قبل أكثر من 15 عامًا من اليوم، حذّر سكوت ماكنيلي، المؤسس المشارك لشركة صن مايكرو سيستمز، من مآلات ثورة المعلومات التي من شأنها القضاء على الخصوصية، قائلاً: “لم يَعد لديكم أي خصوصية، تقبَّلوا هذا الأمر” حسبما نقل عنه المؤلف بيتر بيسيل في كتابه “الكون الرقمي” الصادر عام 2012.
لم يكن يتوقع أحد أن نبوءة ماكنيلي ستتحقق بهذه الكيفية، فالأمر تجاوز أساليب قراصنة الحوسبة وما يتبعونه من وسائل واختراقات غير شرعية إلى آفاق أخرى، بات انتهاك الخصوصية فيها على أيدي مواقع رسمية وذات ثقل ومكانة كبيرة على رأسها “فيسبوك”.
تحت شعار “المستقبل خاص” افتتح الرئيس التنفيذي لشركة فيسبوك، مارك زوكربيرغ، مؤتمر المطوّرين السنوي لشركته في سان خوسيه بولاية كاليفورنيا الأمريكية، كاشفًا من خلاله حزمة من التطبيقات التي تهدف إلى حماية خصوصية المستخدمين في محاولة لطيّ صفحة انتهاكات الخصوصية العديدة التي رافقت فيسبوك طيلة الأعوام السبع الماضية.
يبذل زوكربيرغ جهودًا حثيثة لنسيان فضيحة العام الماضي على وجه التحديد. تلك السقطة التي هزت عرش الشبكة، هذا في الوقت الذي يواجه فيه الموقع الأزرق تحديات جسام في ظل توجه جديد لدى بعض الدول والأنظمة لاستحداث مواقع أخرى بديلة.
غرفة معيشية رقمية
استغل الرئيس التنفيذي لـ”فيسبوك” المؤتمر ليعرض ملخصًا عن استراتيجيته الجديدة التي يسعى من خلالها إلى تحويل الشبكة وجميع الخدمات المرتبطة بها إلى ما يشبه “غرفة معيشة رقمية”، يستطيع المستخدمون من خلالها مشاركة الأشياء بطرق خاصة أكثر مما يمكنهم حاليًّا، خاصة مع الأعداد الكبيرة التي تتعامل مع الموقع.
وفي كلمته على هامش المؤتمر كشف زوكربيرغ النقاب عن عدد من التطبيقات المجددة التي تركز على الخصوصية والمجموعات الصغيرة، لافتًا إلى أنها ستبدأ طرحها في وقت لاحق هذا العام، معلقًا: “مع ازدياد حجم العالم وترابطه، نحتاج إلى هذا الشعور بالألفة أكثر من أي وقت مضى”، مضيفًا “لهذا أعتقد أن المستقبل خاص”.
على مدار سبعة أعوام مضت منذ 2011 وحتى الآن تعرض “فيسبوك” لجملة انتقادات واسعة النطاق، تمحورت معظمها حول ما يتعلق بخصوصية المستخدمين
يذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي يطلق فيها الرئيس التنفيذي للفيسبوك شعار “المستقبل خاص” إذ استخدم هذا الشعار بداية هذا العام في ظل ما كانت تواجهه الشبكة من انتقادات حادة جراء سلسلة فضائح الخصوصية الضخمة التي هزت الشركة على مدار الـ15 شهرًا الماضية.
ورغم الإدانات التي تعرضت لها الشركة بشأن ما تحققه من أرباح طائلة بناء على جمع المعلومات الشخصية من مستخدميها وبيعها لمؤسسات أخرى تستهدف تلك الاهتمامات، فقد أقرت الشركة بأن عدم قدرتها على حماية خصوصية مستخدميها قد يكبدها غرامة تتراوح بين ثلاثة وخمسة مليارات دولارات من لجنة التجارة الاتحادية الأمريكية.
7 أعوام من الانتقادات
على مدار سبعة أعوام مضت منذ 2011 وحتى الآن تعرضت “فيسبوك” إلى جملة انتقادات واسعة النطاق، تمحورت معظمها حول ما يتعلق بخصوصية المستخدمين، وفشل الشركة في وضع برنامج تأميني يحول دون استخدام معلومات المستخدمين وتسريبها، هذا قبل تورط الشركة نفسها في تقديم هذه المعلومات لمؤسسات بعينها طواعية.
ونتاجًا لهذه السياسة التي اتبعتها الشركة طيلة السنوات الماضية، تعرّضت للعديد من الدعاوى القضائية التي رفعت ضدها، بعضها اتهمها بإساءة استخدام بيانات المستخدمين وتعريضها للقرصنة في ظل عدم وجود نظام تأميني جيد والمطالبة بتعويضات كبيرة لهم، فيما جاءت الأخرى تشكك في نزاهتها ومصداقيتها بعد الاتهامات التي أشارت إلى تورطها في تسريب تلك البيانات عن عمد.
البداية كانت في 2011 حين استحدثت الشبكة بعض التطبيقات الخاصة ببيانات المستخدمين، ما أثار العديد من التساؤلات وقتها عن النوايا الحقيقية وراء هذا التحديث، مما اضطر الشركة لتغيير تلك الآلية إثر دعوى قضائية رفعت ضدها وتغريمها 20 مليون دولار لتعويض المستخدمين الذين ادعوا استخدام الشبكة لبياناتهم دون إذنهم.
الدعوى تضمنت عدة تهم منها “مشاركة معلومات مستخدمي فيسبوك مع مطوري برامج وشركاتٍ خارجية”، إضافةً إلى “السماح للمعلنين بجمع معلوماتٍ عن المستخدمين بمجرد ضغطهم على أي إعلانٍ من خلال موقع فيسبوك”، وفقًا لما نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” بتاريخ 29 من نوفمبر/تشرين الثاني 2011.
الأمر ذاته تكرر في 2013 حين تعرضت فيسبوك لانتقادات حازمة بشأن تغييرات في سياسة الخصوصية سمحت بنشر إعلانات باستخدام صور وأسماء مستخدميه، حينها دافعت الشركة عن نفسها بدعاوى أن التغييرات التي طرحتها كانت بخصوص صياغة نصوص سياسة الخصوصية دون عمل أي تغيير حقيقي، وهو ما لم يقنع الغالبية آنذاك.
وبعد عام واحد فقط على دفاع الشبكة عن نفسها في مواجهة تلك الانتقادات دعت مستخدميها إلى تجربة تتضمن التعرف على طبيعة شخصياتهم ومن أي نوع هي عبر استبيان طوره ألكسندر كوغان، أستاذ باحث في جامعة كامبريدج وأطلق عليه اسم “حياتك الرقمية”.
الاستبيان كان ملفتًا للنظر في هذا الوقت، وعليه شارك فيه الكثير، وصل عددهم قرابة 270 ألف مستخدم، لكنهم فوجئوا أن بعض البيانات التي قدموها في الاستبيان تم نشرها على الوضع العام على الموقع الأزرق دون علم المستخدمين، وهو ما أحدث صدمة كبيرة.
تأتي خطة “المستقبل خاص” الجديدة التي أعلن زوكربيرغ بعض تفاصيلها خلال مؤتمر المطورين السنوي لشركته في إطار سياسة الهروب للأمام في محاولة لإسدال الستار على انتقادات السنوات السبعة الماضية
العديد من الدعاوى القضائية رفعت على الشركة جراء هذه المخالفة، إحداها ذهبت إلى أن فيسبوك يطلع على الرسائل لجمع بيانات عن المستخدمين والتربح من خلال منحها للمعلنين والمسوقين، مطالبة بغرامة قدرها 100 دولار عن كل يوم يثبت فيه انتهاك فيسبوك لخصوصية المستخدمين، أو 10 آلاف دولار لكل مستخدم، فيما ردت الشركة بأن الدعوى “بلا دليل، وسندافع عن أنفسنا بشراسة”.
وفي 2016 وجهت اتهامات للشركة بتسريب بيانات 50 مليون مستخدم تم جمعها بمعرفة شركة “كمبريدج أناليتيكا” البريطانية لاستخدامها في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لصالح الرئيس دونالد ترامب، حيث تم استخدام تلك البيانات في تصنيف المستخدمين نفسيًا وإمدادهم بأخبار وموضوعات مؤيدة للمرشح الجمهوري.
وفي أبريل 2018 عاد الجدل مرة أخرى بشأن انتهاك خصوصية المستخدمين للفيسبوك في أعقاب التقرير الذي نشرته “نيويورك تايمز” عن مشكلة الشركة الإنجليزية التي حصلت وفق ما تضمنه التقرير “على معلومات ما لا يقل عن 87 مليون مستخدم، مستخدمة إياها بطريقةٍ غير مشروعة، مستغلةً المعلومات في الحملة الرئاسية لترامب”.
وفي العاشر من نفس الشهر مثل مارك زوكربيرغ أمام لجنة من المحققين داخل الكونغرس لسماع أقواله بشأن هذه الجريمة، ليقر بما حدث مبديًا اعتذاره وتعهده بتلافي تلك الأخطاء مستقبلاً، قائلاً: “لم تكن لدينا نظرة فاحصة لمسؤوليتنا وكان ذلك خطأ كبيرًا”، وتابع: “كان ذلك خطأي.. أنا آسف”.
مثول مارك زوكربيرغ أمام الكونغرس لسماع أقواله في فضيحة التسريبات
اعتذار ولكن
لم يكتف مؤسس فيسبوك بالاعتذار أمام الكونغرس فقط، بل سارع لتقديم أسفه وتعهده بتلافي ما حدث في العدد من الصحف العالمية الكبرى على رأسها “صنداي تليغراف وصنداي تايمز والأوبزرفر وصنداي ميرور وصنداي إكسبرس”، وفي الولايات المتحدة نُشر اعتذار زوكربيرغ على كامل الصفحات الأخيرة لصحف نيويورك تايمز وواشنطن بوست وول ستريت جورنال.
ورغم ما قدمه الرجل من اعتذارات هنا وهناك، فإن ما حدث ألقى بظلاله على خريطة مستخدمي الشبكة، وهو ما أظهره استطلاع للرأي أجرته مؤسسة الأبحاث التقنية “Techpinions” على ما يقرب من 1000 من مستخدمي “فيسبوك”، حيث توصلت إلى أن 9% من المستخدمين حذفوا حساباتهم بسبب مخاوف تتعلق بالخصوصية عقب فضيحة التسريبات الأخيرة.
هذا علاوة على أن 17% حذفوا تطبيق “فيسبوك” من هواتفهم، بينما حذف 11% التطبيق من أجهزة أخرى، وفق ما كشفه موقع “ديلي ميل” البريطاني، فيما قال نحو 59% من المستطلعين إنهم لن يكونوا مستعدين لدفع ثمن نسخة خالية من الإعلانات، مثلما اقترح بعض المديرين التنفيذيين في الشركة خلال الأيام الأخيرة.
وعلى الأرجح تأتي خطة “المستقبل خاص” الجديدة التي أعلن زوكربيرغ بعض تفاصيلها في إطار سياسة الهروب للأمام في محاولة لإسدال الستار على انتقادات السنوات السبعة الماضية التي من المرجح أن تنعكس سلبًا على حاضر الشركة وهو ما تكشفه خسائرها المتتالية، إضافة إلى ما تحمله من تهديدات لمستقبلها في ظل ما يثار بشأن استحداث شبكات أخرى بديلة أكثر احترامًا للخصوصية خلال الفترة القادمة.