بعد غياب طويل ناهز الخمس سنوات، وفي توقيت مشابه لظهوره الأول في شهر رمضان من العام 2014، وقبل نحو أسبوع من دخول الشهر المعظم، خرج زعيم تنظيم الدولة الإسلامية أبي بكر البغدادي في شريط مصور دام 18 دقيقة، مفندًا إشاعات مقتله ومؤكدًا وجوده على الأرض، صحبة عدد من أمراء وقياديي الصف الأول من التنظيم.
ظهور البغدادي المفاجئ للجميع وحتى أجهزة الاستخبارات الغربية التي لم تتحدث ولم تشر خلال الفترة الأخيرة لإمكانية خروجه في فيديو يتحدث فيه لمساعديه ومن ورائهم لمقاتلي التنظيم، كان محسوبًا في توقيته ومضمونه، رغم الخسائر الكبيرة التي تلقاها تنظيم الدولة على الأرض خلال الأعوام الخمس الأخيرة.
قبل الغوص في تفاصيل مضمون الكلمة المصورة للبغدادي التي جاءت في إطار جلسة خاصة جمعته ببعض من يثق بهم من سواعده الذين تبقوا على قيد الحياة، تأكد للمراقبين أن مؤسسة “الفرقان” التي بثت الكلمة وإمبراطورية تنظيم الدولة الإعلامية التي أرعبت العالم في وقت مضى، تأثرت تأثرًا بالغًا بمقتل كوادرها ممن كانوا يمتازون بجودة التصوير والتمكن من تقنيات المونتاج والغرافيك، فالفيديو الأخير لم يكن مشابهًا للفيديوهات التي تم بثها سابقًا من ناحية الإخراج والتقنيات والآلات المستخدمة في التصوير، رغم محاولة إظهار العكس من خلال تنويع زوايا التصوير واستخدام مشاهد ثابتة ومتحركة في الإخراج.
لم يتخل أبو بكر البغدادي عن سلاحه الرشاش الروسي وحزامه الناسف في جلسته الخاصة، في مشهد يؤكد أن زعيم تنظيم الدولة لا يترك سلاحه وحزامه الناسف مهما كانت الظروف
يظهر البغدادي في المقطع المرئي صابغًا لحيته بالحناء وفي صحة جيدة، مؤكدًا أنه لم يصب بأي أذى أو مكروه رغم أكثر من عقد من التخفي والهروب من مكان إلى آخر، كما يظهر من خلال تمكن البغدادي من تحريك يديه سلامته الجسدية وأنه لم يصب بأي شلل أو إعاقة أو عاهة مستديمة رغم ادعاء السلطات العراقية في مناسبات عديدة استهدافه وإصابته جراء قصف جوي.
في السياق ذاته، لم يتخل أبو بكر البغدادي عن سلاحه الرشاش الروسي وحزامه الناسف في جلسته الخاصة، في مشهد يؤكد أن زعيم تنظيم الدولة لا يترك سلاحه وحزامه الناسف مهما كانت الظروف، حتى لا يقع رهينة أو أسيرًا بيد خصومه وعلى رأسهم القوات الخاصة الأمريكية التي تتعقب أثره منذ سنوات طويلة، كما أن نظراته غير المطمئنة في بعض اللقطات تشير إلى أن الأخير ليس مطمئنًا اطمئنانًا كاملاً في هذه الجلسة التي قد يتسبب خطأ أمني من المحيطين به في قصف المكان وهلاك جميع الموجودين.
في بداية الجلسة، تحدث البغدادي عن معارك الباغوز السورية التي خسرها تنظيم الدولة قبل أكثر من شهر، راثيًا 5 أمراء تداولوا على “ولاية الباغوز”، وهم كل من أبي عبد الرحمان العنقري التميمي وأبي هاجر عبد الصمد العراقي الطالبي وأبي الوليد السيناوي وأبي عبد الغني العراقي وأبي مصعب الحجازي، كما تحدث عن “ثبات” مقاتلي التنظيم و”رباطة جأشهم” ضد ما سماها “الهجمة الصليبية الشرسة” والحصار الخانق على منطقة الباغوز رغم صغر حجمها.
توعد البغدادي بالأخذ بثأر من قتل وجرح وأسر من مقاتلي التنظيم ما دام فيه عرق ينبض، مشيرًا إلى أنه سيكون للمعركة ما بعدها
لم يفوت زعيم تنظيم الدولة الإسلامية في لقائه مع مساعديه، الفرصة لرثاء من سماهم “فرسان الإعلام” وعلى رأسهم أبو عبد الله الأسترالي وخلاد القحطاني وأبي جهاد الشيشاني وأبو أنس فابيان الفرنسي وأخوه أبو عثمان الذين قتلوا في معارك الباغوز، وفي رثائه لهم تأكيد على الدور الكبير الذي كان يلعبه هؤلاء في الإمبراطورية الإعلامية للتنظيم قبل أفول نجمها.
جلسة البغدادي مع رجاله الغلاظ ممن تم تغطية وجوههم لدواعي أمنية، ذكر فيها بمعارك بيجي والموصل وسرت والباغوز، ليصل في منتهى تذكيره بأن المنهج العام لتنظيم الدولة لم يتغير منذ “إعلان الخلافة”، وأصوله أن تسليم الأرض لا يكون إلا على جثث المقاتلين وأشلائهم، كما توعد البغدادي بالأخذ بثأر من قتل وجرح وأسر من مقاتلي التنظيم ما دام فيه عرق ينبض، مشيرًا إلى أنه سيكون للمعركة ما بعدها، خاصة بعد أن نفذت الخلايا النائمة والذئاب المنفردة 92 عملية في 8 دول “ثأرًا للشام”.
كان لليبيا وأفغانستان ومالي وبوركينا فاسو والمملكة العربية السعودية نصيب من كلمة البغدادي التي أكد فيها أن معركة تنظيم الدولة مع أعدائه معركة “استنزاف” و”مطاولة للعدو”، في جميع مقدراتهم البشرية والعسكرية والاقتصادية واللوجستية، كما دعا الفروع الإفريقية للتنظيم وقائدهم أبي الوليد الصحراوي بتكثيف الهجمات على مصالح فرنسا وأحلافها ثأرًا لـ”إخوانهم في العراق والشام”.
شرح محتوى الفيديو وتفكيك شفراته ورسائل البغدادي الصريحة والخفية لمقاتليه وللمبايعين له قد يطول خاصة أن هذا الظهور كان مختلفًا تمامًا عن ظهوره قبل 5 سنوات من الآن
سياسيًا، ذكر أبو بكر البغدادي بفوز رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالانتخابات الأخيرة، وباستقالة الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة وانقلاب الجيش على الرئيس السوداني عمر البشير، لكنه لام شعبي البلدين لعدم فقههم لأسباب خروجهم إلى الشوارع وماذا يريدون، داعيًا إياهم لحمل السلاح “لاسترداد كرامتهم وعزتهم”.
وبعد انتهاء المقطع المصور، بثت الفرقان مقطعًا صوتيًا للبغدادي تحدث فيه عن الهجمات الدامية التي استهدفت كنائس وأماكن مدنية بسريلانكا وتبناها تنظيم الدولة، ثأرًا لمن قتل في الباغوز، مؤكدًا أنه تلقى بيعة من جهاديين في سيريلانكا، ما يشير إلى أن الهجمات قد تتواصل في هذه الدولة الآسيوية خاصة أنه دعا الذئاب المنفردة للاقتداء بمن نفذ العملية.
في نهاية الفيديو، يظهر البغدادي متحدثًا للحاضرين جماعة ثم في حديث ثنائي مع أحدهم، قدم له خلاله كتبًا تحمل اسم عدد من الدول على غرار الصومال واليمن وتركيا والقوقاز، وفيها على ما يبدو جرد للهجمات التي نفذها المبايعون لخليفتهم، خلال الفترة الأخيرة.
شرح محتوى الفيديو وتفكيك شفراته ورسائل البغدادي الصريحة والخفية لمقاتليه وللمبايعين له قد يطول خاصة أن هذا الظهور كان مختلفًا تمامًا عن ظهوره قبل 5 سنوات من الآن، وقتها كانت كلمة زعيم تنظيم الدولة خلال خطبة جمعة في مسجد يرتاده الآلاف من عوام المسلمين، أما هذه الكلمة فهي مجلس خاص، وجه فيه أبو بكر البغدادي كلامه لنخبة من مساعديه ممن يثق فيهم ومن ورائهم المقاتلين والمتعاطفين مع التنظيم.
هذا الظهور سيكون وقود الذئاب المنفردة في الدول الغربية خاصة، لتنفيذ عمليات نوعية، ضد الدول التي ساهمت في إسقاط “الخلافة”
كانت الكلمة الأولى للبغدادي من على منبر الجامع الكبير بالموصل في شهر رمضان 2014، إعلانًا لعودة “الخلافة الإسلامية” وتنصيب “خليفة” على المسلمين، أما هذه الكلمة، فهي إعلان صريح بانتهاء الخلافة وعودة الحرب إلى المربع الأول، مربع الاستنزاف والإثخان في العدو والدفاع، بعد أن كانت جحافل مقاتلي تنظيم الدولة عامي 2014 و2015 تتقدم وتسيطر على عدد من المدن السورية والعراقية في تمدد غير مسبوق، أوقفه تدخل التحالف الدولي في اللحظات الحاسمة.
لم يكن ظهور زعيم تنظيم الدولة أبو بكر البغدادي في هذا التوقيت الدقيق، اعتباطيًا، ففي ظهوره انتصار معنوي على التحالف الدولي وتثبيت لأنصاره المقاتلين على الأرض ممن أصبحوا يشكون في حقيقة إحاطة “الخليفة” بأوضاعهم وبما يحدث في العالم، خاصة أنهم أصبحوا مشتتين في الصحاري، مثلما كانوا قبل التمدد للشام أواسط العام 2013، كما أن هذا الظهور سيكون وقود “الذئاب المنفردة” في الدول الغربية خاصة، لتنفيذ عمليات نوعية ضد الدول التي ساهمت في إسقاط “الخلافة”.