قبل عام من وصوله لكرسي رئاسة الحكومة الفلسطينية بالضفة الغربية المحتلة خلفًا لرامي الحمد الله، أطلق محمد أشتية، تصريحات قوية تتعلق بخطوات عملية وجادة لفك الارتباط الاقتصادي مع “إسرائيل” وإلغاء عملة “الشيكل” في المعاملات المالية والمصرفية كافة.
هذه التصريحات التي أثارت قلق “إسرائيل” وأبقتها في حالة حذر نظرًا لخطورتها، ما زال أشتية متمسكًا بها، وفي اجتماعه الأول للحكومة التي ترأسها قبل أسابيع جدد تأكيده لهذا المخطط، بل وأكثر من ذلك حين وعد وزراؤه بأن مخططه الجديد سيرى النور قريبًا.
تمسك أشتيه بإلغاء “الشيكل” التي رأى فيها محللون وخبراء اقتصاديون بأنها “نقله نوعية وتاريخيه، ولكن تحيط بها المخاطر من كل جانب”، أثارت الكثير من التساؤلات في الشارع الفلسطيني عن جديتها وتوقيتها والفائدة الاقتصادية التي ستعود على الفلسطينيين منها والعملة البديلة عن الشيكل، والسؤال الأهم كيف سترد “إسرائيل”؟
قال أشتية وهو رئيس سابق للمجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار بكدار، إن الشعب الفلسطيني ومؤسساته قادرون على تنفيذ قرارات المجلس المركزي نحو فك العلاقة “الاقتصادية الكولونيالية” بالتدريج مع “إسرائيل”، مضيفًا “تحقيق هذا الهدف يكون عبر مجموعة إجراءات، منها العمل على تعزيز المنتج الوطني وتوسيع القاعدة الإنتاجية للاقتصاد الفلسطيني، خاصة قطاعي الزراعة والصناعة”.
طالب أشتية بدراسة الانتقال إلى أي عملة أخرى، بما فيها العملات الرقمية، في خطوة مشابهة لما أعلنته قبل أسابيع كتائب القسام الجناح العسكري لحركة “حماس”، لتمويل المقاومة عبر عمله البيتكوين الرقمية
الشيكل وحرب الاقتصاد مع “إسرائيل”
ودعا أشتية كذلك إلى وقف دفع الرواتب بالشيكل وكذلك التوقف عن إعداد ميزانيتها به، مشيرًا إلى أنه تم تشكيل لجنة فلسطينية لهذه الخطوة وتطبيق الانفكاك الفلسطيني عن العملة الإسرائيلية، ووقف العمل بنحو 23 مليار شيكل متداولة في السوق الفلسطينية.
وطالب أشتية بدراسة الانتقال إلى أي عملة أخرى، بما فيها العملات الرقمية، في خطوة مشابه لما أعلنته قبل أسابيع كتائب القسام الجناح العسكري لحركة “حماس”، لتمويل المقاومة عبر عملة “البيتكوين” الرقمية.
سعي حكومة أشتية الحاليّة للتخلص من عملة “الشيكل” الإسرائيلي، والبحث عن بديل آخر من خلال عدة خيارات أبرزها إصدار عملة محلية أو الاستعانة بعملة رقمية، جاء ضمن خطط السلطة الفلسطينية للانفكاك الاقتصادي عن “إسرائيل”.
وتحاول الحكومة الفلسطينية بذلك الضغط على “إسرائيل”، بعد قرار الأخيرة اقتطاع ما قيمته 138 مليون دولار من عائدات الضرائب التي تجبيها نيابة عن الفلسطينيين، والمعروفة بأموال (المقاصة)، الأمر الذي دفع السلطة لإعلان خطة الطوارئ، نظرًا لما تمثله هذه الأموال في توفير 65% من إيرادات الخزينة العامة.
وتتداول السوق الفلسطينية ثلاث عملات أساسية: الشيكل الإسرائيلي إلى جانب الدولار الأمريكي والدينار الأردني، وتتم المعاملات الرسمية داخل مؤسسات السلطة بالشيكل بما فيها رواتب موظفي السلطة والعمال الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، وهو بذلك يستحوذ على 80% من السيولة النقدية داخل الاقتصاد الفلسطيني.
العملة الإسرائيلية هي الأكثر تداولاً في السوق الفلسطينية
هذا وأقرت اتفاقية باريس الاقتصادية التي تمت عام 1994، مهام البنك المركزي لسلطة النقد الفلسطينية، لكن من دون القدرة على إصدار عملات، وأوصى البروتوكول باستخدام الشيكل، وأعطى لـ”إسرائيل” حق الاعتراض على أي عملة فلسطينية.
ويعتبر إصدار عملة فلسطينية من الأمور الجدلية بين الاقتصاديين، بسبب العقبات المفروضة على الواقع الفلسطيني، وأولها أن “إسرائيل“ لن تمرر وتطبق هكذا قرار يسمح لفلسطين أن يكون لها عملة خاصة بها، وبالأخص في ظل تعثر المفاوضات بين الجانبين.
وللإجابة عن الأسئلة المطروحة في الشارع الفلسطيني بشأن خطوة أشتية الاقتصادية، قال الخبير في الشأن الاقتصادي والمحاضر في جامعة بيرزيت الدكتور نصر عبد الكريم: “من الناحية العملية لا يمكن استبدال عملة الشيكل، ومن المبكر الانتقال بتعاملاتنا والتزاماتنا إلى عملة مشفرة أو إلكترونية، لأن هذه العملات يجب أن يكون لديها نفس شروط العملة العادية، ولكن الفرق أنها إلكترونية وليست ورقية”.
وأضاف “يجب أن يكون هناك اقتصاد قوي قادر على حماية العملة، وأيضًا توافر احتياطي من الوحدات الحسابية أو السحوبات الخاصة في كل دولة وظروف قادرة على حماية هذه العملة واستقرار سعر صرفها، بغض النظر عن شكل هذه العملة”، وقال: “لكن إذا كان الحديث عن تقليل استخدام ووجود الشيكل في اقتصادنا، ومحاولة التخلص التدريجي من الاعتماد عليه بالتسويات والمعاملات والإدخارات والثروات، فهذا أمر مختلف كليًا”، متابعًا حديثه “السير باتجاه عملة مستقلة بغض النظر عن شكلها إلكترونية أو تقليدية لا أظن الظروف ملائمة للذهاب بهذا الاتجاه، لكن الذهاب باتجاه تقليل استخدام الشيكل نحو عملة أخرى فهذا وارد”.
ضربة موجعة للاقتصاد الإسرائيلي
وأردف قائلاً: “هذا سيأخذ وقتًا طويلاً لأن العملة دائمًا مرتبطة بالعلاقات الاقتصادية مع دولة العملة وليس مع العملة، يعني علاقتنا الاقتصادية مع “إسرائيل” هي من تحضر العملة، ولكي تقلل العملة يجب أن تقلل من هذه العلاقات، بالتجارة والعمل والمقاصة، فمجرد تجفيف العلاقات الاقتصادية أنت جففت من توافر العملة تلقائيًا”، وأكد عبد الكريم قائلاً: “هذه الرؤية تحتاج لوقت كبير لتنفيذها وتحتاج لدراسات وأسس، وفي حال تم تنفيذها أشك أنها ستجد طريقها للتطبيق لأن الشروط غير متاحة”.
وفي ذات السياق قال المحلل الاقتصادي، عميد كلية الإدارة والاقتصاد بجامعة القدس محمود الجعفري: “هل هناك شروط متوافرة لدينا للحفاظ على العملة وقيمتها؟ فعدد كبير من الدول وحتى المستقلة منها، بسبب عدم قدرتها على مواجهة الظروف الاقتصادية بسبب الصادرات والواردات والقيود على تدفق العملات الأجنبية خفضت من قيمة العملات المحلية، بحيث أصبحت خلال 10 سنوات لا تعادل قيمتها 5%”.
تستحوذ “إسرائيل“ على 80% من الواردات الفلسطينية، بقيمة تناهز 20 مليار شيكل (5.2 مليار دولار)، وجميع هذه المعاملات تتم بعملة الشيكل
وتابع “الصنف الأجنبي يأتي من خلال الشيكل والعمل والتصدير لـ”إسرائيل” والمنح الأجنبية التي تساهم في الموازنة، هل لدينا القدرة على زيادة الصادرات التي لا تعادل إلا مليار، مقارنة بالواردات التي تعادل 7 مليارات”.
وأشار إلى ضرورة تقليل الاعتماد على الاقتصاد الإسرائيلي، قائلاً: “إذا قللنا من الاعتماد على الاقتصاد الإسرائيلي ممكن أن يكون لدينا عملة بديلة، أن نقلل الاعتماد على الخارج”، وأضاف “عندما يكون لدينا حدود مستقلة وسياسات مستقلة، عندها نستطيع أن نطالب بعملة بديلة، فطالما ما زال الاقتصاد الفلسطيني في حالة تبعية عالية جدًا، فإن الفوائد المتوقعة غير ملموسة، والأمر يحتاج لدراسة ووضع خطط لتنفيذ هذه الخطوة”.
وعن السؤال عن مدى تأثر الاقتصاد الإسرائيلي في حال تنفيذ رؤية استبدال الشيكل والانتقال لعملة أخرى أجاب الجعفري: “هذه الخطوة ستضر الاقتصاد الإسرائيلي، ولكن لن يكون الضرر لدرجة أن يدفع “إسرائيل” لتغير سياساتها وعلاقاتها معنا”.
وأضاف “إذا قارنا حجم الكتلة النقدية من الشيكل لدينا مقارنة بحجمها داخل “إسرائيل” فهي متواضعة، و”إسرائيل” تستوعبها بسهولة وممكن أن تتعامل معنا بالدولارات لأن لديها احتياطي نقدي بالدولار أكثر من 150 مليار دولار”.
ومن جهة أخرى قال: “اقتصادنا كفلسطينيين لا يُعادل سوى 3% من الاقتصاد الإسرائيلي، فنحن نمتلك 14 مليار شيكل وهم يقتربون من عتبة الـ400 مليار شيكل، فالنسبة بسيطة جدًا، وهذه الخطوة في حال نجحت ضمن أسس واضحة ستصيب اقتصاد الاحتلال بضربة موجعة“.
وبحسب ورقات اقتصادية أُعدت سابقًا لمناقشة تحديات وواقعية إلغاء التعامل بعمله الشيكل، أوضحت أن تطبيق هذه الفكرة في ظل الظروف الحاليّة مستحيل بسبب افتقار فلسطين لبنك مركزي يدير السياسات المالية ويشرف على أداء البنوك الذي يعد العائق الأول أمام تطبيق هذا الطرح.
كما أن الاحتياطات المالية الموجودة في البنوك العاملة في فلسطين من العملات الأجنبية، كالدولار واليورو والذهب، لا تتجاوز قيمتها نصف المليار دولار، وهي تمثل 15% من حجم الاقتصاد الفلسطيني.
فيما تستحوذ “إسرائيل“ على 80% من الواردات الفلسطينية، بقيمة تناهز 20 مليار شيكل (5.2 مليار دولار)، وجميع هذه المعاملات تتم بعملة الشيكل، لذلك يتطلب تطبيق هذه الخطوة البحث عن بديل تجاري في دول الجوار كالأردن أو دول الخليج ومصر لديه القدرة والاستعداد للتعامل مع العملة الجديدة.
وتستفيد “إسرائيل” من اعتماد الطرف الفلسطيني على عملتها في التداول اليومي، وهو ما يعطي البنك المركزي الإسرائيلي حرية أكبر في تنفيذ السياسات التوسعية أو الانكماشية، حيث تستوعب السوق الفلسطينية 30 مليار شيكل سنويًا.
وأمام هذه التعقيدات السياسية والاقتصادية والمالية.. يبقى السؤال الأبرز: هل سينجح أشتية في مخططه الاقتصادي ويوقف التعامل بالشيكل، ويجد العملة البديلة؟