للعثمانيين اهتمامات خاصة بالموسيقى على مدار قرون حكمهم للإمبراطورية، وتأتي هذه المكانة الكبيرة للموسيقى في الدولة العثمانية من اهتمام السلاطين العثمانيين أنفسهم ورجال الدولة بالموسيقى، فأغلب هؤلاء السلاطين كانوا يألفون الألحان ويكتبون كلمات الأغاني، وبعضهم كان يجيد العزف على بعض الآلات الموسيقية.
فالسلطان بيازيد الثاني، مثلاً، له 9 مقدمات موسيقية، وقد بدأ في عهده التداوي العقلي بالموسيقى، والسلطان محمود الأول كان عازفًا ماهرًا للكمان وله العديد من الألحان. كما أن السلطان سليم الثالث اكتشف 14 مقامًا موسيقيًا، والسلطان محمود الثاني كان يؤلف الألحان ويعزفها أيضًا وله 26 لحنًا باقيًا حتى اليوم، حتى أن آخر سلاطين بني عثمان، وهو السلطان وحيد الدين، كان يؤلف الألحان ويكتب كلمات الأغاني ويعزف على القانون، وله 41 لحنًا.
ذكر كثير من الباحثين في تاريخ الموسيقى في الإمبراطورية العثمانية، مثل أرهان أوزدن في كتابه “مدارس الموسيقى العثمانية”، أن الموسيقى العثمانية تأثرت بشكل واضح في بداياتها بموسيقى الإمبراطورية الفارسية والساسانية والبيزنطية، إلى جانب تأثيرات الحضارة الإسلامية التي وصلت إليهم عن طريق بغداد، وقد صهر العثمانيون كل هذه التأثيرات مع موسيقاهم الأساسية، حتى تشكلت بعد ذلك ملامح الموسيقى العثمانية.
ارتبطت هذه الموسيقى بالسراي بشكل كبير، لأنها صُنعت من الأساس داخل السراي، وبين طبقة النخبة، وفي تكايا المتصوفة والجيش الذي كان يُخصص له ما يُعرف بالـ”مهتران” أو الـ”مهتر خانة”، وهي فرقة موسيقية عسكرية كانت تتقدم الجيوش لتزيد حماس الجنود.
بدأ تعلم الموسيقى بشكل نظامي داخل السراي منذ عهد السلطان محمد الفاتح، وبرعت أسماء موسيقية كثيرة في الدولة العثمانية مثل إسماعيل داده أفندي وحاجي عارف بك وجميل بك الطنبوري، وجميعهم برعوا في تأليف الألحان والعزف على آلات مثل العود والطنبور والقانون والناي والدف، كما تعلمت نساء السراي الموسيقى في الحرم أيضًا، وأعظم من برعت في هذا السياق هي الموسيقية “ديل حياة” التي نشأت في السراي في القرن السادس عشر وحصلت على وظيفة إدارية مهمة، ولها ما يقارب المئة لحن.
بدأ استخدام الموسيقى الغربية بالتدريج بدلاً من العثمانية، ونُظر إلى الموسيقى العثمانية على أنها عاجزة عن التعبير عن حجم الانقلاب السياسي والمجتمعي والثقافي الذي أحدثه أتاتورك
وفي أواخر فترة حكم العثمانيين، عندما بدأت مرحلة ما يُعرف في التاريخ العثماني بـ”عصر التنظيمات” الذي شهد انفتاحًا على الحداثة الأوروبية، طالت عمليات التحديث في هذه الفترة الموسيقى أيضًا، فغير السلطان محمود الثاني، في عام 1826 أوركسترا “مهتار خانه” وجعلها على الأصول الغربية، ودخلت آلة الكمان الموسيقى العثمانية في هذه المرحلة.
وثقت كتب عدة، مثل “سوسيولوجيا ثورة الموسيقى” لـ “غونيش أياس” وكتاب “ثورة كمال” لأتيلا سالم وكتاب “أتاتورك الموسيقى” لأحمد أوزجيري، التغييرات الجذرية التي تبناها مصطفى كمال بعد إعلان الجمهورية التركية بهدف تغيير جميع مظاهر الحياة التركية لتصبح على الطراز الغربي، موقفه من الموسيقى أيضًا، ويبدو أن موضوع تغيير الموسيقى العثمانية الكلاسيكية كان على رأس أولويات مشروع “التغريب” الذي تبناه أتاتورك، لأنه كثيرًا ما كان يردد أن الموسيقى معيار الحضارة.
ومثلما تمت عمليات إغلاق التكايا ومنع لبس العمامة والطربوش واستبدالهما بالقبعة الغربية واعتماد التوقيت والتقويم الغربي وصولاً إلى اعتماد الحرف اللاتيني عام 1928، وغيرها من الخطوات التي استهدفت قطع العلاقة بشكل حاسم مع العالم العربي والإسلامي، تم أيضًا اتخاذ نفس الموقف وبنفس درجة التطرف من الموسيقى العثمانية الكلاسيكية التي تم اعتبارها أحد مظاهر العهد العثماني البائد.
بدأ استخدام الموسيقى الغربية بالتدريج بدلاً من العثمانية، ونُظر إلى الموسيقى العثمانية على أنها عاجزة عن التعبير عن حجم الانقلاب السياسي والمجتمعي والثقافي الذي أحدثه أتاتورك، ومن الواضح أن الأيديولوجيا الأتاتوركية كانت تربط بين الموسيقى العثمانية والعرب والعالم الإسلامي بشكل عام، الذي عمل أتاتورك على عزل تركيا عنه.
أراد أتاتورك أن يخلق هوية موسيقية للجمهورية التركية الناشئة، وهي عبارة عن “توليفة” بين موسيقى الأناضول والموسيقى الغربية، وانقسم الكُتّاب والمثقفون وقتها إلى مؤيد ومعارض لهذا التصور، ومن أبرز مؤيدي أتاتورك أو ربما هو من أوحى إليه بهذه الفكرة، هو الشاعر والسياسي والمُنظّر ضياء جوك ألب، الملقب بـ”أبو القومية التركية” الذي قال إن الموسيقى العثمانية لا تعكس ثقافة الأتراك، وقد بلغ هذا الموضوع من الأهمية إلى درجة تناوله على قائمة أعمال البرلمان التركي آنذاك.
وبالفعل تم إغلاق قسم الموسيقى الشرقية في دار الألحان التي تأسست في أواخر الدولة العثمانية، وأُرسلت البعثات إلى أوروبا بهدف تعلّم الموسيقى الغربية وإمكانية تدريسها في تركيا، ففي عام 1924 تم افتتاح معهد جديد للموسيقى على الطراز الغربي، وفي عام 1925 أرسلت الدولة بعض المجموعات إلى غرب الأناضول بهدف تجميع تراث الموسيقى الشعبية من هناك، وفي عام 1926 تم منع تعليم فنون الموسيقى الشرقية في المؤسسات الرسمية، ومع ظهور الراديو عام 1927 بثت الإذاعة التركية الموسيقى الغربية.
يعد رؤوف يكتا بك من أبرز الموسيقيين الذين عارضوا قرار منع الموسيقى الشرقية، واستمر في تأليفها، وشهد عقد الثلاثينيات في تركيا نقاشات حادة على صفحات الجرائد بشأن موضوع منع الموسيقى الشرقية واستبدالها بالغربية
صارت هذه الخطوات تُعرف بالانقلاب على الموسيقى القديمة، وفي عام 1931 تم افتتاح الأوبرا التركية على الطراز الغربي، ووصل التطرف في الموقف من الموسيقى الشرقية إلى الحد الذي جعل تركيا ترفض بشكل رسمي المشاركة في مؤتمر الموسيقى العربية الأول الذي عقد في مصر عام 1932، بدعوى أنهم غير مشغولين بالموسيقى الشرقية من الأساس، إلا أن الموسيقي التركي البارز رؤوف يكتا بك، شارك في المؤتمر وكتب عنه كتابًا بعنوان “مطالعات وآراء حول مؤتمر الموسيقى العربية”.
يعد رؤوف يكتا بك من أبرز الموسيقيين الذين عارضوا قرار منع الموسيقى الشرقية، واستمر في تأليفها، وقد شهد عقد الثلاثينيات في تركيا نقاشات حادة على صفحات الجرائد عن موضوع منع الموسيقى الشرقية واستبدالها بالغربية، ونشر الصحافي التركي روشان فريد بك مقالاً في جريدة “جمهوريات” عام 1932 يتهكم فيه من فكرة دمج موسيقى الأناضول بالموسيقى الغربية، وذكر أن هذا الأمر كمن يأتي برجل أوروبي ويضع الطربوش على رأسه أو من يجعل فلاح الأناضول يرتدي بدلة غربية.
رغم كل محاولات الكماليين في تركيا لمنع الموسيقى الشرقية على مدار عقود، فإن ذلك لم يغير موقف الأتراك من هذه الموسيقى حتى في سنوات المنع، وهو الأمر الذي يؤكد أن ذائقة الشعوب لا تتغير بقرار رئاسي أو داخل أروقة البرلمانات
استمرت عمليات الترويج للهوية الموسيقية الجديدة، وتم اعتبار آلات موسيقية كالعود والقانون والناي تعبر عن الرجعية، بهدف حث الناس على التعلق بالآلات الغربية، وانخفضت أسعار آلات الموسيقى الشرقية بشكل ملحوظ، ووصل الاحتدام بشأن مسألة الموسيقى الشرقية والغربية في تركيا، إلى أنه في عام 1934 نشرت جريدة “كورون”: “لا تذهبوا إلى الأماكن التي تُعزف فيها الموسيقى الشرقية، يجب مقاطعتها تمامًا”.
كما انتشرت أيضًا رسومات الكاريكاتور التي تسخر من الموسيقى الشرقية والآلات الخاصة بها، فنشرت صحيفة “أكشام” (المساء بالعربية)، كاريكاتورًا لبعض الآلات الموسيقية الشرقية تتحدث مع آلات غربية، بما معناه أن الآلات الشرقية لم تستطع أن تتماشى مع العصر في ظل وجود الآلات الجديدة.
استمر منع الموسيقى الشرقية بشكل رسمي في تركيا لمدة خمسة عقود تقريبًا، حتى افتتح سليمان دميرال معهدًا جديدًا للموسيقى في منتصف السبعينيات، وجاءت بعد ذلك محاولات بعض الموسيقيين لعقد مصالحة بين الموسيقى الشرقية والغربية، من خلال مزج تقنيات النوعين معًا، مثلما فعل الموسيقي حسن فريد إلنار.
وأخيرًا فإنه جدير بالذكر أنه رغم كل محاولات الكماليين في تركيا لمنع الموسيقى الشرقية على مدار عقود، فإن ذلك لم يغير موقف الأتراك من هذه الموسيقى حتى في سنوات المنع، وهو الأمر الذي يؤكد أن ذائقة الشعوب لا تتغير بقرار رئاسي أو داخل أروقة البرلمانات.