استفزت الطبقة الحاكمة والدائرة المحيطة بالرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة الشعب المحبط من سنوات الحكم العجاف، ومن رئيس حاضر عبر الصور والرسائل المنسوبة إليه ومن فساد أفقر البلد الغني. كان الإعلان الرسمي عن ترشح الرئيس المريض الذي لم يخاطب شعبه منذ نحو 7 سنوات، بداية نهاية حكمه الطويل.
انهار جدار الصمت وأصبح المشاهدون يدركون أن الجزائر بعد 22 من فبراير/شباط 2019 لا تشبه أبدًا ما قبله، لكن الحراك الحاليّ الذي تشهده الجزائر سبقته ثورات واحتجاجات عديدة كرست علاقة الجزائريين بالثورة والانتفاضة ضد من يقوّض حرياتهم.
بالتزامن مع أهم حراك شهدته الجزائر، وهو “الحراك الأمازيغي” عام 1980، غادر بوتفليقة الجزائر، بعد اتهامه بعدة عمليات اختلاس بين عامي 1965 و1978 حيث صدر أمرًا قضائيًا بتوقيفه، وأثيرت حينها قضية ارتباطه بالفساد ثم أُسدل الستار على تلك القضية.
أول حراك شعبي احتجاجي
في الـ10 من مارس/آذار عام 1980، منعت السلطات الجزائرية ودون مبررات تقديم ندوة موضوعها الشعر الأمازيغي القديم، كان الكاتب والمناضل مولود معمري ينوي إلقائها في جامعة تيزي وزو شرق الجزائر، التي تأسست قبل ذلك بأربع سنوات فقط.
كانت تلك الاحتجاجات أول وأكبر تظاهرة شعبية بعد استقلال الجزائر عن فرنسا عام 1962، الأمر الذي أربك السلطات التي بدت مترددة في الرد المناسب، ولم تعرف كيف تتعامل مع هذا الحراك
في ذات الفترة أيضًا منعت السلطات إحياء حفل موسيقي لفرقة “أمازيغن إيمولا”، فخرجت المظاهرات الشعبية الرافضة لهذه الممارسات في شوارع ولاية تيزي وزو، وتوقفت أمام مقر حزب جبهة التحرير الوطني ومبنى الولاية، وشهدت منطقة القبائل إضرابًا عامًا ومواجهات دامية.
المظاهرات طالت أيضًا الجزائر العاصمة، وشكلت أول حراك شعبي احتجاجي تشهده الجزائر منذ استقلالها، ورفع المحتجون شعارات باللغة الأمازيغية تندد بالقمع الثقافي.
كانت تلك الاحتجاجات أول وأكبر تظاهرة شعبية بعد استقلال الجزائر عن فرنسا عام 1962، الأمر الذي أربك السلطات التي بدت مترددة في الردَ المناسب، ولم تعرف كيف تتعامل مع هذا الحراك.
كان حراك الأمازيغ أول وأكبر تظاهرة شعبية بعد استقلال الجزائر عن فرنسا
تجلى ذلك في تردد رسمي وتأخر رد رئيس البلاد آنذاك الشاذلي بن جديد الذي ألقى خطابًا في 17 من أبريل/نيسان يؤكد فيه أن الجزائر عربية وإسلامية، وأن الديمقراطية لا تعني الفوضى.
لكن الرئيس لم يُبد أي تجاوب مع مطالب المحتجين، بل إن قوات الأمن اقتحمت بعد ذلك بيومين مراكز تجمع المحتجين، وأسفرت العملية الأمنية عن اعتقال 24 شخصًا، وهو ما غذى الحركة الاحتجاجية التي تبنت مطلب الإفراج عن هؤلاء.
الكفاح من أجل الهوية
لم يكن حراك الربيع الأمازيغي منفصلاً عن سياق قومي تاريخي ونضال قديم بلغ حد المطالبة بالانفصال من أجل انتزاع الاعتراف بالثقافة والهوية الأمازيغية التي اعتبر الأمازيغ هُمِشت كثيرًا خلال فترة النضال ضد الاستعمار.
كان الربيع الأمازيغي لعام 1980 محطة في مسار كفاح سكان منطقة القبائل بالجزائر من أجل نيل حقوقهم منذ 1949، وهو عام اندلاع ما عُرف بـ”الأزمة البربرية”.
حينذاك قدَم مصالي الحاج الملقب بـ”أبو الأمة” مذكرة إلى الأمم المتحدة عام 1948، أسقط فيها الأمازيغية من مكونات الهوية الجزائرية، وأكد أن الهوية الجزائرية تتلخص في العروبة والإسلام، نتيجة لذلك، أبعدت جبهة التحرير “البربريين” بل دعت لـ”تصفيتهم”، بحسب ما ذكره علي يحيى عبد النور في كتابه عن “الأزمة البربرية”.
بعد الاستقلال عوَضت اللغة العربية الفرنسية، واعتمدت الحكومات المتعاقبة سياسة تعريب مكثفة ضمن توجهات عربية قومية كانت سائدة وقتها
وشكل ذلك حينها منعرجًا خطيرًا في تاريخ الحركة الوطنية، وأدت الأزمة إلى حدوث انشقاق بين قيادات وطنية، وأزمة بين مكونات الشعب الجزائري جرى احتواؤها على أساس مناقشة مسألة الهوية بعد الاستقلال للحفاظ على وحدة الصف ضد الفرنسيين.
لكن ذلك لم يحدث، فبعد الاستقلال عوَضت اللغة العربية الفرنسية، واعتمدت الحكومات المتعاقبة سياسة تعريب مكثفة ضمن توجهات عربية قومية كانت سائدة وقتها، وأُدرج استعمال اللغة الأمازيغية في مؤسسات الدولة كجريمة يعاقب عليها القانون، كما تم تجميد عمل الإذاعة المحلية لمنطقة القبائل ومنع الإذاعة الثانية الناطقة بالأمازيغية من التزود بالمعدات التقنية اللازمة لتوسيع موجتها وتغطية كل التراب الوطني.
وفي سبيل طمس الهوية الأمازيغية جرى تهميش قادة الثورة التحريرية المنحدرين من منطقة القبائل الأمازيغية لكونهم من ثوار الداخل الذين كانوا ضد جيش الحدود بقيادة أحمد بن بلة الذي قال مباشرة بعد استيلائه على الحكم في خطاب “نحن عرب”، وكررها ثلاث مرات.
نظّم سكان القبائل إضرابًا شاملاً
نتيجة لهذه الممارسات، أبدى الأمازيغ في الجزائر امتعاضًا مطردًا من تهميش لغتهم وعدم اهتمام الدولة بموروثهم الثقافي، وبدأ الكفاح بنشوب خلاف حاد بين حسين آيت أحمد، أحد قادة الثورة، والرئيس أحمد بن بلة الذي قاد السلطة التي حكمت الجزائر وقتها، وبعد عام واحد من الاستقلال، أعلن آيت أحمد تأسيس جبهة القوى الاشتراكية التي عارضت النظام السياسي في الجزائر طيلة عقود الاستقلال وحملت مطلب الهوية الأمازيغية كإضافة للمشروع الديمقراطي.
كان حينها الاهتمام بالقضية الأمازيغية محصورًا في نخب أمازيغية جزائرية، ولا يكاد يتجاوز بعض الأكاديميين والمثقفين الذين انتظموا في إطارٍ أكاديمي سموه الأكاديمية البربرية (الأمازيغية) للتبادل والبحث الثقافي التي تأسست في باريس عام 1966.
كان هدف الأكاديمية نشر الثقافة والتراث الأمازيغي في شمال إفريقيا، لكن التجربة دفعت السلطات الجزائرية – رغم مناوأتها للأكاديمية – إلى استخدام أبجدية “تيفنياغ” في كتابة الأمازيغية على لوحات الإرشاد في الشوارع، ونحو ذلك من الاستخدامات الثانوية.
وخلال تلك الفترة أيضًا، ظهرت عدة حركات قبائلية مثل مجموعة “الدراسات البربرية” بجامعة باريس عام 1973، كما أسس الشاعر والروائي الأمازيغي مولود معمري مركز الدراسات الأمازيغية عام 1982.
بعد اندلاع الربيع الأمازيغي عام 1981، تزايد اهتمام السلطات الجزائرية بأبجدية “تيفيناغ”، واعتُمدت هذه الأبجدية رسميًا إثر أحداث أكتوبر/تشرين الأول 1988 المطالبة بالتعددية
ونجحت كتابات المفكرين الأمازيغيين – الذين اضطر الكثيرون منهم إلى الهرب نحو فرنسا – في إثارة نقاش حي في الأوساط الأمازيغية داخل الجزائر، لكن رغم إسهام الأكاديمية المهم في بلورة وعي الأمازيغ، إلا أن تأثيرها بقي محدودًا على السلطة الجزائرية وعلى الحركة الأمازيغية حتى برز دورها في أحداث 20 من أبريل/نيسان 1980.
ومع تعاظم المطالب الثقافية والسياسية للأمازيغ في منطقة القبائل، خاصة بعد اندلاع الربيع الأمازيغي عام 1981، تزايد اهتمام السلطات الجزائرية بأبجدية “تيفيناغ”، واعتُمدت هذه الأبجدية رسميًا إثر أحداث أكتوبر/تشرين الأول 1988 المطالبة بالتعددية.
الربيع الأسود.. الحكاية لم تتنه مع العهدة الخامسة
وضعت احتجاجات تيزي وزو القضية الأمازيغية في الواجهة، ووسعت شعبيتها بعد أن ظلت قضية نخبوية منذ الاستقلال، بل أكثر من ذلك ألهمت حركات احتجاجية ذات بعد اجتماعي خلال السنوات اللاحقة، بدءًا بأحداث قسنطينة في 1986 وصولاً إلى أحداث الـ5 أكتوبر/تشرين الأول 1988.
حينذاك تدفقت إلى شوارع العاصمة الجزائرية جموع الجزائريين للتظاهر مطالبةً الحكومة بإصلاحات، وتحولت تلك المظاهرات سريعًا إلى مناوشاتٍ مع رجال الأمن، وأُجبر الرئيس الشاذلي على الاستجابة لتلك المطالب، حيث تعهد بتنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية عميقة، توجت بإصدار دستور جديد للبلاد عرف بدستور 23 من فبراير 1989؛ مما سمح بفتح التعددية الحزبية وإنهاء حكم الحزب الواحد.
اندلعت الاحتجاجات والانتفاضات الأمازيغية في وجه السلطات الحاكم، وكان أبرزها ما عُرف بـ”الربيع الأسود” الذي بدأ عام 2011، ومثَل ذروة المواجهة بين الأمازيغ (القبائل) والدولة
توالت بعد ذلك حملات من المظاهرات والاعتقالات، ومن ذلك ما جرى عام 1994 احتجاجًا على تعميم تدريس اللغة العربية في المدارس، حينها قاطع الآلاف من أبناء الأمازيغ المدارس، وكانت نتيجة تلك المقاطعة استجابة السلطة للمعترضين وإدخال الأمازيغية إلى منهاج التعليم، لأول مرة في تاريخ البلاد، وتأسيس المحافظة السامية للأمازيغية في 27 من مايو/أيار 1995، في عهد الرئيس الجزائري ليامين زروال، في هذه الفترة أيضًا، شرعت وسائل الإعلام الرسمية في بث نشرات الأخبار بالأمازيغية.
في أثناء ذلك تواصل الحراك بين مد وجزر، وتوالت الاحتجاجات والمواجهات، من أبرزها تلك التي وقعت عام 1999، عقب قرار الجيش بإلغاء أول انتخابات تشهدها البلاد، لتدخل الجزائر في نفقٍ مظلمٍ، وتندلع أعمال عنف دموية خلفت مئات الآلاف من القتلى والمصابين والمفقودين وعرفت هذه الحقبة بالعشرية السوداء.
بعد عامين، اندلعت الاحتجاجات والانتفاضات الأمازيغية في وجه السلطات الحاكم، وكان أبرزها ما عُرف بـ”الربيع الأسود” الذي بدأ عام 2011، ومثَل ذروة المواجهة بين الأمازيغ (القبائل) والدولة.
مواجهات دموية واحتجاجاتٍ عنيفة بمنطقة القبائل خلفت مقتل ما يزيد على 80 شخصًا، وأعقبت مقتل الشاب ماسينيسا قرماح في 18 من أبريل/نيسان عام 2001، وزاد الأمر اشتعالاً تعليق وزير الداخلية بوصفه هذا الشاب بأنه “صعلوك يبلغ من العمر 26 عامًا، اُستدعي في قضية سرقة”، الأمر الذي دفع والديه يقدمان شهادات تبين أن عمر ابنهما لا يزيد على 18 عامًا.
في الشهر التالي، أعلن حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية انسحابه من الحكومة، وهو الحزب المشكَل أساسًا من قاعدة شعبية أمازيغية.
وفي يونيو/حزيران عام 2001، تأسست “تنسيقية العروش”، وضمت أبرز عائلات القبائل الأمازيغية وممثلين عن مختلف الفاعلين الأمازيغ في البلاد، وتولوا رفع لائحة مطالب عُرفت بـ”أرضية القصر”، لكن ما شهدته المسيرات من أعمال عنفٍ وحرق وتخريب أدى بالسلطات الجزائرية لإصدار قانونٍ بمنع التظاهر بالعاصمة.
بعدها بثلاثة أشهر، جرى تحرك رسمي لإخماد الاحتجاجات، حيث خرج الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة ليدعو “تنسيقية العروش” إلى تسليمه عريضة مطالب، وبعدها بأسابيع قليلة، قام رئيس الوزراء حينها علي بن فليس بدعوة التنسيقية لتأكيد موافقتها على 4 من أصل 12 مطلبًا تقدمت بها.
على رأس تلك المطالب كان الاعتراف الرسمي بالغة الأمازيغية، وهو ما تأتى عام 2002 بمبادرة من الرئيس بوتفليقة الذي اتهم فرنسا بالوقوف وراء تلك الأحداث، وبموافقة البرلمان تم إعلان الأمازيغية لغة وطنية، لكن دون مساواتها باللغة العربية الرسمية.
مطلع العام 2016، تعززت مكانة اللغة الأمازيغية بعد “دسترتها” كلغة وطنية ورسمية، كما نص على ذلك الدستور الجديد للجمهورية الجزائرية الذي جرى اعتماده في ذلك العام.
ورغم تلك المكتسبات التي حققتها الحركة الأمازيغية، فإن الواقع ليس بهذه الصورة الوردية، فالأمازيغ ما زالوا عرضة للتمييز ضدهم في كثير من المجالات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، فوفقًا لتقرير حقوق الإنسان المغربي الصادر عام 2017، فإن الفقر ومعدلات الأمية بين الأمازيغ هي الأعلى بالمغرب.
ومع مرور 39 عامًا على الربيع الأمازيغي، و19 عامًا على أحداث الربيع الأسود، ما زال الأمازيغ متحفظين حتى الآن تجاه بقية الشعب الجزائري بسبب عدم مشاركتهم في تظاهراتهم ضد النظام، إلا أن يشاركونهم الآن مطالب الحراك الحزائري، وعلى رأسها إقامة دولة المؤسسات والحريات والديمقراطية التي تضمن التعدد والتنوع الثقافي اللغوي والفكري والديني.