في حلقة جديدة من مسلسل القلق الغربي حيال مشاركة شركة هواوي الصينية في تأسيس شبكة الجيل الخامس للاتصالات الإلكترونية (5G)، أعلن مكتب رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، أمس الأربعاء، إقالة وزير الدفاع جافين وليامسون، على خلفية تسريب معلومات عن مساهمة الشركة في بناء الشبكة الجديدة في بريطانيا.
إقالة ويليامسون جاءت بعد التحقيق في تسريب معلومات عن النشاط المزمع بين الشركة الصينية ولندن داخل مجلس الأمن القومي البريطاني، فيما أضاف البيان أن ماي “فقدت الثقة في قدرة ويليامسون على أداء واجباته الوظيفية”، في الوقت الذي رفض فيه الوزير المقال الاتهامات الموجهة له.
عقدت الحكومة البريطانية اجتماعًا في الـ23 من أبريل نيسان الماضي بمشاركة عدد من الوزراء ممن أثاروا مخاوف حيال خطة تسمح بمشاركة الشركة الصينية في بناء شبكة الجيل الخامس الجديدة للاتصالات والإنترنت في بريطانيا، غير أن صحيفة ديلي تلغراف نشرت الأسبوع الماضي، تقريرًا عن تحذيرات من مخاطر محتملة للأمن القومي البريطاني بسبب تلك الصفقة، الأمر الذي اعتبرته ماي إخلالاً بمتطلبات الوظيفة وعليه أُقيل وزير الدفاع وتعيين بيني مورداونت خلفًا له.
ورغم نفي هواوي وجود أي مخاطر محتملة بشأن التجسّس أو التخريب فضلاً عن خضوعها للسيطرة من الحكومة الصينية، فإن حالة من القلق تسيطر على الغرب على رأسه الولايات المتحدة التي تمارس ضغوطًا على حلفائها في أوروبا لوقف التعامل مع الشركة الصينية، بدعوى تهديدها للأمن القومي الأمريكي، فهل تمثل الشركة كل هذه الخطورة فعلاً أم أن ما يحدث لا يعدو كونه فصلاً في مسرحية الحرب التجارية بين واشنطن وبكين؟
“لا نمثل تهديدًا”
نفت شركة “هواوي” كل الاتهامات المتعلقة بتهديدها للأمن القومي للدول التي تشارك في تدشين شبكة “5G” بها، وبحسب ما جاء على لسان ليو شايومنغ، السفير الصيني في لندن فإن للشركة “سجلاً جيدًا على مستوى الأمن”، مطالبًا الجهات التي تبدي قلقها بتقديم أدلة تثبت صحة تلك الاتهامات.
وفي مقال له نشرته صحيفة “ديلي تليغراف” مؤخرًا حض شايومنغ بريطانيا على مقاومة ضغط دول أخرى بشأن قرار التعامل مع الشركة الصينية العملاقة في مجال الاتصالات، مضيفًا “عندما يتعلق الأمر ببناء شبكة الجيل الخامس الجديدة، فإن بريطانيا في موقف يسمح لها بأن تفعل مثل ذلك ثانية من خلال مقاومة الضغوط، والعمل على تجنب محاولات العرقلة، فضلاً عن اتخاذ القرار الصحيح باستقلالية في ضوء مصالحها الوطنية، وبما يتوافق مع حاجتها للتنمية طويلة الأجل”.
أما فيما يتعلق بالتحقيقات التي طالبت ماي بفتحها بشأن تسريب معلومات عن مشاركة الشركة في بناء الشبكة الجديدة في بريطانيا، طالب أحد كبار المسؤولين في الحكومة تعاون الوزراء ومستشاريهم مع التحقيق في هذا الملف، ووفق المعلومات المسرّبة فإن هناك 5 وزراء اعترضوا على السماح لهواواي بالعمل داخل بلادهم وهم: ساجد جاويد وزير الداخلية، وجيريمي هانت وزير الخارجية، وغافين وليامسون وزير الدفاع، وبيني موردانت وزيرة التنمية الدولية، ووليام فوكس وزير التجارة العالمية، إلا أن جميعهم نفى أن يكون لهم دور في تسريب تلك التفاصيل.
حذر السفير الأمريكي في ألمانيا ريتشارد غرينيل، وزير الاقتصاد الألماني بيتر التماير الجمعة الماضية، أنه إذا حدث ذلك فإن الولايات المتحدة ستخفض تبادل الاستخبارات والمعلومات مع ألمانيا
تشينغ وانغ أستاذة التسويق والابتكار، بجامعة Warwick أشارت أنه لا يوجد دليل دامغ يدعم مسألة تمثيل الشركة لتهديد أمني، موضحة أن بعض الأسباب المقدمة لهذه الفكرة ضعيفة مثل التحدث عن خلفية رئيس الشركة Ren Zhengfei الذي خدم ذات مرة في جيش التحرير الشعبي الصيني.
وأضافت “كما نعلم كانت الخدمة في الجيش الطريقة الوحيدة للخروج من الفقر خاصةً لمن يسكنون في الريف وهو المكان الذي ينتمي له مؤسس الشركة وقد قضى فترة قصيرة ولم يتقلد أي منصب مهم، أما ما فيما يتعلق بخلفية الشركة وعلى عكس الشركات المملوكة للدولة مثل China Mobile وChina Railway Corporation تعد هواوي شركة خاصة مثل Alibaba وTencent وHaier التي نشأت خلال فترة الإصلاح الاقتصادي الصيني في الثمانينيات”.
وزير الدفاع البريطاني المقال وليامسون
ضغوط أمريكية على أوروبا
في الوقت الذي تبدي فيه بعض الدول الأوروبية استعدادها لمشاركة الشركة الصينية في بناء الشبكة الجديدة لديها، تمارس الولايات المتحدة ضغوطًا قوية للحيلولة دون ذلك، آخرها تحذير برلين من استخدامها ما سمته “جهات غير موثوق فيها” لإنشاء بنيتها التحتية للجيل الخامس، بدعوى أن ذلك سيضر بتبادل المعلومات الاستخباراتية بين البلدين.
وبحسب صحيفة “وول ستريت جورنال” فإن السفير الأمريكي في ألمانيا ريتشارد غرينيل حذر وزير الاقتصاد الألماني بيتر التماير الجمعة الماضية، أنه إذا حدث ذلك فإن الولايات المتحدة ستخفض تبادل الاستخبارات والمعلومات مع ألمانيا، فيما أورد المتحدث باسم السفارة الأمريكية لوكالة فرانس برس إنه لن يعلق على الاتصالات الدبلوماسية، ولكن موقف واشنطن بشأن أمن شبكة الجيل الخامس معروف.
المتحدث برر موقف بلاده قائلاً: “بالنسبة لوجود مزودين غير موثوق بهم في شبكات بلد حليف، فإن ذلك قد يثير أسئلة مستقبلية عن نزاهة وسرية الاتصالات الحساسة داخل ذلك البلد، وكذلك بين ذلك البلد وحلفائه”، محذرًا “ذلك يمكن في المستقبل أن يعوق التعاون النشط وبعضًا من تبادل المعلومات، نحن نجري حوارًا مكثفًا مع حلفائنا عن سبل تأمين شبكاتنا للاتصالات لضمان استمرار العمل المشترك”.
يذكر أنه رغم ريادة ألمانيا اقتصاديًا، فإن بنيتها التحتية للاتصالات لم تكن على المستوى المتقدم، فمعظم الألمان يستخدمون حتى الآن شبكة الجيل الثالث، ومن ثم تسعى إلى تعزيز وتطوير شبكتها، إلا أن الضغوط الأمريكية ربما تعرقل الاستعانة بالشركة الصينية في هذا المضمار رغم ما تتمتع من إمكانات هائلة.
رئيس شركة هواوي الصينية Ren Zhengfei
لماذا كل هذا القلق؟
هواوي هي واحدة من أكبر شركات التكنولوجيا في الصين، وثاني أكبر شركات إنتاج أجهزة الهواتف المحمولة في العالم، وتصدرت مبيعاتها قائمة الشركات الأكثر مبيعًا عالميًا، إذ باعت العام الماضي فقط أكثر من 200 مليون هاتف محمول في شتى أنحاء المعمورة… لكن يبقى السؤال: هل تمثل الشركة كل هذا التهديد؟
محوران رئيسيان يحدّدان حجم القلق الغربي لا سيما الأمريكي بشأن تلك الشركة، الذي من خلالهما يمكن تفسير الحملة التي تشنّها واشنطن ضدها والدول المتعاونة معها التي وصلت إلى حد التلويح بتهديد مستقبل العلاقات مع حلفائها كما حدث مع ألمانيا بالأمس واليوم بريطانيا.
الأول: الخضوع للحكومة الصينية. حالة من القلق تنتاب واشنطن بشأن العلاقات الوطيدة التي تربط هواوي بالجيش الصيني، إذ إن رئيس الشركة Ren Zhengfei لم يكن عضوًا في الحزب الشيوعي فقط لكنه كذلك مهندس في صفوف الجيش، الأمر الذي أثار الريبة لدى أمريكا والغرب على حد سواء.
يتساءل الأمريكيون: ماذا لو طلبت السلطات في الصين من هواوي وهي شركة صينية تسليمها معلومات جمعتها في دول أخرى؟ لافتين إلى أن الشركة لن يسعها إلا أن تمتثل لهذا الطلب، ومن ثم يمكن بين ليلة وضحاها أن تنقل بيانات الأمريكيين بمؤسساتهم إلى بكين هذا في الوقت الذي تشهد العلاقة بين البلدين حالة من التوتر طيلة العقود الأخيرة، وعليه تمثّل الشركة تهديدًا صارخًا للأمن القومي الأمريكي.
تضييق أمريكا الخناق على الشركة الصينية وضغوطها على حلفائها في الخارج بشأن عدم التعاون معها يأتي في إطار الحرب التجارية المستعرة بين واشنطن وبكين، وأن ما يحدث لا يعدو كونه فصلاً من فصول تلك المسرحية التي تستهل عروضها بين الحين والآخر
أورد تقرير بثته “سي إن إن” قبل فترة أن هواوي قد “تحور أبراج اتصال الهواتف المحمولة” في ولاية مونتانا شمال غربي البلاد بهدف عرقلة عمل الصواريخ الباليستية العابرة للقارات الموجودة في قاعدة قريبة تابعة للقوة الجوية، فيما نقلت الشبكة عن جيمس لويس الخبير في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن، قوله “نعرف أن الصينيين منخرطون في عملية تجسس كبرى ضد الولايات المتحدة. لذا علينا أن نسأل أنفسنا: هل نشعر بالاطمئنان لو سمحنا لهواوي بالسيطرة على أنظمة الهواتف المحيطة بأهم قواعدنا العسكرية؟”.
علاوة على ذلك فإن قانون الاستخبارات الصيني الذي صادق عليه الحزب الشيوعي في يونيو 2017 كان أحد مثارات القلق بالنسبة للأمريكان، حيث يخشى خبراء وحكومات في الغرب من أن هذا القانون قد يجبر هواوي على تسليم المعلومات للسلطات الحكومية خاصة أنه يتضمن تعريفًا هلاميًا للاستخبارات مما يفتح الباب لجمع المعلومات بأي شكل من الأشكال، بحسب قول الخبراء.
الثاني: تهديد البنية التحتية والعسكرية. في 2012 أصدرت لجنة الاستخبارات التابعة لمجلس النواب الأمريكي تقريرًا قالت فيه إن شركتي هواوي وZTE يمكنهما اعتراض الاتصالات في حال السماح لهما بالعمل في الولايات المتحدة، كما يمكنهما شن هجمات إلكترونية على البنية التحتية الأمريكية كشبكة الكهرباء.
وفي العام الماضي أثيرت داخل الكونغرس العديد من النقاشات التي تحذّر من استخدام منتجات شركة هواوي لما تتضمنه من مخاطر ربما تهدد الأمن الأمريكي وتدمير بنيته التحتية على المستويات كافة، وهو التحذير الذي رفضته الشركة الصينية أكثر من مرة.
أمر آخر يمثل نقطة محورية في قلق واشنطن من هواوي، يتمثل في احتمالية استخدامها لعرقلة أنظمة الدفاع الصاروخي، فبحسب خبراء فإنه بإمكان شركات التكنولوجيا أن تستعيد سيطرتها على الأجهزة التي تنتجها بتضمين التطبيقات التي تستخدمها “أبواب خلفية”، وهذه طريقة تستخدم لتجاوز الإجراءات الأمنية في حالات الطوارئ.
وفي السياق ذاته فإن تحالف “العيون الخمسة” وهو عبارة عن منظمة للدول الناطقة بالإنجليزية تشارك فيها الأجهزة الاستخبارية في الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا وكندا ونيوزيلندا، قرر توخي الحذر إزاء التعامل مع الشركة الصينية، ومن خلال هذا التحالف تمارس واشنطن ضغوطها على بقية الدول الأخرى في أوروبا وخارجها.
مخاوف أمريكية من مشاركة هواوي في بناء شبكة الجيل الخامس
جزء من الحرب التجارية
آخرون ذهبوا إلى أن تضييق أمريكا الخناق على الشركة الصينية وضغوطها على حلفائها في الخارج بشأن عدم التعاون معها يأتي في إطار الحرب التجارية المستعرة بين واشنطن وبكين، وأن ما يحدث لا يعدو كونه فصلاً من فصول تلك المسرحية التي تستهل عروضها بين الحين والآخر.
في ديسمبر الماضي ألقت الشرطة الكندية القبض على مينغ شيزو المديرة المالية لهواوي وابنة صاحب الشركة، في مطار فانكوفر غربي البلاد، متهمة إياها بالاحتيال وانتهاك العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، هذا في الوقت الذي كان يلتقي فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يلتقي بنظيره الصيني شي جين بينغ على هامش قمة دول العشرين في الأرجنتين.
فسّر الصينيون حينها هذه الخطوة بأنها جزء من خطة أمريكية تهدف إلى كبح الصين ومنعها من الهيمنة على اقتصاد العالم خاصة في ظل ما تحققه من قفزات كبيرة في التنمية الاقتصادية خلال السنوات الأخيرة، الأمر الذي ربما يسحب البساط من تحت التفوق الأمريكي.
وعليه ربما تكون الادعاءات الأمريكية بشأن تهديد هواوي للأمن القومي الغربي جزءًا من القلق الذي يشعر بها ساسة الولايات المتحدة تجاه الصين بشكل عام، وبصرف النظر عن صحة تلك الاتهامات فإنها تشير إلى تصاعد حدة التوترات بين القوتين الاقتصاديتين الكبيرتين، في الوقت الذي بات من الصعوبة بمكان توقع ما إذا كان الطرفان سيتجنبان المزيد من التصعيد خلال المرحلة المقبلة أم أن القادم ربما يكون أسوأ مما هو عليه الوضع حاليًّا.