحاد الأوروبي التي لطالما خدمت الأمن القومي البريطاني. علاوة على ذلك، قد تتأثّر العلاقة المميّزة بين الاستخبارات البريطانية والولايات المتحدة إذ من المرجّح أن تسعى هذه الأخيرة بدلا من ذلك إلى تعزيز العلاقات مع بروكسل. في المقابل، على الرغم من أن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أصبح أمرًا حتميا، إلا أن أساليبا أخرى بإمكانها أن تُجنّب المملكة المتحدة هذه العواقب.
عُرف كل من المكتب الخامس التابع لجهاز الأمن الاستخباراتي البريطاني، الذي يتعامل مع المكتب السادس لجهاز الاستخبارات السرية بصفته المسؤول على الاستخبارات الخارجية، إلى جانب مكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية التي تهتم بعملية استخبارات الإشارات، داخل البلاد وخارجها بأنها بمثابة “رولز رويس” أجهزة الاستخبارات.
تكشف معلومات حول تاريخ الشؤون الداخلية للمكتب الخامس عن أنه عشية الحرب، تولّى ضابطان فقط في قسم مكافحة التجسس التابع للوكالة تسيير شؤون الإمبراطورية البريطانية ودول الكومنولث بأكملها
في الحقيقة، لم تكن هذه الأجهزة بذلك القدر من القوة، إذ تشير السجلات التي رفعت عنها السرية إلى أنه قبل الحرب العالمية الثانية، كانت وكالات التجسس البريطانية في كثير من الأحيان أشبه بالسيارات البالية بدلا من نظيرتها الفاخرة. وقد تأسس المكتب الخامس من جهاز الأمن الاستخباراتي البريطاني والمكتب السادس من جهاز الاستخبارات السرية سنة 1909. وحين اندلعت الحرب العالمية الأولى في سنة 1914، عانى كل منهما من محدودية الموارد حيث بلغ إجمالي عدد موظفي المكتب الخامس حوالي 17 شخصا بما في ذلك عامل الحراسة.
شهد الوضع تحسّنا طفيفا مع بداية الحرب العالمية الثانية في 1939. وتكشف معلومات حول تاريخ الشؤون الداخلية للمكتب الخامس عن أنه عشية الحرب، تولّى ضابطان فقط في قسم مكافحة التجسس التابع للوكالة تسيير شؤون الإمبراطورية البريطانية ودول الكومنولث بأكملها. وقد كان كل من المكتب الخامس والمكتب السادس يجهلان حتى اسم وكالة الاستخبار العسكري الألمانية التي تعرف باسم “أبفير” أو الدفاع.
تابعت الاستخبارات البريطانية تحقيق نجاحاتها غير المسبوقة ضد دول المحور. وتُعزى هذه الانتصارات بشكل كبير إلى الإنجازات في حديقة بلتشلي حيث قام المختصون في فك الشيفرة من البريطانيين ومن الدول الحلفاء بتفكيك آلة إنجما الشهيرة التابعة لألمانيا لإنتاج الشيفرة السرية. وقد سمح لهم هذا الأمر بالنفاذ إلى قدر أكبر من المعلومات بشأن الرايخ الثالث، أي أكثر مما تمكّنت أي دولة عبر التاريخ من معرفته بشأن حكومة أخرى. حيال هذا الشأن، أفاد بعض المؤرخين بأنه من المحتمل أن تكون المعلومات الاستخباراتية التي جمعتها بريطانيا في حديقة بلتشلي قد اختصرت الحرب العالمية الثانية بمقدار سنتين.
خلال الحرب الباردة، نجح الجواسيس البريطانيون في مزيد تحسين سمعتهم. وقد اتسمت الإمكانيات التقنية لمكاتب الاتصالات الحكومية بجودة عالية
تواصل هذا النجاح إلى فترة ما بعد الحرب حين ساعدت أجهزة الاستخبارات البريطانية لندن على التفوّق حتى مع تراجع “قوتها الصلبة”. ويعود ذلك جزئيًا إلى نجاح الحكومة البريطانية في إدارة التصوّرات الدولية المتعلّقة بإمكانياتها. وقد طوّر ملوك “وايت هول” صورة تعكس قدرا عاليا من الفطنة والحنكة من خلال تسريب معلومات سرية بشكل انتقائي حول إنجاز حديقة بلتشلي وغيرها من النجاحات المذهلة في زمن الحرب على غرار “نظام الفحص المزدوج” الخاص بالمكتب الخامس والذي خوّل لجهاز الاستخبارات الإطاحة بجواسيس ألمان في بريطانيا وتحويلهم إلى عملاء مزدوجين. في هذا الصدد، قال المسؤول عن نظام الفحص المزدوج، جون سيسيل ماسترمان بإيجاز: “لقد أدارت المخابرات البريطانية نظام التجسس الألماني الموجود في هذا البلد بشكل نشط، كما نجحت في السيطرة عليه”.
خلال الحرب الباردة، نجح الجواسيس البريطانيون في مزيد تحسين سمعتهم. وقد اتسمت الإمكانيات التقنية لمكاتب الاتصالات الحكومية بجودة عالية حيث أكدت الأقاليم التابعة لبريطانيا في جميع أنحاء العالم، أنها مفيدة جدا في تجميع المعلومات الاستخباراتية للمملكة المتحدة والولايات المتحدة. كما قامت بريطانيا بإحباط بعض عمليات الانقلاب والاستخبارات المضادة الهائلة.
خلال أزمة صواريخ كوبا في تشرين الأول/ أكتوبر 1962، وعندما كان العالم على وشك أن يتحوّل إلى هرمجدون نووي أكثر من أي وقت مضى، خلقت المعلومات التي قدمها أوليغ فلاديميروفيتش بنكوفسكي، الذي كان متمركزًا داخل جهاز الاستخبارات العسكرية الروسية، وعمل لدى كل من المكتب السادس البريطاني ووكالة المخابرات المركزية لواشنطن، رؤى حاسمة بشأن وضع الصواريخ السوفيتية في كوبا.
تكشف السجلات الموجودة في مكتبة ريتشارد نيكسون الرئاسية عن حالات سُمح فيها لمسؤولين في أجهزة الاستخبارات البريطانية بالتعامل مع كبار صناع القرار السياسي في واشنطن، بمن في ذلك هنري ألفريد كسنجر
بيّنت المعلومات الاستخباراتية التي قدمها بنكوفسكي تحت اسم “أيرون بارك”، مدى قدرة الصواريخ السوفيتية على العمل، وبالتالي، كم من الوقت ستقضيه واشنطن في خوض مبارزة دبلوماسية مع موسكو. وبعد مرور بضع سنوات، نجح المكتب السادس في تجنيد ضابط رفيع المستوى تابع للكي جي بي السوفيتية يدعى أوليغ جورديفسكي، الذي أصبح رئيس الاستخبارات في لندن وزوّد بريطانيا والولايات المتحدة بشكل سري بتفاصيل فريدة من نوعها حول نوايا الاتحاد السوفيتي وقدراته.
ساهمت مثل هذه الإنجازات في تحويل مجال الاستخبارات إلى عامل عزّز قوة بريطانيا خلال الحرب الباردة، ما ساعدها على الاحتفاظ بمكانة هامة في الشؤون الدولية بصرف النظر عن تراجع قوتها الاقتصادية والعسكرية. وتعاونت مكاتب الاتصالات الحكومية مع وكالة الأمن القومي الأمريكية حيث مثّلا وجهان لجهاز واحد، ضخم وممتد عبر المحيط الأطلسي، لتجميع المعلومات الاستخباراتية. وقد ساعدت هذه العلاقة المشتركة بين الوكالات على كسب لندن نفوذا سياسيا في واشنطن.
في سياق متصل، تكشف السجلات الموجودة في مكتبة ريتشارد نيكسون الرئاسية عن حالات سُمح فيها لمسؤولين في أجهزة الاستخبارات البريطانية بالتعامل مع كبار صناع القرار السياسي في واشنطن، بمن في ذلك هنري ألفريد كسنجر. كما تسنّى لهم الحضور في اجتماعات مجلس الأمن القومي والمشاركة فيها بطريقة لا يمكن لأي مسؤول من دولة أخرى تخيّلها.
صورة للمختصين في فك الشفرات في حديقة بلتشلي سنة 1942، والعميل بالمكتب السادس، أوليغ فلاديميروفيتش بنكوفسكي والأدوات التي يستخدمها في العمل سنة 1963، إلى جانب أوليغ جورديفسكي، وهو ضابط بالكي جي بي تحوّل لاحقا إلى جاسوس بريطاني حيث شوهد متنكرا في سنة 1990.
تُظهر الملفات التي رُفعت عنها السرية قبل 20 سنة تقريبًا، أنه خلال ستينيات القرن الماضي، أوصت لجنة الاستخبارات المشتركة، بصفتها أعلى هيئة لتقييم الأداء الاستخباراتي في بريطانيا، رؤساء الوزراء المتعاقبين بضرورة الانضمام إلى أوروبا نظرا لأن في هذه الخطوة عامل بالغ الأهمية يخدم التوجّه الاستراتيجي المستقبلي لبريطانيا. وتمثّل هذه الطريقة الوسيلة الوحيدة التي تخوّل للبلاد تفادي الركود الاقتصادي وحماية علاقتها المميزة مع واشنطن التي تعتبر أن قيمة المملكة المتحدة تكمن في وجودها داخل أوروبا لا خارجها. ووفقًا لسجلات موجودة في مكتبة جون كينيدي الرئاسية، ترى الولايات المتحدة لندن كحليف جدير بالثقة يشاركها طريقة التفكير ذاتها، كما أنه قادر على ممارسة نفوذ على الأعضاء الأكثر إثارة للمتاعب في أوروبا.
الانسحاب من هذه الجمعية الدولية لن يشكّل فارقا. لكن، تلك النظرة المتفائلة لم تأخذ بعين الاعتبار التداعيات الحقيقية لانسحاب البلاد على الأمن القومي البريطاني.
بعد انضمامها للمفوضية الأوروبية سنة 1973، أصبح لبريطانيا دور مهم في اتخاذ القرارات الأوروبية الرئيسية، التي أثبتت نجاعتها بالنسبة للولايات المتحدة في القضايا المتعلّقة بالاستراتيجية العسكرية والتجارة. وفي حال غادرت المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي في الوقت الراهن، فمن المرجح أن يدفع ذلك واشنطن إلى الاعتقاد بأن لندن لم تعد تكتسي مكانة استراتيجية هامة. ومن المحتمل أن يجعل هذا الأمر الإدارة الأمريكية تعيد تقييم علاقتها ببريطانيا، أو أنه سيكون من الأفضل لها تقوية علاقاتها الاستخباراتية مع الاتحاد الأوروبي.
من جانبهم، أشار مؤيدو انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، إلى أنه بعد انضمام البلاد إلى الاتحاد، واصلت وكالات الاستخبارات البريطانية العمل مع دول الاتحاد الأوروبي على صعيد ثنائي، وليس مع الاتحاد ككل. لذلك، فإن الانسحاب من هذه الجمعية الدولية لن يشكّل فارقا. لكن، تلك النظرة المتفائلة لم تأخذ بعين الاعتبار التداعيات الحقيقية لانسحاب البلاد على الأمن القومي البريطاني.
تجدر الإشارة إلى أن المملكة المتحدة قد استفادت من عضويتها في الهيئات التابعة للاتحاد الأوروبي، على غرار وكالة تطبيق القانون الأوروبية “يوروبول” ونظام معلومات شنغن، الذي يزودها بمعلومات عن الإرهاب والاتجار بالبشر والجرائم الخطيرة الأخرى. فضلا عن ذلك، استخدمت الشرطة والجهاز الأمني والاستخباراتي البريطاني، “المكتب الخامس”، هذه البيانات لتعقّب الضباط الروس الذين حاولوا اغتيال الجاسوس الروسي السابق، سيرغي سكريبال، في سالزبوري سنة 2018.
إثر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ينبغي على أجهزة الاستخبارات أن تتأقلم مع الوضع الجديد. وسيكون عالم الإنترنت الحل الواعد. وفي هذا الخصوص
في المقابل، وفي حال انسحبت المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، فإن بريطانيا لن يكون بإمكانها الولوج إلى مثل هذه المعلومات الهامة، وهو ما جعل المسؤولين السابقين في الاستخبارات البريطانية يحذّرون بشكل علني، قبيل إجراء استفتاء حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سنة 2016، من أن مغادرة الاتحاد سيضر بأمن البلاد. ومنذ ذلك الحين، زادت عملية الخروج، التي شابتها الفوضى، من مخاوفهم بأنه في ظلّ توتر العلاقات الدبلوماسية في الوقت الحالي، من غير المرجّح أن تكون بريطانيا قادرة على إيجاد ترتيبات بديلة مماثلة مع الاتحاد الأوروبي.
في الحقيقة، وإثر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ينبغي على أجهزة الاستخبارات أن تتأقلم مع الوضع الجديد. وسيكون عالم الإنترنت الحل الواعد. وفي هذا الخصوص، تعتبر “مكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية” وكالة عالمية رائدة في مجال الاستخبارات الرقمية. وقد كشفت الوثائق السرية التي سرّبها إدوارد سنودن سنة 2013 عن مدى تعاون هذه الوكالة مع وكالة الأمن القومي، حيث أنها استغلّت المنصات الإلكترونية لجمع المعلومات الاستخبارية. وعلى الرغم من تجاهل الدور المهم الذي لعبته هذه الوكالة، إلا أنها كانت، على ما يبدو، أول جهة تحدد وتحذر وكالات الاستخبارات الأمريكية من وجود مجموعة تجسس إلكترونية روسية، تدعى “فانسي بار”، التي اخترقت رسائل البريد الإلكتروني للجنة الوطنية الديمقراطية الأمريكية سنة 2016.
في الأثناء، سيكون من الحكمة أن تضاعف بريطانيا ميزتها النسبية في مجال التقنيات الرقمية، وهو ما يبدو أنها الخطوة التي شرعت في القيام بها. في الواقع، يقوم كل من “مكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية” والمركز الوطني للأمن السيبراني الجديد بتوظيف وتدريب العملاء الجدد على الخبرة السيبرانية، كما فعل “المكتب الخامس”. وقد أشار هذا الجهاز الأمني والاستخباراتي البريطاني إلى أن التجسس باستخدام الطرق القديمة، التي يعتمد عليها جهاز الاستخبارات البريطاني، الذي يعرف أيضا باسم “إم آي 6″، سيكون مهما حتى في ظلّ المجال الرقمي الجديد. وسيكون تعيين عملاء داخل مجموعات سيبرانية أجنبية وسيلة في غاية الأهمية للكشف عن أسرارها.
كشف التاريخ عن أن الجواسيس البريطانيين يتمتّعون بكفاءة ممتازة في تحويل الصعوبات إلى نجاحات مذهلة، وهو ما حصل في بداية الحرب العالمية الثانية.
أقرت الاستراتيجية الوطنية للأمن السيبراني في بريطانيا للفترة الممتدة بين 2016-2021 بشكل علني ولأول مرة بأن البلاد تملك قدرات قرصنة هجومية. ويتمثل أحد أهم المجالات المستقبلية المحتملة لنمو مجال المخابرات البريطانية في تعزيز هذه القدرات والقيام بهجمات إلكترونية على الأطراف الحكومية وغير الحكومية التي تشكّل تهديدا على أمنها، على غرار هجوم فيروس “ستوكسنت” الذي يُزعم أنه من صنع إسرائيل والولايات المتحدة ووقع اكتشافه سنة 2010، والذي استهدف برنامج إيران النووي.
لقد كشف التاريخ عن أن الجواسيس البريطانيين يتمتّعون بكفاءة ممتازة في تحويل الصعوبات إلى نجاحات مذهلة، وهو ما حصل في بداية الحرب العالمية الثانية. من جهة أخرى، تقدم حرب الإنترنت فرصة جديدة لبريطانيا، خاصة لكونها لا تتطلّب قوة عسكرية تقليدية، والتي كان من الصعب عليها توفير متطلباتها في ظل سياسة التقشف طويلة الأمد.
من المحتمل أن يكون العمل السري والتركيز على الدفاع ضد المعلومات المضللة مجالا آخر لنمو مجال المخابرات البريطانية. ويتمثل انتشار الأخبار الزائفة التي تصدرها الأنظمة الاستبدادية، على غرار الصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا، على شبكة الإنترنت، التحدي الرئيسي الذي يواجه المجتمعات الغربية. في الأثناء، لا تزال معظم البلدان تفتقر إلى استراتيجية فعّالة للتعامل مع المعلومات المضلّلة.
مع ذلك، كانت بريطانيا تملك نموذجا مفيدا في الماضي القريب. فخلال الحرب الباردة، قدمت الإدارة المسؤولة عن الدعاية الغامضة المناهضة للاتحاد السوفيتي في البلاد، وهي إدارة أبحاث المعلومات، إجابات واضحة وسريعة ومبنية على حقائق بشأن تزوير الاستخبارات السوفيتية أو الكي جي بي. وتوفر بريطانيا نموذجا للتعامل مع المعلومات المضللة اليوم، وستكون حكيمة في تحديث النهج الخاص بعصر وسائل التواصل الاجتماعي.
سيؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى إجبار المخابرات البريطانية على الإجابة عن الأسئلة غير المريحة التي لم تضطر إلى مواجهتها منذ الحرب العالمية الثانية، والتي تتمحور حول الأمر الذي يمكنها تقديمه ولا يستطيع غيرها القيام به.
من الممكن أن تقوم أجهزة الاستخبارات البريطانية بالتجسس على الاتحاد الأوروبي. وفي حال حصل هذا الأمر، فلا أحد من الأطراف الخارجية يمكنه أن يعلم مقدار المعلومات التي تملكها المملكة المتحدة. وحتى الآن، لم يقع رفع السرية عن السجلات، لكن لبريطانيا تاريخ طويل في التجسس على حلفائها. فقد اعترض مفككو الشفرات البريطانيين اتصالات الأمريكيين واطلعوا عليها قبل دخول الولايات المتحدة في الحروب العالمية الأولى والثانية. وخلال العقود الأخيرة، يبدو من المرجّح أن التعاون السياسي الاستثنائي وواسع النطاق، الذي ترتّب بالضرورة عن دخول الاتحاد الأوروبي، جعل التجسس البريطاني على أوروبا محفوفا بالمخاطر، والعكس صحيح. ولكن بمجرد انسحابها من الاتحاد الأوروبي، ستكون بريطانيا غير ملزمة بالتقيد بهذه الشروط.
في الواقع، منذ بدء محادثات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أشارت شائعات إلى أن الاستخبارات البريطانية كانت تستهدف مفاوضي الاتحاد الأوروبي. وسواء كان هذا الأمر صحيحا أم لا، فمن غير المرجح أنه بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، سيكون هناك علاقات تعاون متبادلة بين الجانبين في مجال التجسس. وتعني التهديدات الخارجية المشتركة، وخاصة التي تمثلها روسيا والصين، وإمكانية اندلاع حرب باردة جديدة، أن الوكالات البريطانية والاتحاد الأوروبي سيكون لديها حافز لمواصلة التعاون بينهما.
سيؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى إجبار المخابرات البريطانية على الإجابة عن الأسئلة غير المريحة التي لم تضطر إلى مواجهتها منذ الحرب العالمية الثانية، والتي تتمحور حول الأمر الذي يمكنها تقديمه ولا يستطيع غيرها القيام به. علاوة على ذلك، يتزامن هذا الخروج من الاتحاد الأوروبي مع الثورة الإلكترونية، لكنه يتيح فرصًا لبريطانيا للحفاظ على بعض من مظاهر قوتها العالمية الحالية. ويعتبر الاستثمار في الاستخبارات الرقمية أفضل مخرج بالنسبة للندن، وربما أفضل طريق للخروج من مستنقع المخابرات الاستراتيجية الذي يطرحه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
المصدر: فورين بولسي