لو سألك أحدهم عن أكثر الأمور الخيالية التي يمكن للطبّ والعلم الحديث تحقيقها، فربّما عقلك سيبدأ بالخيال ورسم السيناريوهات المختلفة. فنحن على علمٍ بالإنجازات الكثيرة التي وصل إليها الطب بمساعدة التطوّر العلميّ والتكنولوجيّ والذكاء الاصطناعي في الآونة الأخيرة. لكن هل سبق وأنْ تخيّلتَ أنْ يصل الإنسان لمرحلةٍ من الزمان يكون فيها قادرًا على طباعة أعضاء بشرية بتقنية الأبعاد الثلاثية؟
ولتوضَح الصورة عندكَ أكثر دعني أسأل السؤال بالشكل الآتي: هل تخيّلتَ يومًا أنّ بإمكانك طباعة وتخزين عضوٍ من أعضائك أو هيكلك العظمي على سبيل المثال ليصبح لديكَ قطع غيار وتبديل جاهزة للاستخدام وقت الحاجة والأزمات إذا لزمكَ الأمر؟ حسنًا، ربّما لم يعد حاجة لأنْ يصبح الموضوع محطّ تخيّلٍ وحسب، فهو يقع الآن ضمن قائمة الخيارات التي قد تصبح متاحةً خلال فترةٍ قصيرةٍ من الزمن.
زراعة الأعضاء التقليدية: معوقات وصعوبات عديدة
يرجع تاريخ زراعة الأعضاء البشرية إلى القرن الثامن عشر، حيث زُرعت أوّل قرنية لغزالٍ في عام 1837. ولم يكن قبل عام 1905 حتّى تمكّن الأطباء والجراحون من إجراء أول عملية جراحية ناجحة لزراعة قرنية إنسان في جمهورية التشيك. وعلى مرّ السنوات اللاحقة، شهد المجال تطوّرًا ملحوظًا وقويًّا استطاع من خلاله زراعة الكثير من أعضاء الجسد، كالكلية والبنكرياس والقلب والأمعاء والرئتين والذراعين والفكّ. أمّا عام 2010 فقد سُجّل بالتاريخ بكونه العام الذي نجحت فيه البشرية بزراعة أوّل وجهٍ بالكامل لإنسان.
ومع ذلك، لا تبدو الأرقام مبشّرة على نحوٍ كبير. ففي الولايات المتّحدة وحدها يموت 21 شخصًا بشكلٍ يوميّ بينما ينتظرون القيام بعملية زرع لأحد أعضائهم الجسدية. أمّا الذين يقبعون على قائمة الانتظار، بحسب إحصائيات اليوم التي يُشير إليها موقع OPTN فيصل عددهم إلى أكثر من 113 ألف منتظِر.
يواجه المتلقون للأعضاء المزروعة مشكلة رفض أجسامه لتلك الأعضاء وقيامها باستجابات مناعية مضادّة
من جهةٍ ثانية، يواجه مجال زراعة الأعضاء عددًا من القضايا الأخلاقية مثل إمكانية وضع اسم المريض على قائمة الانتظار من عدمها والتي تخضع لبعض الشروط منها أنْ تتجاوز إمكانية حياة المريض لمدة خمس سنوات بعد إجراء العملية نسبة الخمسين بالمائة. إضافةً للوضع الاقتصادي-الاجتماعي الذي يحكم المريض، أو مسائل التجارة بالأعضاء واستغلال المرضى عاطفيًا بهدف الأرباح المادية.
صحّيًا، يواجه المريض بعد عملية الزراعة مشكلةً أخرى تنطوي على احتمالية رفض جسمه للعضو المزروع بقيامه باستجابة مناعية مضادّة له ولوجوده، الأمر الذي يؤدي إلى فشل العملية والاضطرار إلى إزالة العضو من جسد المتلقّي على الفور. أمّا الحل لمواجهة هذه المشكلة فيكمن باختباراتٍ صارمة لتحديد المتبرّع الأفضل لكل متلقٍّ، ومن ثمّ تلقّي جرعات عالية من الأدوية المثبطة للمناعة مدى الحياة.
أمّا على مستوى زراعة الوجه على سبيل المثال، فثمّة صعوبات ومعيقات أخرى إضافةً لما ذكرنا. كالعمر ولون البشرة ولون الشعر وغيرها من العوامل التي وإنْ ساعدت في نجاح العملية، إلّا أنها ستكون حاجزًا في وجه كمالها وإتمامها بطريقةٍ تامّة وملائمة للشخص المريض.
تطوّرات ملموسة وآمال كبيرة
من هنا، نشأت الحاجة إلى إيجاد وسيلةٍ أخرى تكون أقلّ اعتمادًا على أعضاء الآخرين وأكثر مقاومةً لمناعة الجسم ورفضه للعضو المزروع. ولعلّ آلية الطباعة ثلاثية الأبعاد تكون حلًّا مثاليًا يحوّل المستحيل إلى حقيقة وينقذ أرواح الكثيرين من البشر، عوضًا عن إمكانيّتها لترميم العظام والجماجم البشرية أيضًا.
يمكنك تخيّل الطابعة مثل الطابعة العادية التي تعرفها، ولكن بدلًا من وجود الحبر فثمّة خلايا حيّة ترسم العضو طبقةً بطبقة.
كيف تحدث تلك العملية إذن؟ لنتخيّل أنّ جمعًا من الأطباء ينوي طباعة كِلية لشخصٍ تعطّلت كليته أو تراجع عمل وظائفها الطبيعية. في البداية، يحتاج الأمر إلى إجراء تصوير مقطعي بالأشعة السينية لتلك الكلية وتحويل البيانات الناتجة إلى نموذج ثلاثي الأبعاد لها من خلال برنامج رقميّ خاص. لاحقًا يوضع النموذج في آلةٍ تحتوي على عددٍ من الخلايا والهلام الحيّ ليتمّ تصنيعه طبقةً طبقةً بحيث يصبح مهيأً للزراعة في الجسم. يمكنك تخيّل الطابعة مثل الطابعة العادية التي تعرفها، ولكن بدلًا من وجود الحبر فثمّة خلايا حيّة ترسم العضو طبقةً بطبقة.
ولكي تعمل أجهزة الطباعة ثلاثية الأبعاد فعليها أن تحاكي ما يحدث في الجسم بشكلٍ طبيعي، سواء من ناحية التنظيم أو تلبية الحاجات البيولوجية المخصّصة للأعضاء المطبوعة. على سبيل المثال، يجب على الكلية معالجة نفايات الجسم وإفرازها للخارج على شكل بول.
طباعة فقرة لعظم أحفوري من أحد أنواع الفقمات المنقرضة والتي يُقال أنها عاشت منذ حوالي 24 مليون سنة
وفي الوقت نفسه، تتطلّب تلك الأجهزة ظروفًا معيّنة حتى تنجح في عملها، كالتعقيم ودرجة الحرارة والرطوبة الملائمة لنموّ الخلايا وتشكيل الأنسجة التي يتطلّب كلّ نوعٍ منها بيئة ميكانيكية فريدة من نوعها تختلف عن غيرها؛ فعضلة القلب تختلف عن العظام التي بدورها تختلف عن الأعضاء الداخلية بطبيعتها وظروف عملها واستمرارها.
في حين أنّ المجال لا يزال في مراحله المبكّرة من التطوّر إلا أنه أثبت بعض النجاح، لا سيّما في مجال طباعة الجلد والعظام، وقد تمّ بالفعل زراعة ركبة اصطناعية صُنعت بتقنية الطباعة الثلاثية الأبعاد عام 2015، وزراعة فكٍّ سفليّ بنجاحٍ تام على وجه امرأة تبلغ من العمر 83 عامًا.
فيما تعدّ الكلية من أكثر الأعضاء صعوبةً في الطباعة نظرًا لتعقيد بنيتها ومهامّها الوظيفية. ومع ذلك، استطاع فريقٌ من الباحثين عام 2016 طباعة عددٍ من الوحدات الأنبوبية الكلوية “النفرون“، وهي المسؤولة عن تصفية الدم من جميع الشوائب والسموم وإخراجها عن طريق البول. ما يعني أنّ مجال الأعضاء المطبوعة أصبح أقرب بكثير الآن إلى صناعة كِلية بشرية وظيفية وقادرة على القيام بمهامّها بنجاح.
أما على مستوى طباعة القلب، فيعتقد الباحثون أنه سيكون أسهل من طباعة الكلى نوعًا ما، نظرًا لأنّ مهمته أبسط وتقوم بضخّ الدم. وبالفعل، قام باحثون في جامعة تل أبيب بطباعة قلب بشريّ يبلغ حجمه حجمَ حبّة الكرز يستطيع النبض والانقباض غير أنه لم يكن قادرًا على ضخّ الدم بعد.
ثورة قادمة في عالم الأدوية
ليس من المتوقع أن تظفر آلية الطباعة ثلاثية الأبعاد فرصةً أخرى للنجاة أو باستعادة عضوٍ ما للمرضى وحسب، بل يتوقّع منها أكثر من ذلك في مجالاتٍ عديدة أخرى منها مجال صناعة الأدوية والعقاقير. فما نعلمه الآن أنّ معظم الأدوية الجديدة يتمّ تجربة فعاليّتها وعملها على الحيوانات المختبرية، ما يجعلها أكثر عرضةً للفشل لاختلاف تركيبة الإنسان الفسيولوجية عن غيره من الحيوانات.
هناك سؤالٌ يلحّ فيما يتعلّق باستخدام الآلية لتغيير الأعضاء واستخدامها لتطوير القدرات البشرية بما هو أكثر من القدرات الطبيعية لا سيّما في مجالات التسلّح وتحسين القدرات العسكرية للجيوش
وبالتالي، قد تقدّم تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد بديلًا أكثر نجاحًا ونجاعةً من خلال تصنيعها أو إنتاجها لأعضاء بشرية كالكبد أو القلب أو الكلى أو غيرها، ومن ثمّ اختبار الأدوية وتحديد كيفية عملها وآثارها ومضاعفاتها على تلك الأعضاء بدلًا من اللجوء لاختبارها وتجربتها على الحيوانات. إذ سيصبح من الممكن استخراج الخلايا الحيّة من جسم مريضٍ واحد وإعادة استزراعها وصناعتها في المختير واختبار الدواء عليها قبل تعميمها على جميع المرضى. العديد من شركات الأدوية متعددة الجنسيات بدأت بذلك بالفعل.
من الواضح أنّ المسألة ليست سوى مسألة وقت قصيرٍ حتى يكون الطبّ والتكنولوجيا قادرين على تحقيق المزيد من الإنجازات والتقدّمات في هذا المجال. وربّما علينا من اليوم التفكير في الكثير من الأسئلة الأخلاقية والاجتماعية التي سيتمّ طرحها بهذا الخصوص، كأنْ تصبح الآلية مخصّصة لأغراضٍ رفاهية وتجميلية لا لدواعٍ صحّية ملحّة، أيْ أنْ تتحوّل إلى شكلٍ من أشكال الجراحة التجميلية مثل طباعة جلدٍ مقاوم لعوامل الكبر والشيخوخة وظهور التجاعيد والترهّلات.
وإضافةً إلى السؤال الأخلاقي المتعلّق بالتكاليف وعدالة توافرها للناس جميعهم دون تفرقة، هناك سؤالٌ آخر يلحّ فيما يتعلّق باستخدام الآلية لتغيير الأعضاء واستخدامها لتطوير القدرات البشرية بما هو أكثر من القدرات الطبيعية، كأنْ يتم استبدال عظامنا الحالية بعظامٍ أكثر مرونة وأقل عرضةً للكسر، أو تحسين العضلات بحيث تصبح أقلّ عرضةً للإرهاق والتعب، وهو ما قد يتمّ استغلاله في مجالات التسلّح وتحسين القدرات العسكرية للجيوش، فتصبح الطباعة ثلاثية الأبعاد للأعضاء جزءًا من سباق التسلح بين الدول الكُبرى في العالم.