فقد حمدو العمر، أحد موظفي المنظمات العاملة في المجال الطبي بريف إدلب شمالي سوريا، حياته على يد عصابة خطفته وهو يؤدي عمله، وذلك بعد مفاوضات استمرت لأيام بين ذويه والخاطفين لدفع فدية قدرها 200 ألف دولار، استطاع أهل حمدو تقليل الفدية إلى 75 ألف دولار، إلا أن هجومًا للفصائل ضد عصابات الخطف في المنطقة، دفع بالأخيرة إلى تصفية حمدو بسرعة كي لا يُكشف أمرهم.
قصة الخطف والقتل هذه لم تكن الأولى بحق الكوادر الطبية في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، تلك المناطق التي تشهد فلتانًا أمنيًا كبيرًا دفع العديد من الأطباء والاختصاصيين لتركها خوفًا على أمنهم الشخصي وحياة عوائلهم.
ولا تنحصر أسباب ترك الأطباء لمناطق عملهم بحوادث الخطف والفلتان الأمني، فما تتعرض له الكوادر والفرق الطبية من قصف واستهداف من النظام بشتى الأسلحة وفي مختلف الأماكن، يدفعهم أيضًا للهرب خوفًا على أنفسهم وعوائلهم، فقوات الأسد لا تراعي حرمة المستشفيات والمراكز الصحية التي تخدم مئات الألوف من السكان.
رغم كل ما سبق، فإن ما يقارب الـ1000 طبيب ما زالوا يخدمون في هذه الرقعة الملتهبة، وفقًا للدكتور أحمد الدبيس مدير السلامة في منظمة “أوسوم” (اتحاد المنظمات الطبية الإغاثية السورية)، في مقابلة خاصة مع “نون بوست”، فهؤلاء الأطباء آثروا البقاء بدوافع إنسانية ولحاجة شعبية ملحة لهذه المهنة التي تعتبر من أقدس المهن وخاصةً في مناطق النزاعات والحروب، إلا أن الأطباء يطالبون بمزيد من الحماية والرعاية والحفاظ على حياتهم.
استهداف مستمر
بدأ العمل الطبي في بدايات الثورة السورية بإسعاف جرحى المظاهرات بمبادرات فردية وخاصة، بعيدًا عن أعين الناس مخافة الاعتقال من قوات الأمن التي كانت تراقب كل تحركات الكوادر الطبية التي تسعى لعلاج مصابي الاحتجاجات، فمنذ بداية الحراك الشعبي عام 2011، اعتقل النظام مئات الأطباء والممرضين والفنيين، لمشاركتهم بمداواة الجرحى، ولكثرة الحوادث واتساعها على امتداد الأرض السوريّة، لم تستطع المنظمات والمؤسسات إحصاء رقم دقيق لأعداد المعتقلين من الأطباء، بحسب الدبيس.
وفي بداية توسع الرقعة التي تسيطر عليها المعارضة وزيادة هجمات النظام بكافة الأسلحة، افتتح في تلك المناطق منشآت مستقلة لتلبية حاجة المواطنين. تقسم هذه المنشآت إلى 3 أصناف وهي مراكز ومشافي حكومية قائمة بالأصل قبل الأزمة، ومنشآت بُنيت حديثًا وتم العمل على إعمارها وتأمين مستلزمات حمايتها من القصف، أما الصنف الثالث هو ما ساعدت التضاريس الطبيعية على نشوئها كالمُغُر والجبال.
وعلى الرغم من أن الجبال والمستشفيات المحفورة بها تعتبر آمنة، فإن دخول روسيا إلى سوريا واستخدامها أسلحة جديدة، جعل هذه المشافي في خطر كغيرها. يصف الدكتور الدبيس هنا كيفية استهداف مشفى “عابدين” في ريف إدلب الجنوبي، قائلاً: “المشفى يقع في جبل، وفوقه كتلة صخرية تبلغ 7 أمتار، قصفته قوات النظام وروسيا بقنابل ارتجاجية اخترقت الصخر ووصلت إلى هيكل المشفى مما خلّف قتلى وجرحى من الكادر الطبي والمراجعين”.
الدفاع المدني يحاول إنقاذ العالقين بالقصف على مشفى عابدين
وفي تقرير للّجنة السورية لحقوق الإنسان عن المشفى جاء أن “القصف أدى إلى اختراق الجدران الاستنادية للمشفى، فهو يقع داخل مغارة، مما أدى إلى انفجار كبير داخله، وألحق أضرارًا كبيرة في معداته وأجهزته الطبية وتسبب بتعطيل عمل المستشفى بالكامل”.
ولم تكتفِ القوات النظامية السورية بقصف القنابل وإنما زادت باستهداف المشافي بغاز الكلور، الأمر الذي أدى إلى مقتل عدد من العاملين في المجال الطبي اختناقًا، لعلّ أبرزهم الدكتور علي درويش الذي قضى خنقًا بعد قصف مشفى اللطامنة بريف حماه بصواريخ محملة بالغازات السامة.
الدكتور علي درويش الذي قُتل اختناقًا بغاز الكلور
خطف وهجرة قسرية
في السنوات الأخيرة، وتحديدًا عام 2017 و2018 وفي بدايات 2019، تفاقم الفلتان الأمني في مناطق الشمال السوري نتيجة الاقتتالات الفصائلية، مما أدى إلى انتشار عصابات الخطف والمفخّخات والعبوات الناسفة والاغتيالات، وعليه لم يسلم الأطباء من الخطف كالدكتور محمود مطلق الذي أرسل خاطفوه لأهله مقاطع فيديو عن تعذيبه، بهدف ابتزازهم ودفع فدية تقدر بـ150 ألف دولار، أيضًا الدكتور خليل آغا مدير صحة ريف اللاذقية الذي تفاوضت العصابة الخاطفة مع ذويه لدفع عشرات آلاف الدولارات.
بعد كل ما سبق، إضافة إلى الاستهداف من النظام، دُفع العديد من الكوادر الطبية نحو التفكير بالهجرة، يوضح الدكتور الدبيس ذلك بالقول، إن بعض الأطباء فضّلوا البقاء في بلداتهم ومدنهم، فيما قرر آخرون التوجه لمناطق أكثر أمنًا على الحدود التركية، ومنهم من خرج إلى تركيا مع عائلته ويعمل بشكل جزئي في سوريا بعدد أيام محدود.
تسببت هذه الهجرة بنقص في بعض الاختصاصات التي أصبحت نادرة الوجود، كجراحة الكلى والجراحة الوعائية والجراحة القلبية والجراحة العصبية والجراحة التجميلية.
الدكتور محمود مطلق الذي تم تعذيبه لابتزاز أهله
منظمات راعية
يقترب عدد سكّان الشمال السوري من 4 ملايين مواطن، يقوم ما يقارب 1000 طبيب بتقديم الخدمات لهم، موزعين على إدلب وريفها وريف حلب وريف حماه، ويعمل غالب الأطباء بالتعاقد مع مديريات الصحة المدعومة من بعض المنظمات، كما قال الدبيس.
وتعمل العديد من المنظمات على دعم المنشآت والكوادر الطبية في المناطق غير الخاضعة لقوات الأسد ومن أهمها اتحاد المنظمات الطبية والإغاثية السورية “أوسوم”، والرابطة الطبية للمغتربين السوريين “سيما”، وسيريا ريليف، والجمعية الطبية السورية الأمريكية “سامز”، ومنظمة باك عبر القارات وشام الإنسانية، بالإضافة لأطباء بلا حدود ومنظمة الصحة العالمية والهلال الأحمر القطري والتركي وصندوق الملك سلمان للإغاثة الإنسانية، إضافةً للعديد من المنظمات والمؤسسات الخيرية.
وبحسب الدكتور الدبيس فإن هذه المنظمات تقوم من أجل الحفاظ على بقاء الكوادر الطبية بعدة إجراءات، أهمها المناصرة للعاملين في هذا المجال، والتفاوض والتصعيد على مستوى البيانات الصحفية التي تتعلق بحماية الأطباء وضرورة تجنيبهم الصراع، فيما تقوم أيضًا بالعمل على تأمين الحماية ضمن المنشآت، والعمل على عبور آمن للأطباء مع عوائلهم إلى تركيا.
عيادة متنقلة في الشمال السوري
فيما ذكر الدكتور أحمد الدبيس أن المنظمات لا تتكفل بدفع أي فدية تطلبها عصابات الخطف عن أي طبيب مخطوف، لكي لا يصبح سلوكًا تتبعه الجماعات التي تعتدي على الأطباء والفرق الطبية والصحية بشكل عام، غير أن الدكتور حسان إسماعيل وهو المدير الطبي لعيادات منطقة عين البيضا، قال في لقاء مع “نون بوست” إنه انقطع عن العمل لمدة 3 أشهر نتيجة قلة الدعم المتوافر، واتجه نحو العمل التطوعي لحين توافر فرصة عمل له.
وذكر الطبيب إسماعيل أن التعويضات المقدمة للأطباء لا تتوازن مع حجم الخدمة المقدمة والضغط النفسي الذي يعيشه الطبيب من تحديات الوضع الأمني المُعاش في المنطقة، مضيفًا أن عدم تفكير الطبيب بالخروج من بلده يأتي نتيجةً لتهديدات الخطف والقصف العشوائي، وعلى الرغم من الصعوبات والتحديات التي تقف في طريق إسماعيل فإنه، كما يقول، آثر أن يظل في خدمة أبناء بلده بسبب حاجة المنطقة للخدمة الطبية، وقلة الكوادر العاملة في المجال.
مشافٍ خارج الخدمة
كان مشفى شام من أكبر المشافي في الشمال السوري وتعرّض للقصف عدة مرات، لكنه اليوم ونتيجةً لاضمحلال الدعم المقدم أصبح مشفى تسيير أمور فقط، ويعمل كادره تطوعًا بالحد الأدنى من الأجور، ويذكر الدكتور الدبيس هنا أن العديد من المشافي منذ سنوات توقفت عن العمل بسبب توقف الدعم أو انتهاء المشاريع المقدمة.
استهداف الطيران الحربي لمشفى شام بمدينة كفرنبل
لم يكن مشف شام الأول بتوقف بعض خدماته ولن يكون الأخير، فالكثير من المشافي والمستوصفات أوقفت أعمالها نتيجة توقف دعم أو قصف أو شح الموارد، وتطالب المنظمات والهيئات المعنية في هذا المجال، المجتمع الدولي بزيادة دعم هذه المشاريع وزيادة إمداد المؤسسات بما يلزم لخدمة المواطنين في المنطقة التي لم تتوقف فيها الحرب منذ سنوات.