بعد ساعات قليلة من سيطرة فصائل المعارضة السورية على أحياء مدينة حلب، ظهرت سيدتان في حيّ العزيزية ذي الغالبية المسيحية في مقابلة مع مراسل إحدى الشبكات السورية، وأبدتا ارتياحًا كبيرًا للوضع الجديد في المدينة.
وخلال الأيام الماضية، نشرت عدة منصات سورية مقابلات مع سكان حلب المسيحيين في عدة مناطق، تحدثوا فيها عن “معاملة جيدة” وزوال “شعور الخوف”، عقب سيطرة فصائل المعارضة، في مشهد يدحض سردية نظام الأسد التي استخدمها منذ بداية الثورة السورية، والتي قدم فيها بشار الأسد نفسه للرأي العام الغربي والمحلي بأنه “حامي الأقليات”.
ربما شكلت ثورة أبناء السويداء من طائفة الموحدين الدروز ضربة كبيرة لسردية النظام السابقة، غير أن أوضاع السكان، لا سيما المسيحيين منهم، في مدينة حلب بعد تحريرها، بدت كأنها “الصورة الحقيقية” للمجتمع السوري، الذي تعايش بكل طوائفه وإثنياته بسلام وتآخٍ، قبل وصول حزب البعث للسلطة في البلاد.
ويسكن غالبية المسيحيين في مدينة حلب بأحياء السليمانية والميدان والجديدة إضافة للسريان القديمة والجديدة ومحطة بغداد والعزيزية، ومنذ اندلاع النزاع في سوريا قلت أعدادهم إلى نحو 15 ألفًا فقط، ويعد تحرير ثاني أكبر المدن السورية أكبر سيطرة على تجمع سكاني يضم عددًا كبيرًا من المسيحيين منذ العام 2011.
وكان لافتًا أن غالبية السكان المسيحيين لم يغادروا المدينة عقب انتشار قوات المعارضة فيها، ورغم إبدائهم قلقًا وتوترًا في الساعات الـ24 الأولى من تحرير حلب، فإنهم لم يلبثوا أن خرجوا إلى الأسواق والشوارع لشراء البضائع والتجهّز لإحياء احتفالات “عيد البربارة”.
وفي تصريحات نشرت مزيدًا من الارتياح في الرأي العام المحلي والدولي، أكد متروبوليت حلب وإسكندرون وتوابعهما، المطران أفرام معلولي، أن الوضع في مدينة حلب “مستقر” بعد سيطرة فصائل المعارضة، وأن صلوات الطائفة المسيحية في كنائس المدينة ستبقى مستمرة، وقال معلولي في رسالة موجهة إلى المسيحيين في مدينة حلب وأرجاء العالم: “نطمئنكم علينا نحن الباقين في حلب، جميعنا بخير”.
الوضع في حلب
وسرعان ما انعكست هذه الأخبار سريعًا في متابعة الصحف الغربية لمشهد السيطرة على حلب، وفي أول تعليق على أوضاع المسيحين، قالت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، إن أحمد الشرع، وهو الاسم الحقيقي لزعيم “هيئة تحرير الشام” التي تصدرت غرفة عمليات المعارك، “لم ينخرط في موجة قتل ضد الأقليات الدينية، بل أصدر مراسيم تأمر بحماية المسيحيين والشيعة، وتطالب رجاله بعدم الانتقام”.
كما نقلت الصحيفة عن امرأة مسيحية في حلب، قالت إنها لم ترغب في الكشف عن اسمها لأنها تخشى الانتقام من نظام الأسد: “في اليوم الذي قالوا فيه إنهم استولوا على حلب، قبل أن أراهم، شعرت وكأن سفينة تايتانيك تغرق، لكن لم يكن هناك نهب، وأعيد فتح المحلات والمطاعم في اليوم التالي”، وأضافت: “لقد صُدم الجميع لأنهم كانوا يعاملوننا بلطف”.
وسرعان ما انتقلت مشاعر الخوف والقلق لدى سكان الأحياء المسيحية في حلب باتجاه آخر، يختلف عن التوتر من حكام المدينة الجدد، وبات الخوف يتجه نحو طريقة انتقام نظام الأسد وحلفائه الروس، من جميع سكان المدينة بعد خروجها الكامل عن السيطرة، بينما أعلن وزير الخارجية الإيطالي، أنطونيو تاياني، أن مدرسة “الأرض المقدسة” الفرنسيسكانية في حلب، تعرّضت لهجوم روسي أدى إلى أضرار جسيمة.
وفي هذا الاتجاه، يقول السيد “أفرام صراف” (42 عامًا) من سكان منطقة السليمانية، إن المسيحيين في حلب وعموم سوريا، ليسوا سوى ورقة من الأوراق التي طرحها الأسد ليروّج لحكمه خلال سنوات الحرب، ويتابع: “حين تسقط هذه الورقة فلا مانع لديه من قصف الجميع، دون استثناء”.
ويوضح صراف لموقع “نون بوست”، أن الوضع الحالي في مدينة حلب “أكثر من مقبول”، وأن الناس انتقلت من الخوف من فصائل المعارضة، إلى السعي وراء الاحتياجات اليومية، في ظل غلاء الأسعار حاليًا، وانقطاع المياه والكهرباء”.
وإضافة إلى مظاهر الالتزام التام من فصائل المعارضة في تأمين جميع سكان المدينة، وضمان المعتقدات الدينية للجميع، فقد أبدى أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) زعيم هيئة تحرير الشام، تعاملًا خاصًا مع “الوضع الاستثنائي” في مدينة حلب، وباشر في وقت مبكر بعقد لقاء مع عائلات مسيحية في المدينة، بحسب صحيفة “المدن”.
ونقلت الصحيفة عن مصدرين، أحدهما في مدينة حلب، أن الشرع كان يهدف للتقليل من مخاوف مسيحيّي حلب، عبر تطمينات قدّمها لوجهاء من حيّي السليمانية والعزيزية، واستماعه لمطالبهم بعد تغير السيطرة في حلب، وأنه شرح للوجهاء الظروف التي فرضت دخول الفصائل إلى حلب، وتطرق إلى معاناة المهجرين منها، وأكد المصدران بأن أجواء اللقاء كانت “إيجابية”، خصوصًا أن الشرع تحدث عن خطة أمنية مُعدة لمدينة حلب.
الشرع: الطوائف تتعايش منذ مئات السنين
وفي أول لقاء صحفي معه عقب عملية “ردع العدوان”، قدم الشرع لشبكة “سي إن إن” الأمريكية، مزيدًا من التطمينات حول وضع الأقليات في عموم سوريا، وقال: “كانت هناك بعض الانتهاكات ضدهم (الأقليات) من قبل أفراد معينين خلال فترات الفوضى، لكننا عالجنا هذه القضايا.. لا يحق لأحد أن يمحو مجموعة أخرى”، وأضاف أن هذه الطوائف تتعايش في هذه المنطقة منذ مئات السنين، ولا يحق لأحد القضاء عليها.
ويبدو أن سلوكيات الفصائل التي دخلت حلب، وسياسة قيادات عملية “ردع العدوان”، سرعان ما غطت على روايات نظام الأسد القديمة حول “عمليات الثأر والانتقام”، من المسيحيين من قبل فصائل المعارضة المسلحة، كما فنّدت ما سعت إليه وسائل إعلام غربية وعربية، من بث الرعب لدى الأقليات في سوريا، ووصف فصائل المعارضة بـ”التطرف والإرهاب”.
وبهذا تكون فصائل “ردع العدوان” حقّقت في حلب نموذجًا ناجحًا يشمل جميع البلاد بكل طوائفها وإثنياتها وأقلياتها، وسجّلت أمام الرأي المحلي السوري والدولي، موقفًا سياسيًا يختلف كليًا عما كان يروجه نظام الأسد وآلته الإعلامية.
يقول السيد جورج بيروتي الذي يعبر عن “مفاجأته شديدة” تجاه ما حصل في حلب، إنه كان ينوي الخروج من المدينة “بأي ثمن”، بناءً على المخاوف التي زُرعت في أذهان المسيحيين خلال 13 عامًا، ويضيف: “ربما ساعدني القدر في عدم تأمين طريق آمن للخروج من حي العزيزية، حكّامنا الجدد عاملونا بكل احترام ولطف، ويسعون بشكل لافت لتأمين احتياجاتنا وشكاوينا الخدمية”.
ويوضح بيروتي (52 عامًا) لـ”نون بوست”، أنه سارع لفتح متجره الصغير الذي يبيع به أدوات كهربائية، بعد 48 ساعة فقط من سيطرة فصائل المعارضة على مدينة حلب، مؤكدًا أنه “كجميع السوريين، يطمح بسوريا جديدة يعيش فيها الجميع تحت سقف القانون، كما كانت بين عهد الاستقلال، ووصول حافظ الأسد لحكم البلاد”.