ترجمة وتحرير: نون بوست
قدم التحول الاقتصادي في المملكة العربية السعودية وعوداً كبيرة لشعبها، ولكن بالنسبة للعديد من السعوديين، أصبح العيش وفقًا لمستوى الطبقة الوسطى حلمًا بعيد المنال بشكل متزايد. ومع تزايد خيبة أملهم، أصبح العقد الاجتماعي بين الحكام السعوديين والمواطنين أكثر هشاشة. ويدفع تزايد السخط الشعبي الساسة السعوديين إلى البحث عن طرق لزيادة عدد الفرص المتاحة للمواطنين، ولكن هذه العملية قد ينتج عنها تسييس استراتيجيات التنمية في المملكة وتغيير الطريقة التي تتبعها لتسيير أعمالها.
يجد السعوديون الذين يبحثون عن الفرص الاقتصادية والاجتماعية أنفسهم منجذبين إلى المدن الرئيسية، في الوقت الذي ابتعدت فيه بلادهم عن نموذجها الاقتصادي الذي يعتمد إلى حد كبير على إنتاج الهيدروكربون. ولكن حتى أولئك الذين حصلوا على التعليم اللازم الذي يخولهم للتنافس على فرص عمل أفضل وتحمّل المخاطر التي يفرضها نمط العيش والناجمة عن سعيهم لتحقيق جزء من الحلم السعودي الجديد وذلك من خلال الانتقال إلى المدن الكبرى، لا ينجحون غالبًا. وقد أدى ذلك إلى تعميق الانقسام بين من يمتلكون هذه الفرص في الأقاليم الرئيسية في المملكة العربية السعودية والآخرين الذين لا يمتلكونها في المحافظات البعيدة. وحتى داخل المدن الكبيرة التي تشهد حيوية اقتصادية، يكتشف السعوديون أنهم سيحظون بحياة محبطة على الصعيد المالي.
تعد العاصمة الرياض والمدن المقدسة المتمثلة في مكة والمدينة، بالإضافة إلى جدة العالمية والدمام مركز إنتاج النفط، أبرز المدن السعودية التي تؤثر بشكل كبير على الجانب الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في المملكة منذ تأسيسها سنة 1932
بطبيعة الحال، فإن ظاهرة تلاشي المناطق الريفية في مقابل بروز المدن المزدحمة التي تمتاز بغلاء المعيشة فيها هي توجه عالمي وليست حكرًا على السعودية. لكن في المملكة، أين يخضع العقد الاجتماعي القائم على توزيع الثروة من قبل النظام الملكي للإصلاح باسم الإنتاجية الاقتصادية، فإن فرص نشوب خلاف ناجم عن هذه الديناميكية سوف يفرض طريقة جديدة للتفكير. وستجعل الضغوط التي تُمارس على النسيج المجتمعي السعودي بسبب تفاوت الفرص من مهمة فرض قوانين الإصلاح الاقتصادي التي تنهض بها المملكة أكثر صعوبة. ومن المرجح أن تستفز هذه الضغوط الحكومة السعودية لمساعدتها على تغيير الطريقة التي تتم بها معالجة التنمية في البلاد.
المدن الرئيسية، حيث تجتمع القوة والتأثير والفرص
تعد العاصمة الرياض والمدن المقدسة المتمثلة في مكة والمدينة، بالإضافة إلى جدة العالمية والدمام مركز إنتاج النفط، أبرز المدن السعودية التي تؤثر بشكل كبير على الجانب الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في المملكة منذ تأسيسها سنة 1932. ومن شأن هذا التأثير أن يفسر سبب تمدن المجتمع السعودي اليوم إلى حد كبير، حيث يعيش ثلاثة من أصل أربعة سعوديين في المدن ويعيش قرابة نصف سكان المملكة في المدن التي يبلغ عدد سكانها مليون نسمة أو أكثر.
جاء هذا نتيجة النظام السياسي والاقتصادي الذي تبنته المملكة. وقد اعتمد نمو الرياض على ارتباطها الوثيق بالعائلة المالكة والوزارات والمكاتب المختلفة التي تنفذ التوجيهات الملكية، بينما تمكنت مكة المكرمة والمدينة المنورة من تحقيق النمو من خلال استقطاب الحجاج والجامعات بفضل الأماكن المقدسة التي تضمّها. أما جدة فقد استفادت من قربها من تلك المدن ومن البحر. وبالنسبة للدمام فقد تمكنت من ترسيخ مكانتها كأكبر مدينة في المنطقة الشرقية الغنية بالنفط.
تسببت الديموغرافية الحضرية في المملكة العربية السعودية في تفاوت على مستوى فرص الإسكان والتوظيف بين سكان المدن ومن يعيشون في المناطق التي تعاني من نسبة نمو منخفضة. ولفترة طويلة وبشكل تراكمي، افتقرت تلك المناطق النائية للاهتمام اللازم من العائلة المالكة لجلب الاستثمار الداخلي. ويؤدي انتقال الأشخاص من المناطق البعيدة إلى المدن للعثور على الوظائف التي لا يمكنهم العثور عليها هناك، إلى تلاشي هذه المناطق تدريجيا.
يشير نمط الهجرة المسجل إلى قلة الفرص داخل هذه المقاطعات النائية التي يصارع الكثير من سكانها ليس لتوفير فرص تشغيل كافية فقط وإنما فرص سكن رفيع المستوى
على سبيل المثال، غادر محافظة الباحة الواقعة في المرتفعات السعودية، بسبب الهجرة الداخلية، في سنة 2017 فقط، أكثر من 31 ألف شخص، أي خمسة بالمئة من سكانها. كما غادر كل من محافظتي حائل والقصيم اللتين تقعان وسط البلاد حوالي 23 ألف شخص في السنة ذاتها، حيث بلغت نسبة من غادروا محافظة الحائل 4 بالمئة من سكانها، بينما غادر القصيم حوالي 2 بالمئة من سكانها. وتبدو هذه الخسائر التي تكبدتها هذه المحافظات أمرا حتميا، حيث تصدرت معدلات البطالة في المناطق الثلاث المتوسط الوطني الذي بلغ حوالي 12.7 بالمئة وفق إحصاءات أجريت سنة 2018، ومن المرجح أن يستمر هذا العدد في الارتفاع.
يشير نمط الهجرة المسجل إلى قلة الفرص داخل هذه المقاطعات النائية التي يصارع الكثير من سكانها ليس لتوفير فرص تشغيل كافية فقط وإنما فرص سكن رفيع المستوى، حيث تتعدد المساكن قديمة الطراز في الأقاليم الريفية عمومًا تاركة سكانها محاصرين في منازل متهالكة قد لا يتمكنون من تحسينها. لكن المدن الكبيرة لا تقدم بالضرورة حلا سحريا. وفي حين أن معدلات البطالة في المناطق الحضرية تعتبر منخفضة نسبيا، فإنه من غير السهل أن يحصل المواطن السعودي على وظيفة مجزية كلّما طمح إلى ذلك.
ما يزيد الأمر تعقيداً أنه لا وجود لما يكفي من المساكن الراقية لسد الطلب، لا سيما الفيلات العصرية التي يكون الطلب عليها كبيرا والتي تتراءى للسعوديين كجزء أساسي من متطلباتهم المعيشية. وقد أحبط هذا النقص في عدد الفيلات العديد من سكان الحضر، خاصة أولئك الذين استثمروا أموالاً في مصاريف الانتقال والتعليم. وقد أجبرت هذه الإشكالية 64 بالمئة من السعوديين المقيمين في المناطق الحضرية على استئجار الشقق، مما يجعلهم عرضة لتقلبات أسعار السوق ويحرمهم الشعور بالاستقرار على المدى الطويل.
ماذا يمكن أن يحدث لهذا الحلم المؤجل؟
من شأن حركة النزوح المستمرة داخل السعودية، التي تتمثل في انتقال سكان المناطق النائية نحو المدن المزدحمة بوتيرة مكثفة، أن تزيد من تعقيد معضلة عدم تكافؤ الفرص بين مختلف شرائح المجتمع السعودي. ويبدو أن المحاولات التي بذلتها المؤسسة الملكية إلى حد الآن للتخفيف من حدة الاحتقان الاجتماعي المتصاعد على خلفية هذه القضية باءت بالفشل في التعاطي مع جوهر الإشكالية.
من بين هذه الجهود الهادفة لتحييد الضغوط الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن نسق النمو المتصاعد في البلاد، تم إحداث برنامج “حساب المواطن” وذلك بهدف تقديم دفعات نقدية مباشرة للمواطنين السعوديين. ومن المرجح أن يساعد هذا البرنامج على إعانة السكان في تحمل تكاليف المعيشة المرتفعة داخل المناطق الحضرية، ولكنه غير قادر بالتأكيد على حل المشاكل الملحة من قبيل ارتفاع الإيجارات ونقص المساكن.
كما لا يمكن أن يضمن هذا البرنامج توفير أسواق العمل المكتظة بالعمال الذين يحملون شهادات عليا لأنواع الوظائف التي يريدها ويطمح لها السعوديون. أما في المحافظات النائية، فلا توفر هذه المنح ما يكفي من الدعم للاستثمار المجدي في تنمية المجتمع الداخلي، بل تقدم بدلاً من ذلك دخلاً يساعد على التخفيف من حدة ارتفاع الأسعار مع تضاؤل الدعم للكهرباء والمياه.
لا يوفر برنامج “سكني” أي ضمانات حول نوعية السكن الذي سيتم توفيره أو ما إذا كانت التجمعات السكنية ستُقام في أماكن قادرة على استقطاب السعوديين للعمل فيها بالفعل
تهدف مبادرة أخرى، وهي برنامج “سكني”، إلى تمكين 70 بالمئة من السعوديين من امتلاك منازل بحلول 2030. لكن الإدارة العمودية للمشروع، بداية بوزارة الإسكان، تجعل هذه المبادرة عرضة لإهدار الأموال العامة وسوء الإدارة. كما من شأن بنية هذا البرنامج السكني أن تزيد من مخاطر عدم توافق التنفيذ الفعلي للمشروع مع احتياجات السكان المحليين. ففي كثير من الأحيان، يفرض المسؤولون البيروقراطيون، الذين لا تمسهم الإجراءات الردعية في حالة وقوع خلل، متطلبات غير قادرة على حل المشكلات المطروحة.
لا يوفر برنامج “سكني” أي ضمانات حول نوعية السكن الذي سيتم توفيره أو ما إذا كانت التجمعات السكنية ستُقام في أماكن قادرة على استقطاب السعوديين للعمل فيها بالفعل. كما أنه لا توجد آلية لضمان قدرة الأفراد الذين يشترون المنازل على سداد الأقساط على المدى الطويل، أو ما إذا كانت الحكومة آمنة من خطر انهيار مفاجئ لسوق العقارات في المستقبل.
بينما تحاول المؤسسة الملكية احتواء الاضطرابات الاجتماعية والسيطرة على منوال التغيير القائم في البلاد، يبدو أن السلطات السعودية ستبدع أكثر في معالجة القضايا المتعلقة بجودة الحياة من خلال التخلي عن عمليات التطوير التقليدية التي كانت تتبعها سابقا
أرست المملكة العربية السعودية أهدافًا لتحسين جودة الحياة لمواطنيها، ولكن تشوب هذه الأهداف علل تجعل تعريفها وقياسها بشكل دقيق مهمة صعبة. كما تقع مسؤولية تحقيق أهداف هذا البرنامج على عاتق المسؤولين المركزيين الذين قد لا يكون لديهم فهم كامل لمتطلبات جودة الحياة بالنسبة للسكان المحليين. وقد يعرّض هذا المعطى مخرجات المشروع لخطر التلاعب بالبيانات عن طريق هؤلاء المكلفين البيروقراطيين. علاوة على ذلك، فشلت برامج مشابهة تُعنى بتحسين جودة الحياة، تم إرساؤها من قبل دول أصغر من المملكة، مثل الإمارات العربية المتحدة وقطر، في تحقيق نجاح يذكر. وبناء على ذلك، فإن برنامج “سكني” سيتطلب جهدا مضاعفا من المملكة العربية السعودية، مما سيجعل متطلبات تنفيذه أكثر تعقيدًا ومقومات نجاحه أكثر صعوبة.
كيف يمكن للمؤسسة الملكية أن تتأقلم مع هذا الوضع؟
بينما تحاول المؤسسة الملكية احتواء الاضطرابات الاجتماعية والسيطرة على منوال التغيير القائم في البلاد، يبدو أن السلطات السعودية ستبدع أكثر في معالجة القضايا المتعلقة بجودة الحياة من خلال التخلي عن عمليات التطوير التقليدية التي كانت تتبعها سابقا. فبدلاً من محاولة فرض أهداف وشروط التنمية، من المرجح أن تتطلع المؤسسة الملكية إلى تطبيق طرق جديدة لضمان تأييد المتضررين من سياساتها.
تقوم المملكة بتنظيم انتخابات بلدية على الرغم من أن الهيئات المنبثقة عن هذه الانتخابات تتمتع عادة بسلطة محدودة للغاية. وعلى الرغم من ذلك، فإنه من المرجح أن تسمح الطبقة الحاكمة في السعودية لمثل هذه المؤسسات من التطوير في قدرتها على احتضان نقاشات أكثر صلابة وعمق. ومن شأن هذه الخطوة أن تمكن المواطنين السعوديين من المشاركة في منتديات للنقاش والتنفيس عن إحباطهم وتقديم التوجيه لمنفذي السياسة التنموية.
على الرغم من أن هذه النوع من التغييرات السياسية بعيدة كل البعد عن إرساء معايير الديمقراطية، إلا أنها ستغير الطريقة التي تتم بها إدارة الأعمال في المملكة العربية السعودية جذريا
يمكن أن يكون مجلس الشورى، وهو السلطة التشريعية الأقدم في المملكة السعودية، جزءًا من هذه العملية. وعلى الرغم من أنه من غير المرجح أن يكون لهذا التمشي تأثير سياسي ملموس على المدى القريب، إلا أنه بمرور الوقت، يمكن أن يصبح مجلس الشورى مؤسسة أكثر انفتاحاً على النقاش، أي على منوال المجلس الوطني الاتحادي الذي يلعب دورًا مشابهًا في دولة الإمارات العربية المتحدة.
على الرغم من أن هذه النوع من التغييرات السياسية بعيدة كل البعد عن إرساء معايير الديمقراطية، إلا أنها ستغير الطريقة التي تتم بها إدارة الأعمال في المملكة العربية السعودية جذريا. ويتم حاليا تسيير العقود والاستثمارات بشكل روتيني عبر قنوات معينة يتحكم بها حفنة من كبار المسؤولين، وهو نموذج غير صالح لإدارة الأعمال في المملكة العربية السعودية إذا أرادت المؤسسة الملكية حقا الشروع في تقليص حدة الإحباط الشعبي الناجم عن انعدام أسس المساواة الاجتماعية والاقتصادية، وذلك من خلال التوغل في مشاغل المواطنين اليومية بعناية أكبر.
مع تفاقم الهوة المجتمعية داخل المملكة، ستضطر الطبقة الحاكمة في نهاية المطاف إلى الالتفات بشكل جدي نحو ردود أفعال رعاياها تجاه المشاريع التنموية
إن استبدال النموذج الاقتصادي الحالي سيمكن من تغيير الطريقة المتعارف عليها في المملكة السعودية في التعاطي مع الشركات والمستثمرين، التي تسهم في بعض الأحيان في تعطيل العملية التنموية وجعل بعض المشاريع أكثر عرضة للرفض على المستوى المحلي. وكما هو الحال اليوم، لا يوجد ما يمنع المؤسسة الملكية السعودية من استقطاب الاستثمار في الخارج دون إيلاء الكثير من الاهتمام للمشاغل المحلية. أما من جهة أخرى، فلا يمكن في المستقبل ضمان تواصل نفس طريقة العمل الاعتيادية، أي أن يتم إيلاء الأهمية المطلقة للاستثمار الخارجي.
من المرجح أن يتضاعف نسق هذه التغييرات لتصبح جزءًا لا يتجزأ من مشهد التنمية السعودي. ومع تفاقم الهوة المجتمعية داخل المملكة، ستضطر الطبقة الحاكمة في نهاية المطاف إلى الالتفات بشكل جدي نحو ردود أفعال رعاياها تجاه المشاريع التنموية، وهو ما سيغير الطريقة التي تتفاعل بها الرياض مع مجتمع الأعمال الدولي بالضرورة.
المصدر: وورد فيو ستراتفور