انطلقت، صباح اليوم السبت، فعاليات النسخة الـ22 من منتدى الدوحة السنوي، والتي تأتي هذا العام تحت شعار “حتمية الابتكار”، بمشاركة أكثر من 4500 مشارك من أكثر من 150 دولة، وأكثر من 300 متحدث، بينهم 7 رؤساء دول، و7 رؤساء حكومات، و15 وزير خارجية، بجانب حضور عدد من كبار المسؤولين وقادة المنظمات الإقليمية والدولية والأممية.
تنعقد تلك النسخة من المنتدي بالتزامن مع تطورات جيوسياسية إقليمية لافتة، ألقت بظلالها على جدول الأعمال وحجم المشاركة، على رأسها تطورات المشهد في سوريا والتقدم الكبير لقوات المعارضة وسيطرتها على العديد من المدن السورية الإستراتيجية في مقابل انهيار قوات النظام وتقهقرها بشكل مفاجئ، بجانب استمرار حرب الإبادة التي تشنها قوات الاحتلال في غزة والتي دخلت يومها الـ428 من القتل والتنكيل والتهجير بحق الشعب الفلسطيني دون أفق حقيقي يُسدل الستار على تلك الحرب الإجرامية الأطول في تاريخ الصراع.
ويسعى المنتدى من خلال جدول الأعمال وحجم المشاركة إلى محاولة توظيف التفكير الابتكاري والإبداعي، بما فيها أنظمة الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي، لمواجهة التحديات الراهنة وإعادة تشكيل مستقبل يتسع للجميع دون إقصاء، بنحو أكثر أمانًا واستدامة وازدهارًا، ووجوبية اتخاذ هذا الابتكار كمنهج حياة وأسلوب إدارة مستدام.
ويسعى منتدى الدوحة الذي أسسه الشيخ حمد بن خيفة آل ثاني عام 2000 ويعقد بشكل سنوي، إلى التعاطي مع التحديات الحرجة، إقليميًا ودوليًا، ومحاولة تقديم الرؤى والخيارات للتعامل معها ومواجهتها من خلال موائد الحوار والنقاش والجلسات التي يشارك فيها نخبة من الخبراء والقادة والمتخصصين من مختلف الجنسيات والأعراق، بغية تعزيز تبادل الأفكار وصناعة السياسات وتقديم التوصيات القابلة للتطبيق.
غزة.. رفض الازدواجية الدولية
فرض المشهد الكارثي في قطاع غزة، الممتد على مدار نحو 14 شهرًا، والذي وصفه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بـ”الكابوس” الذي يجب أن يتوقف فورًا، نفسه على طاولة أعمال المنتدى، إذ حذر رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، خلال افتتاح النسخة الحالية من المنتدى، من أن ما يجري في غزة من إبادة جماعية سيؤثر على المنطقة ويمتد تداعياته إلى لبنان وسوريا، داعيًا إلى ابتكار حلول جديدة لإنهاء العنف الراهن في المنطقة والعالم.
وشدد رئيس الوزراء القطري على ضرورة وضع حدّ لإنهاء تلك المأساة التي تشهد دوامة عنف إنسانية غير مسبوقة، وامتد أثرها إلى دول الجوار، محذرًا في الوقت ذاته من أن بقاء الوضع في غزة سيكون له تداعيات خطيرة تهدد أمن المنطقة بأكملها، منوهًا أن “التمسّك بالنهج التقليدي في التعامل مع الأزمات المستعصية يؤدي إلى تفاقمها”، لافتًا إلى “ضرورة ابتكار أساليب جديدة لإنهاء العنف والتأسيس لسلام مستدام”.
وأوضح آل الثاني أن تجربة الهدنة التي تحققت في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، بعد نحو شهر من بداية الحرب، أثبتت إمكانية نجاح العمل الدبلوماسي، متسائلًا: “كيف يمكن لمجتمع دولي يتحدّث عن الحلول التكنولوجية أن يفشل في حماية المدنيين بمناطق النزاع”، كما انتقد الازدواجية في التعامل مع ملف غزة رغم كارثيته ووضوحه، مقارنة بغيره من الملفات الدولية الأخرى والتي يتدخل فيها المجتمع الدولي بكل ثقله وبمعايير مختلفة، في إشارة للمشهد الأوكراني وغيره.
وكان وزير الخارجية القطري في كلمته الافتتاحية في النسخة السابقة من المنتدى (21) التي عقدت في 10 ديسمبر/كانون الأول العام الماضي، قد أشار إلى أن أزمة غزة أظهرت حجم الفجوة بين الشرق والغرب وازدواجية المعايير، مطالبًا بضرورة الاعتراف بالخلل في النظام العالمي الذي يسمح باستدامة الصراع، معبرًا عن خيبة أمله في قبول البعض الذرائع الوهمية التي ساقتها حكومة الاحتلال لاستهداف المدنيين في غزة، مشيرا إلى أنه يجب البدء بمراجعة النظام الدولي والإنساني حيث لا امتيازات للقوة والتمييز، وفق تعبيره.
وتتزامن تلك التصريحات مع تسريبات عن احتمالية انفراجة في هذا الملف، حيث الحديث عن أجواء إيجابية بشأن تعاطي كل الأطراف مع المقترح المصري لوقف إطلاق النار في القطاع، وسط ضغوط أمريكية لإنهاء هذا الأمر قبل تولي ترامب السلطة الشهر القادم، ورغم تلك الأجواء هناك من يقلل من فرص التوصل لاتفاق نهائي في ظل وجود بنيامين نتنياهو على رأس الحكومة العبرية، والذي يمارس انتهاكات صارخة بحق سكان الشمال في محاولة لفرض أمر واقع جديد وإقامة منطقة عازلة بعد تهجير الفلسطينيين من مناطقهم، كورقة ضاغطة يمكن اللعب بها إذا ما أجبر على الرضوخ لاتفاق أو هدنة.
سوريا.. تعزيز الحل الدبلوماسي
المشهد السوري بكل تطوراته كان هو الآخر حاضرًا بقوة خلال الكلمة الافتتاحية لوزير الخارجية القطري الذي حذر من نشوب حرب أهلية في سوريا تهدد وحدة البلاد، وطالب بضرورة التوصل إلى حل سياسي يحقن الدماء ويفرض الاستقرار ويجنب الدولة والشعب معًا ويلات الانزلاق نحو حرب مفتوحة، موضحًا أن رئيس النظام السوري بشار الأسد لم ينتهز فرصة الهدوء خلال السنوات الماضية ليبدأ تصحيح علاقته بشعبه، وأنه أصر على مواصلة الطريق المعاكس للحل السلمي.
وكان الوزير القطري قد بحث مع نظرائه أطرف الأزمة السورية، تركيا وإيران وروسيا، آخر التطورات في سوريا، كما عُقد اجتماع ثلاثي على هامش المنتدى ضم وزراء خارجية البلدان الثلاثة: التركي هاكان فيدان، والإيراني عباس عراقجي، والروسي سيرغي لافروف، لمناقشة آخر المستجدات والاستناد إلى صيغة أستانا.
وأكد وزراء الدول الثلاثة خلال الاجتماع على دعم وحدة الأراضي السورية، واستئناف العملية السياسية السورية، فمن جانبه شدد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على الإنهاء الفوري للأعمال العدائية، لافتا أن الاجتماع كان بناء، وهو ما أكد عليه نظيره الإيراني الذي قال إن بلاده ستجري مشاورات مع الحكومة السورية بشأن ما تم مناقشته في الاجتماع، محذرًا من أن عدم احتواء التطورات الخطيرة سيؤدي لتحول سوريا إلى ملاذ ومركز لنشاط الإرهابيين، حسب قوله، مضيفًا أنه “لن تكون أي دولة في المنطقة بمنأى عن تداعيات الفوضى وانعدام الأمن في سوريا”.
من جانبه دعا المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسن الذي شارك في نهاية الاجتماع، إلى الهدوء في سوريا، مضيفا “أجدّد دعوتي من أجل احتواء التصعيد والهدوء وتجنب سفك الدماء وحماية المدنيين بما يتماشى مع القانون الإنساني الدولي” كما حض على “بدء عملية تؤدي إلى تحقيق التطلعات المشروعة للشعب السوري”.
كما عقد اجتماع دولي عربي على هامش المنتدى، حيث يحاول الجميع تدشين مسار جديد للحل الدبلوماسي، والقفز على العقبات التي وضعها الأسد ونظامه على مدار السنوات الماضية والتي ساهمت في تجميد هذا المسار أو إلغائه في بعض الأوقات، غير أن التطورات الأخيرة حتمًا ستفرض حقائق مغايرة سيكون لها حضورها على طاولة النقاش السياسي وفق تفاهمات الأطراف المشاركة، لا سيما التركي والروسي ومن قبلها مصلحة الشعب السوري الداعم بشكل ملحوظ لهبة المعارضة والنجاحات التي حققتها ميدانيًا.
وكانت العاصمة الكازاخية أستانا قد استضافت الاثنين 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 الجولة 22 من اجتماعات “مسار أستانا” بشأن الملف السوري بمشاركة الوفود الثلاثة، بالإضافة إلى ممثلي النظام والمعارضة السوريين، حيث نوقشت الأفكار والمقترحات الخاصة بإيجاد حل للأزمة وإجراءات بناء الثقة بين الأطراف، وإعادة إعمار سوريا، وشروط عودة السوريين إلى وطنهم.
ومن المتوقع أن تختلف اجتماعات منتدى الدوحة المقررة لمناقشة الأزمة السورية عن تلك التي استضافتها العاصمة الكازاخية قبل شهر تقريبًا، في ظل التطورات الأخيرة في المشهد والتي يرجح أن تعيد ترتيب المعادلة وخريطة القوى مرة أخرى، وذلك بعد سيطرة المعارضة على عدد من مراكز العواصم الكبرى كحلب وحماة ودرعا والسويداء واقترابهم من تحرير حمص والعاصمة دمشق، وانسحاب قوات النظام بعدما رفع حلفاء الأسد غطاء الدعم عنه بشكل ملحوظ، وهو ما يتوقع أن يكون له صداه على طاولة النقاش، فالمعارضة اليوم ليست كما كانت من شهر، كما هو حال نظام الأسد وجيشه وحلفائه معًا.
وتواصل المعارضة السورية تقدمها في اليوم الحادي عشر من عمليتها “ردع العدوان” ضد قوات جيش النظام، حيث أكدت سيطرتها على آخر قرية على تخوم مدينة حمص، موجهة “النداء الأخير” لقوات النظام في المدينة للانشقاق، وذلك بعد إعلان استعادتها الكاملة لمدينة درعا جنوب غرب سوريا، بعد مواجهات مع قوات النظام والمجموعات العسكرية المدعومة من إيران.
ويواجه رئيس النظام السوري مأزقًا وجوديًا لم يعرفه من قبل، حيث نقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” عن مصادر قولها إن مسؤولين مصريين وأردنيين حثوا الأسد على مغادرة البلاد وتشكيل حكومة في المنفى، وهي الأخبار التي نفتها عمّان فيما التزمت القاهرة الصمت، وسط أحاديث عن مغادرة معظم عائلته إلى روسيا والإمارات.
ويعاني جدول أعمال تلك النسخة من منتدى الدوحة من تخمة كبيرة، حيث يتناول وبشكل مكثف، على مدار يومين كاملين، قضايا متباينة، جغرافيا سياسية ونهوض اقتصادي وتكنولوجيا ناشئة، بجانب أخرى تتعلق بالأمن السيبراني والدبلوماسية الثقافية، ومن المرجح أن يتحول إلى منصة عريضة لمناقشة كيفية تحويل الابتكار من رفاهية فكرية إلى ممارسات حياتية تعود بالنفع على الحياة واستدامة الاستقرار والأمن.
ومن أبرز عناوين الموضوعات التي تناقشها جلسات المنتدى، التنافسية في عصر الاقتصادات الذكية وحلول الابتكار، حلول مبتكرة للتحديات الصحية المشتركة في الجنوب العالمي، دور الصين في الجنوب العالمي الصاعد: إعادة تعريف النظام العالمي المُستقبلي، نحو الاستقرار في لبنان، متحدون من أجل التغيير: تحالف عالمي ضد الجوع والفقر، متحدون من أجل السلام في فلسطين، 15 عامًا من الأزمة في سوريا: تنشيط الجهود الدبلوماسية والاستجابة الإنسانية، دور الحوار الثقافي في تعزيز التعايش السلمي، قوة المنصات: الدور المتزايد للمؤثرين الاجتماعيين في الأزمات العالمية، المرونة والابتكار: دعم النساء والفتيات في الصراع وما بعد الصراع، تحول الرأي العام العربي وحرب غزة، وقوة الثقافة: الدبلوماسية العالمية في القرن الـ21.