شهدت الثورة السورية، التي انطلقت كجزء من موجة الربيع العربي التي اجتاحت العالم العربي، تحولًا من رمز للأمل إلى أداة تستخدمها قوى الثورة المضادة لزرع الخوف واليأس في قلوب الشعوب على امتداد خريطة العالم العربي. ولكن في تحول مفاجئ، انقلبت الموازين وأثبت أحرار سوريا أن الحرية ليست حلمًا، بل حق يُنتزع ولا يموت.
فبعد أربع سنوات من الجمود السلبي على جبهات القتال، وغياب القضية السورية عن الأجندات الدولية، و13 عامًا من المعارك والشهداء والمعتقلين وملايين اللاجئين والانتصارات والهزائم، وبعد سنوات طويلة من الانقسامات السياسية والعسكرية، وتحول البلاد إلى ساحة لتصفية “الجهاديين”، وانهيار البنى الاجتماعية، وفي لحظة فارقة ظن فيها العالم أن الثوار المخنوقين في شمال غرب سوريا في مساحة لا تزيد على 11% من مساحة البلاد، يعيشون أيام الثورة الأخيرة، عادت الثورة لسيرتها الأولى بما حملته من مبادئ ومُثل عليا وهمة ومعنويات عالية.
ثورات الربيع العربي والثورة المضادة
حتى بدايات عام 2011، كان مجرد التفكير بقيام ثورة في سوريا عصيًا على التخيل. إلا أن الظروف المحلية مع تسارع الأحداث في الدول العربية الثائرة ساعدت السوريين على القفز نحو مستقبل مختلف، إذ نجحت في البداية بعض الثورات في إسقاط أنظمة مثل تونس ومصر وليبيا. لاحقًا، سيُثار كثيرٌ من النقاش حول فشل السوريين في تقدير الموقف، فبحسب كثيرين لم يكن من الحكمة استلهام تجربة مصر أو ليبيا نظرًا لاختلاف طبيعة الأنظمة الحاكمة جذريًا والتركيبة العرقية والطائفية وتعقيد موقع سوريا الجيوسياسي.
واجه النظام الانتفاضة الشعبية بموجة غير مسبوقة من القمع، الأمر الذي دفع الثوار إلى حمل السلاح، وبحلول عام 2013، تغيرت ديناميكيات الصراع السوري بشكل جذري وبدأت الثورة الشعبية السلمية، التي اندلعت بشعارات تنادي بالحرية والكرامة، تتحول إلى صراع مسلح نتيجة عنف النظام. ومع تصاعد المعارك، بدأت المعارضة تفقد زخمها، ليس فقط بسبب المشكلات المحلية، لكن أيضًا نتيجة التدخلات الإقليمية والدولية التي ساهمت في تعقيد المشهد.
في الوقت نفسه كانت قوى الثورة المضادة في مصر قد تمكنت من الانقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي، بعد مجزرة راح ضحيتها الآلاف في يوم واحد، ودعمت بعض الدول الانقسام والالتفاف على الثورة في ليبيا بعد القذافي. وظهرت حملات إعلامية مكثفة أحيانًا بغطاء إنساني تشوّه صورة الثورة السورية، وتصويرها كحالة من الفوضى التي يمكن أن تبتلع أي دولة. وبدا أن الربيع قد تحول إلى خريف لشباب العالم العربي.
أرادوها “عبرة” لكل الشعوب العربية
تغيرت خريطة السيطرة في سوريا باستمرار، وترافق ذلك مع أوضاع إنسانية صعبة داخل سوريا وخارجها، إلا أنه وبعد نجاح النظام في استعادة أجزاء مهمة من البلاد بدأت موجة التطبيع معه من الدول العربية، كانت أولها إعادة افتتاح سفارتي الإمارات والبحرين في دمشق عام 2018، وصولًا إلى منح النظام مقعد سوريا الشاغر مجددًا في الجامعة العربية عام 2023، وبذلك كُسرت عزلة رئيس النظام مع ما رافقها من علاقات تجارية واقتصادية، وبتجاهل كامل للجرائم التي ارتكبها على مدار عقد من الزمان ووجود آلاف المعتقلين واللاجئين حول العالم وفي الخيام.
عانى السوريون من العنصرية في بلاد اللجوء ومن أشكال متعددة من الموت على طريق الهجرة، ومن أوضاع اقتصادية قاسية وصعبة في مناطق سيطرة النظام، وبقيت مدن كاملة مدمرة وخالية من أصحابها، وفي مخيمات شمال سوريا كانت الأزمات لا تنتهي، إضافة إلى صعوبة استخراج تأشيرة لأي دولة، وأصبح جواز السفر السوري الأغلى كلفة في العالم.
استخدم محور الثورة المضادة مصير السوريين كأداة لترهيب الشعوب الأخرى، في محاولة لإقناعهم بأن أي حراك مشابه سيؤول إلى المصير ذاته. ولم يكن هذا الخطاب وليد الصدفة، بل كان نتاج استراتيجية متكاملة وُظفت فيها وسائل الإعلام والموارد المالية والنفوذ السياسي، إضافة إلى تبني المؤسسات الدينية هذا الخطاب وتراجع عدد من الشخصيات الدعوية البارزة عن دعم الثورة السورية والاعتذار عن مواقفهم السابقة.
وركزت هذه الاستراتيجية على تضخيم خسائر الثورة السورية، وتسليط الضوء على الانقسامات بين فصائل المعارضة، وتصوير الثورة كحركة غير ناضجة يقودها أشخاص غير مؤهلين للتغيير. كما استُخدمت مأساة الثورة السورية كأداة لتخويف المجتمع الدولي الذي بدأ ينظر إلى أي حراك شعبي في المنطقة كمصدر للفوضى وعدم الاستقرار. عززت هذه الرسائل فكرة أن التغيير مستحيل، وأي محاولة ستؤدي إلى الدمار الشامل.
وفي مفارقة ستبقى حاضرة عند أي دراسة للثورة السورية، فقد اجتمع محور الثورة المضادة العربي مع محور المقاومة بقيادة إيران على مبدأ الإجهاز على ما تبقى من الثورة السورية، من حيث الممارسات على الأرض أو اغتيالها معنويًا.
أيضًا وقبل أكثر من 40 عامًا فعل حافظ الأسد الشيء نفسه، وقام “بتأديب” حماة لتكون عبرة لكل سوريا ونجح في زرع الخوف وإحكام سيطرته على كامل البلاد، حين اعتقل وقتل وشرد الآلاف ووصم الثائرين والمدافعين عن المدينة بـ”الإرهاب”، وجعل اسم “حماة” محرمًا على السوريين عقودًا طويلة، دون أن يرف له جفن أو يواجه أي محاكمة أو مساءلة قانونية.
وفي السياق ذاته، خرج إعلاميو محور الثورة المضادة بعد طوفان الأقصى وحرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة وقارنوا بين وضع مدينة غزة المأساوي ومدينة دبي، حيث “الحضارة والنهضة والنور والذكاء الاصطناعي”، متباهين بحنكة قادة دولة الإمارات على بناء بلادهم وتأمين رفاهية الشعب، مقابل ما وصفوه بتوريط المقاومة لأهل غزة في معركة خاسرة.
عقد كامل من الهزائم النفسية ومحاولات النهوض
مثلما كانت الثورة السورية بمثابة معجزة كسرت جدار الخوف وفتحت للسوريين عالمًا جديدًا، فقد حمل تراجعها وانكسارها آثارًا كارثية على جيل كامل، إذ أثّر بشكل عميق على الشباب العربي عمومًا والسوريين تحديدًا الذين كانوا يبنون آمالًا كبيرة على الربيع العربي.
وشهدت تلك المرحلة حالة من الإحباط واليأس، تجلت في مظاهر متعددة ثقافيًا واجتماعيًا، مثل فقدان الأمل في إمكانية تحقيق التغيير وانتشار مشاعر الخيبة والخذلان، ما أثر على طريقة تفكير الشباب وسلوكهم. وبدأ الكثيرون يشعرون بأن الاستبداد قدر محتوم لا يمكن تغييره، وأن أي محاولة ستكون نهايتها مثل سوريا، أي دمار وتهجير وانقسام.
وانتشرت الكتب والأندية والورشات التي تناقش انتشار ظاهرة الإلحاد بين الشباب كنتيجة لانكفاء الثورات وما تبعها من أزمات إنسانية، إذ كانت خيبة الأمل كبيرة لدرجة أنها دفعت بعض الشباب العربي إلى التشكيك في القيم الكبرى، ووجد بعض الشباب أنفسهم يتساءلون: “أين العدالة الإلهية في كل هذا؟ وما الغاية من الحياة؟” كما ظهرت أزمة أكثر عمقًا تتعلق بالهوية والقيم، وإن لم تكن وليدة الثورة السورية وحدها، بل أيضًا نتيجة تراكمات عقود من القمع والإحباط.
غنى حمزة نمرة أغنية داري يا قلبي عام 2018، وأصبحت تعبيرًا عن حالة الاغتراب التي يعيشها شباب الربيع العربي
لكن في يوم 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2027، حدث تحول جذري في المشهد السوري، حيث تمكن السوريون من تحقيق انتصارات عظيمة على الصعيد العسكري والسياسي والاجتماعي، نتيجة لتغيّرات عميقة في ديناميكيات الصراع، ما أعاد للثورة سيرتها الأولى. ولم تعد الثورة السورية مجرد حدث تاريخي، بل أصبحت حركة مستمرة تعيد تشكيل نفسها لتلهم العالم.
تصدر الثوار السوريون نشرات الأخبار مجددًا، وفتحوا مدنًا وأحياءً جديدة لم يدخلوها من قبل، وأظهروا انضباطًا وتنظيمًا عاليًا، وخطابًا متزنًا راقيًا، وانتشرت صور استقبالهم استقبال الفاتحين من أهلهم ومن الطوائف كافة، كما كشفت عملية “ردع العدوان” عن استعدادات واسعة استمرت أشهر طويلة من تصنيع للأسلحة وتدريبات، وخطط لتيسير الأمور الإدارية والمعيشية لسكان المدن والبلدات المحررة حديثًا، وأبدوا حساسية عالية تجاه الحواضن الشعبية لعناصر النظام وعملوا على منع تهجيرهم من قراهم وبلداتهم، وأعادوا أهالي مدينة عفرين إلى منازلهم كما أهالي مدينتي نبّل والزهراء، ما أسهم في تقليل كلفة الدم وتجنب الصراع العرقي والطائفي الصفري إلى الآن.
حاول المستبدون “تأديب” شعوب المنطقة بمأساة السوريين، وعملوا على إعادة تأهيل نظام الأسد المتهالك وتجاوز دماء الآلاف، لكن إرادة الأحرار أثبتت أن الحرية تستحق التضحيات.
واليوم، تحمل الثورة السورية رسالة أمل لكل الشعوب، مفادها أن الطغيان ليس قدرًا محتومًا، وأن كل يوم جديد هو فرصة متجددة للمحاولة مرة أخرى. وأن حافظ الأسد مات ورأت حماة الحرية بعد 40 عامًا من الظلام.
منذ حوالي أسبوع وحتى اليوم، رسم الثوار السوريون مشهدًا جميلًا، كحلم طال انتظاره، تناقلته وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي واللاجئون السوريون حول العالم، ليرسم خاتمة ناصعة لطريق النضال الطويل ويكون نورًا لا يخبو لكل ثائر حرّ، أن كل يوم يحمل معه بشارة بغد أجمل.