كتب الأديب التشيكي فرانز كافكا في رسائله ذات مرة قائلًا: “الكتاب يجب أن يكون المعوَل الذي تتحطم به بحار الجليد فينا” وقبل أربعة قرون من ذلك ذكر جاليليو أن الكتب تمنحنا “قوى خارقة”، وهو المعنى ذاته الذي فكر فيه عالم الفلك كارل سيغان حين قال “الكتب هي الدليل بأن البشر قادرون على اجتراح المعجزات”. هذه المقولات عبّرت بشدة عن الوظيفة الحقيقية للكتاب والهدف الرئيسي من القراءة، فنحن نقرأ حتى تتكسر بحار الجليد فينا ونكتب لأننا نخوض رحلة دائمة في البحث عن المعنى.
لكن الواقع المعقد في المنطقة، الذي يشتبك فيه السياسي مع الاقتصادي وطغيان الربح المادي على القيمة المعرفية والجودة والعمق. وضع القراءة بوصفها فعل معرفي وأداة تغيير، في أزمة. فمع تحوّل الكتاب إلى سلعة، أُفرغت القراءة من معانيها وأهدافها، إذ تحولت إلى أداة لبناء المزيد من بحار الجليد داخل عقولنا وأنفسنا، كما تكدّست الكتب التي لا تقدم أي مفيد على أرفف المكتبات.. فلماذا حدث ذلك؟
في البدء كانت الكتب مفاتيح لفهم أنفسنا والعالم
ذكرت الأديبة الأمريكية الشهيرة أورسولا كي لي غوين في حوارها الذي أجرته مع المذيع المعروف جوناثان وايت الذي ورد في كتابه “حديث عن الماء: حوارات عن الطبيعة والإبداع” أن الكتابة تمنح الناس الكلمات اللازمة من أجل فهم تجربتهم الخاصة، ولأن هناك دائمًا مساحات شاسعة للصمت ضمن أي ثقافة، فعمل الكاتب هو الغوص في تلك المساحات والعودة من الصمت محملًا بما يقوله، فمن بين الأسباب التي تجعلنا على سبيل المثال نقرأ الشعر هي أن الشعراء يمنحونا ما نحتاج إليه من كلمات ولذلك ترانا أحيانًا حين نقرأ مقطوعة شعرية جيدة نقول: “نعم، هذا ما نشعر به بالضبط”، وتضيف لي غوين قائلة: “الكاتب أو الفنان مؤرخ روحاني أو عاطفي يكمن دوره تحديدًا في جعلك تدرك العذاب والمجد وراء معرفة ما أنت ومن أنت”.
تعج مواقع التواصل الاجتماعي بصور لكتب رفقة بعض الورود أو فنجان قهوة وهو الأمر الذي رسم صورة داخل عقل الكثيرين أن القراءة تضفي على الأشخاص طابعًا من الثقافة وبالتالي تحولت القراءة من نقطة تغيير إلى موضة
وظيفة الكتب إذًا مساعدتنا على فهم أنفسنا وفهم الآخر، أن تتيح لنا الاستفادة من تجارب الماضي وتطلعنا على وجهات نظر جميع أطياف المجتمع. ومن خلال قراءة الكتب يمكننا التعرف على أفضل العقول التي وجدت على مر التاريخ وكيف استطاعت تغيير المجتمع من خلال أفكارها الثورية.
الكتب هي نوافذ نطل منها بكل حميمية على كل ما استشكل علينا فهمه، ولهذا نظر الطغاة دومًا إلى الكتب على أنها خطر محتمل على عقول العامة. ففي عام 1671 كتب الحاكم البريطاني لمستعمرة فيرجينا “أشكر الرب لعدم وجود مدارس ومطابع مجانية، وأتمنى أن يستمر الوضع كذلك لمئات السنين، وذلك لأن التعليم يجلب العصيان والهرطقة والمذهبية إلى هذا العالم. وتسمح المطابع لهذه الشرور بالانتشار، وتتيح التشهير بالحكومات الفضلى. إلهي أبعد عنا شر الاثنين، التعليم والطباعة”.
خدعوك فقالوا: القراءة عملية ممتعة على الدوام
تعج مواقع التواصل الاجتماعي بصور لكتب رفقة بعض الورود أو فنجان قهوة وهو الأمر الذي رسم صورة داخل عقل الكثيرين أن القراءة تضفي على الأشخاص صورة المثقّف، وبالتالي تحولت القراءة من نقطة تغيير إلى موضة، وانتشرت بشكل موازٍ ظاهرة الكتب الخفيفة والروايات المسلية، ودخل الكثير في سباقات على مواقع القراءة وانتشرت الكتب السطحية، ومع مرور الوقت تحول الأمر برمته إلى سباق وهمي نحو إشباع غرور الذات أمام الآخرين وهو الأمر الذي غذته وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير.
هل القراءة ضرورة؟ والإجابة هي نعم ولا! لأن القراءة ليست ضرورة لذاتها ولكنها ضرورة لأنها تساعدنا على فهم العالم كما أنها مفهوم مرادف للتعلم
والحقيقة أن القراءة ليست عملية سهلة وللأسف لا تكون ممتعة على الدوام، ولكنها عملية شاقة وفي بعض الأحيان قد تكون صعبة أو معقدة، حيث يتطلب الأمر الكثير من الجهد للانتهاء من فصل كتاب فلسفي من أجل تحقيق أكبر قدر من فهمه، وكلما كان الكتاب أكثر ثقلًا كان تحدي الانتهاء منه كبيرًا، ولهذا فإن القراءة كمهارة جادة تحتاج إلى الكثير من الوقت لنتقنها.
وهنا يظهر لنا سؤال مهم: هل القراءة ضرورة؟ والإجابة هي نعم ولا! لأن القراءة ليست ضرورة لذاتها ولكنها ضرورة لأنها تساعدنا على فهم العالم كما أنها مفهوم مرادف للتعلم وبالتالي لا يمكن تحقيق أي فائدة تُرجى من القراءة دون التقيد بهذه الفكرة، يُستثنى من ذلك الأمر قراءة الروايات ولكن يجب معرفة أن قراءة الروايات والأدب وإن كانت لا تساهم في تعلمنا بشكل مباشر ولكنها تُثري أخيلتنا وتُطلعنا على الكثير من حيوات الآخرين وكما قال ألبرت أينشتاين “المخيلة أهم من المعرفة” يؤيده في وجهة نظر ماركيز حين قال “المخيلة دائمًا على حق”.
كيف ساهمت دور النشر في تغذية موضة القراءة؟
خلال عام 1950 ظهرت حركة أُطلق عليها اسم “البوب آرت” Pop Art وكانت رد فعل على فن ما بعد الحداثة الذي كان ينظر له أعضاء الحركة على أنه فن نخبوي ومعقد لا يصل إلى عامة الشعب ولا يستطيع فهمه سوى القليل، ولذا اعتمدت هذه الحركة في فنها الجديد على استدعاء الموروث الشعبي واستخدامه وكان الهدف حينها هو الانتشار والتسلية.
تكرّرت التجربة ذاتها مع دور النشر مع اختلاف الأهداف، إذ لم يكن هدف دور النشر الدفع بالموروث الشعبي إلى المقدمة ولكن الهدف كان تصدر الكتب الخفيفة رغبة في تحقيق الكسب المادي واستغلال ظاهرة موضة القراءة المنتشرة بكثرة في جميع أرجاء البلاد العربية، ومع مرور الوقت طفت على السطح ظاهرة قوائم “الأكثر مبيعًا” Best Seller وهي عبارة عن قوائم تضعها المكتبات الكبرى وفقًا لحجم مبيعاتها وبالتالي تؤدي منافذ البيع دورًا غير محايد، حيث ترشح بشكل غير مباشر الكتب الأكثر قراءة إلى القراء باعتبار أنها الكتب الأفضل فقط لأنها الأكثر مبيعًا.
بسبب عدم وجود لجنة قراءة ومراجعة وتدقيق في الكثير من دور النشر أضحت عملية إصدار كتاب من أسهل ما يكون، وبالتالي انتشرت في الآوانة الأخيرة الكثير من الكتب التي لا تقدم أي منفعة للقارئ كما ظهرت نوعية أخرى من الإصدارات وهي الكتب المكتوبة باللغة العامية
وغالبًا ما تتصدر الكتب والروايات الخفيفة تلك القائمة وهو الأمر الذي استغلته دور النشر طمعًا في تحقيق المزيد من الأرباح المادية وذلك على حساب نشر الوعي والثقافة، وبالتالي أضحى الكثيرون يقرأون عددًا كبيرًا من الكتب والروايات دون أن يضيف ذلك إلى ثقافتهم شيئًا.
كيف تتلاعب دور النشر بسوق الكتب؟
مع إقبال الشباب على معارض الكتاب الدولية ورواج حركة شراء الكتب والروايات استغل بعض الناشرين الوسط الثقافي حتى يحولوه إلى متجر وعمل خاص تتحكم فيه قوى العرض والطلب، مع تجاهل محتوى الكتاب وما يقدمه للقارئ، فالمهم في النهاية تحقيق الأرباح والمكاسب المادية، ومن أجل تحقيق المزيد من تلك المكاسب تلجأ دور النشر والتوزيع إلى عدد من الوسائل لضمان الحضور في الساحة الأدبية، ومن أهم تلك الوسائل:
إصدار الكثير من الكتب دون الاهتمام بالمحتوى: تتبع بعض دور النشر إستراتيجية غزارة الإنتاج مع خفض التكلفة. حيث تجد أن الكثير من دور النشر تصدر عددًا كبيرًا من الكتب والروايات وذلك على حساب خلوها من لجان القراءة المتخصصة بقراءة العمل وتقييمه ومن ثم مراجعته اللغوية وتنقيحه، وبالتالي تصدر دار النشر الكتب دون الاستعانة بمحرر أدبي أو مراجع لغوي، وقد يتطوّر الأمر ليصل إلى خلو الدار من فريق خاص للتواصل مع المكتبات.
استغلال الكاتب ماديًا: تلجأ بعض دور النشر إلى استغلال الكاتب ماديًا، حيث تطلب منهم دفع مبالغ مادية مقابل عملية النشر طالما ستتحمل الدار كل متطلبات النشر بداية من تنسيقه وصولًا إلى تسويقه وتوزيعه وبالتالي يجد الكاتب نفسه متحملًا لجزء كبير من تكلفة النشر، وهو أمر يساهم فيه الكاتب إلى حد كبير بسبب تسرعه في عملية النشر وكأن الأمر أيضًا أشبه بسباق أو كأنه نجاح مهني سُيضاف إلى سيرته الذاتية المهنية.
استغلال المتابعين من أجل تضخيم عدد نسخ الكتاب: تخدع دور النشر الجماهير عبر اللعب بأرقام الطبعات من أجل خلق “وهم نجاح”. إذ يستغل الناشر وجود عدد كبير من المتابعين لكاتب ما على مواقع التواصل الاجتماعي وتجده يصل إلى الطبعة العاشرة في وقت قياسي من تاريخ طرحه، فينتشر صيته ككتاب “ناجح” بسرعة كبيرة، رغم أنه طُبع من البداية بأعداد قليلة.
وبسبب عدم وجود لجنة قراءة ومراجعة وتدقيق في الكثير من دور النشر أضحت عملية إصدار كتاب سهلة، وبالتالي انتشرت في الآونة الأخيرة الكثير من الكتب التي لا تقدم أي منفعة للقارئ وتبيعه محتوى مكرّر ومستهلك وفي أغلب الأحيان، ملائم لتصوّرات السلطات السياسية الحاكمة للبلاد، مما ينزع من القراءة جوهر كونها محفز محتمل لفعل سياسي أو تغيير مجتمعي.