سقط الأسد.. تحت هذا العنوان العريض والكبير والمفاجئ استيقظ السوريون صباح الأحد 8 ديسمبر/كانون الأول 2024 على عهد جديد، طووا به حقبة سوداء في تاريخ بلادهم، عقود من الظلم والتنكيل والفساد، دفعوا ثمنها غاليًا، من حياتهم وحريتهم وكرامتهم، دفعوا الثمن مبكرًا على مدار عشر سنوات كاملة، فحق لهم أن يجنوا حصاد ما زرعوا.. سوريا بلا أسد.
11 يومًا كانت كافية لإنهاء حكم الأسد، نهاية تليق بحاكم تفنن في إذلال شعبه وسحق كرامته، وحول بلاده إلى “وسية” لخدمة طموحاته السياسة وأحلام ذويه السلطوية، حاكم ساقه غروره إلى كسر شوكة مواطنيه، فاستقوى بالخارج عليهم، وأحال نهارهم ليلًا وأحلامهم كابوسًا، فكانت تلك النهاية، هربًا كالفئران، ليلًا كاللصوص.
جاء الانهيار أسرع مما كان يتخيل السوريون، من أبناء النظام أو المعارضة على حد سواء، فمن ذا الذي كان يتخيل أن يسقط بشار بهذه الطريقة وبتلك السرعة، وهو العائد قبل أيام للحضن العربي بعد سنوات من العزلة، لكنها سُنن الكون التي لا تتبدل ولا تتغير والتي تؤكد أن لكل ظالم – مهما علا واستعلى وتطاول في البنيان – نهاية.
من إدلب كانت شعلة البداية، لتنتقل على جناح السرعة نحو حلب، ومنها إلى حماة ثم حمص وصولًا إلى دمشق، هكذا كان مسار سقوط نظام الأسد على أيدي المعارضة السورية المسلحة التي لم تجد مشقة في تحرير المدن السورية واحدة تلو الأخرى دون مقاومة، في ظل تساقط وحدات الأسد كقطع الدومينو في مشهد كشف هشاشة قوات النظام حين تخلى عنه الحلفاء من الروس والإيرانيين، ليتنفس الشعب الصعداء، أفراح وتكبيرات وأغاني وطنية تزلزل الأرض، ودموع توثق بالصوت والصورة وحشية السجن الكبير الذي أدخل فيه الطاغية شعبًا بأكمله.
وبهروب الأسد خارج البلاد إلى وجهة غير معلومة، يُكتب السطر الأخير في حكم عائلة الأسد لسوريا، هذا الحكم الذي امتد قرابة 53 عامًا، منذ تولي حافظ الأب السلطة في 22 فبراير/شباط 1971 وحتى هروب الابن صبيحة 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، لتبلغ مدة حكم السلالة المنحدرة من العشيرة الكلبية لسوريا 19650 يومًا (53 عامًا و9 أشهر و 18 يومًا).
نعم.. سقط الأسد في سوريا، لكن تبعات هذا السقوط حتمًا ستتجاوز الجغرافيا السورية الضيقة، فبجانب ثقل الدولة الإقليمي كونها أحد أبرز اللاعبين المؤثرين على الساحة تاريخيًا، فقد حولها نظام بشار الساقط إلى مسرح كبير للعديد من القوى والأجندات، كل يعبث حسب مصلحته، ومن ثم فالكل يحبس الأنفاس حاليًا، ترقب ممزوج بالقلق، لا سيما المنخرطين بشكل مباشر في المشهد السوري، في انتظار تداعيات هذا الانفجار على خريطة الشرق الأوسط المعقدة بطبيعة الحال.
احتفالات بسقوط الطاغية
منذ الإعلان عن مغادرة الأسد سوريا إلى جهة غير معلومة، وتأكيد إدارة العمليات العسكرية التابعة للمعارضة المسلحة دخول دمشق والسيطرة على المشهد بأكمله، عمت الأفراح جميع عموم البلاد، حيث خرج السوريون إلى شوارع العاصمة، واحتضنت ساحة الأمويين ذات الرمزية المحورية جزءًا من تلك الاحتفالات.
وحرص السوريون الفرحون بانتصار ثورتهم بعد طول انتظار على الاحتفال أمام الكيانات التي ارتكز عليها نظام بشار في جبروته وطغيانه على مدار عقود طويلة، فامتدت المسيرات إلى محيط مبنى الإذاعة والتلفزيون ومقار الأمن الوطني والجيش ووزارة الدفاع وقيادة الأركان وغيرها من الكيانات الأمنية والسياسية ذات الدلالة.
“ما تخيلت أن يأتي اليوم الذي يغور فيه الطاغية وأنا على قيد الحياة”.. بهذه الكلمات المبللة بدموع الفرحة عبر مُلهم الأسود عن المشهد بعد الإعلان عن هروب الأسد، لافتًا إلى أن أكثر المتفائلين ما كان يتوقع هذا السيناريو، الذي وصفه بأنه “تدبير إلهي” وابتعاث للأمل من ركام اليأس والخذلان لسنوات تجرع فيها الملايين من السوريين مرارة التنكيل والقهر على أيدي نظام الأسد وشبيحته.
دبكة الفرحة بالحرية في قريتي #البيضا قرب #بانياس ..
يحق للبيضا أن تفرح اليوم..الله أكبر حرية 💚 pic.twitter.com/kUcTUFCf7E
— أحمد حذيفة Ahmad Houthaifa (@AhmadTalk) December 8, 2024
وأوضح الأسود في حديثه لـ”نون بوست” أنه لأول مرة يتلقى اتصالًا بالصوت والصورة عبر الماسنجر من أخيه في ساحة الأمويين وسط دمشق منذ عام 2015 حين سافر إلى مصر هربًا من بطش قوات النظام التي لم تتورع في وأد كل من يعارضهم من السوريين أحياء وفي مقابر جماعية.
وتابع: “سبقت دموعي دموع شقيقي على هذا الانتصار، أخيرًا عاد الأمل في العودة للوطن بعد سنوات من التهجير قسرًا لألتقي الأهل والأحباب، أخيرًا تحررت سوريا من الطغيان والقهر الذي جثم على صدورها لعقود طويلة، أخيرًا باتت سوريا دون الأسد.. ياله من يوم من أيام الله التي لا تُنسى”.. هكذا اختتم مُلهم حديثه.
وفي أول خطوة لترجمة تحرير سوريا من الطغيان إلى واقع عملي يتلمسه الشعب السوري، فتحت المعارضة المسلحة سجن صيدنايا العسكري الواقع قرب دمشق، والذي يعد الأكبر في سوريا ومعقل التعذيب والانتهاكات بحق السوريين المعارضين، بعد إحكام السيطرة عليه، وحررت كل من فيه ممن اعتقلوا ظلمًا وبغيانًا، لتُنهي “عصر الظلم” حسبما أفادت في بيان لها.
فرحة الداعية السوري محمد #راتب_النابلسي بسقوط نظام #بشار_الأسد: "كنت أنتظر هذه الساعة التي أعود فيها إلى بلدي"#مزيد pic.twitter.com/vkWvdkiUQf
— مزيد – Mazid (@MazidNews) December 8, 2024
رسائل الطمأنة والتثبيت
فيما عُرف بالبيان الأول للمعارضة، والذي بثته عبر التلفزيون الرسمي للبلاد، أكدت المعارضة على “تحرير مدينة دمشق وإسقاط الطاغية بشار الأسد وتحرير جميع المعتقلين المظلومين من السجون”، مشيرة إلى غرفة عمليات فتح دمشق، “تهيب بجميع المجاهدين والمواطنين الحفاظ على ممتلكات الدولة”.
من جانبه أعرب رئيس حكومة النظام السوري السابق، محمد غازي الجلالي، عن استعداده للتعاون مع أي قيادة يختارها الشعب السوري، لترتيب المشهد الانتقالي خلال المرحلة المقبلة، في حين أعلن قائد العمليات العسكرية بالمعارضة السورية أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) عن أن الجلالي سيشرف على المؤسسات العامة حتى تسليمها.
ووصف الجلالي إدارة المعارضة المسلحة للعملية ميدانيًا بعد رحيل الأسد بأنها تمد يدها إلى كل مواطن سوري حريص على الحفاظ على مقدرات البلد، متمنيًا من جميع السوريين التفكير بعقلانية من أجل مصلحة بلادهم ووطنهم التي يجب أن تكون مقدمة على أي مصالح شخصية أو فئوية، مؤكدًا إيمانه بأن سوريا لكل السوريين.
وبعثت المعارضة برسائل طمأنة لجميع التيارات السياسية والطائفية في الداخل السوري، بأن الكل سواسية وأن الوطن للجميع، وأن ما حدث إبان فترة الأسد من تمييز وفئوية لن يتكرر في سوريا الجديدة التي يجب أن تسع الجميع على أسس من العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات، مؤكدًا على الحفاظ على مرتكزات الدولة ومؤسساتها القومية الاستراتيجية.
كما قدمت المعارضة النموذج الأمثل في تعاملها مع أنصار النظام، فنحّت جانبًا نزعات الانتقام رغم الجرائم المرتكبة من قبل هذا النظام، وأعطت الأمان لكل من يلزم بيته أو ينشق أو ينضم لبقية الشعب السوري الداعم للحراك الثوري، وبات المعارض والنظامي والمواطن يسيرون جنبًا إلى جنب، في مشهد قلما نشاهده في مثل تلك المناسبات، وصدمة مدوية لكل من كان يؤمل نفسه بنشوب احتراب أهلي يُجهض الثورة ويفرغها من مكاسبها.
معادلة الإقليم تتغير
حول الأسد، الأب والابن على حد سواء، سوريا إلى مسرح كبير للأجندات الدولية، وذلك لحماية نظامه وترسيخ أركان حكمه بصرف النظر عن أي اعتبارات أو حسابات أخرى خاصة بالسيادة والاستقلالية ومصلحة الدولة العليا، وهو ما جعل البلاد مطمعًا لأصحاب الطموحات والأطماع التوسعية الإقليمية.
ويمثل سقوط النظام خنجرًا كبيرًا في ظهر إيران، إذ كان أحد أهم أذرعها لتوسيع نفوذها الإقليمي، وكان السلاح الأبرز – بجانب حزب الله – لتنفيذ أجندتها المتمددة في المنطقة، ولطالما دافعت وهرولت وأنفقت لأجل الإبقاء عليه، رغم الخلاف معه بين الحين والآخر، لكنه ظل الدجاجة التي تبيض ذهبًا لطهران وعمائمها.
وكانت طهران قد تعرضت خلال الآونة الأخيرة لضربات موجعة، منها ما استهدفها من الداخل من خلال الاغتيالات والاختراقات الأمنية، والآخر يتعلق بـ”حزب الله”، ذراعها الطولى، الذي تقزم نفوذه بعد الهزة العنيفة التي تلقاها على أيدي جيش الاحتلال، فيما جاء سقوط نظام الأسد بمثابة التتويج لمسار الخسارة ونزيف النفوذ الذي يتوقع أن يكون له تداعياته على الحضور الإيراني كلاعب محوري في المشهد خلال السنوات الماضية.
روسيا هي الأخرى لطالما حققت مكاسب لوجستية محورية من وراء نظام الأسد، الذي فتح حدود بلاده لترسيخ النفوذ الروسي ومناهضة التواجد الأمريكي إقليميًا، فكان بمثابة قشة الإنقاذ لبوتين وحكومته بعد الضغوط التي مارسها المعسكر الغربي على موسكو عبر الورقة الأوكرانية، وبسقوط هذا النظام سيفقد الروس حليفًا مخلصًا لهم، وإن كان الأمر من المبكر لأوانه قياس حجم هذا التأثير والذي يتوقف بطبيعة الحال على مقاربات النظام الروسي إزاء سوريا ما بعد الأسد.
التأثير ذاته يمتد إلى العراق، الحليف الأيديولوجي للنظام السوري، حيث المرجعية السياسية الواحدة والعقيدة المشتركة التي تنبثق من معين واحد، حزب البعث، وبسقوط هذا الحليف، ستتغير بطبيعة الحال المعادلة، حيث القلق العراقي من تبعات ذلك على الأمن القومي للبلاد ونافذتها نحو البحر المتوسط.
وحاولت بغداد قدر الإمكان عدم الانجرار وراء التحفيز المستمر للانخراط في الأزمة منذ بداية المعارضة المسلحة عملية ردع العدوان قبل عشرة أيام، وإن أعلنت دعمها لنظام الأسد، لكنه الدعم التصريحاتي دون العملياتي، في ظل التحفظات والمعارضة القوية من مغبة الانزلاق نحو هذا المستنقع عبر تقديم المساعدات العسكرية لقوات النظام، وهي المواءمة التي قد يقرأها البعض في سياق إعادة تقييم العراقيين للمشهد وفق أبجدياته الجديدة وبما يحقق مصالح الدولة بعيدًا عن التبعية والمصالح الطائفية.
بهتافات وأعلام.. سوريون يخرجون في شوارع مصر احتفالًا بسقوط نظام #بشار_الأسد وسيطرة قوات المعارضة المسلحة على العاصمة السورية #دمشق pic.twitter.com/blmLCXlLta
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) December 8, 2024
وكما أحدث تحرير سوريا من الطاغية حالة فرح عارمة في بعض البلدان، هناك عواصم أخرى يخيم عليها القلق، إذ لم تتوقف منصاتها على الإنترنت من “الولولة” و”النحيب” على ما حدث، مرتدية عباءة المصلح الذي يحذر من تداعيات تلك الكارثة على المنطقة والإقليم، وكيف للمنشقين عن التنظيمات الإرهابية أن يحكموا سوريا، وأن هذا يخدم الأجندة الصهيونية، كأن البلاد في عهد الأسد كانت سويسرا، وكأنه كان المقاوم الشرس ضد “إسرائيل”، هذا الخطاب الذي بدا واضحًا ومنتشرًا على مواقع التواصل الاجتماعي، لكنه حتمًا ما يقابل بردود مُفحمة من الأحرار التواقين للحرية والكرامة.
ويخشى حكام تلك البلدان من تداعيات نقل العدوى، فهم رواد الثورة المضادة الذين بذلوا الغالي والنفيس لوأد أي حراك ثوري، وإفشال أي تجربة تحررية ناجحة، حدث ذلك في مصر وتونس واليمن وليبيا، وتوهموا أن الأمور قد استقرت وأن الربيع العربي لفظ أنفاسه الأخيرة، حتى جاء المشهد السوري كالصاعقة عليهم، ليُربك كل الحسابات ويخلط الأوراق ويثير الرعب والهلع من استفاقة جديدة ولو متأخرة للربيع العربي، الذي إن حدث هذه المرة فحتمًا لن يقع في ذات الفخاخ السابقة بعدما تعلم الدرس جيدًا وانكشف كل ما هو مستتر.
وفي الأخير..
أسقطت سوريا دولة الأسد، وأهال السوريون التراب على سلالة العشيرة الكلبية بعد أكثر من خمسة عقود من الحكم بالحديد والنار، سقوط يستحقه الحاكم الطاغية، وانتصار يليق بالشعب المقهور الذي لم يفقد الأمل يومًا في قضيته، ولم يتخل عن رهانه على الوعي والإدراك والإيمان بالرسالة والغاية، رغم ما تعرضوا له من تنكيل وآلام، غادر الأسد غير مأسوف عليه، إلى غير رجعة، لتبدأ مرحلة جديدة من التحديات، مرحلة تحتاج أبجديات مختلفة وقراءات أكثر عمقًا، تربط بين دروس الماضي ورسائل الحاضر ورؤية المستقبل.