“لا تكون أي ديمقراطية مكتملة دون توفّر إمكانية الحصول على معلومات شفافة وموثوقة. إنها حجر الزاوية لبناء مؤسسات عادلة ونزيهة، وإخضاع القيادات للمساءلة، ومواجهة من في يدهم السلطة بالحقائق”.. إذا كانت هذه الكلمات الصادرة عن الأمين العام للأمم المتحدةهي الأرضية التي يجب أن تستند إليها قوانين الصحافة وتشريعاتها في العالم فإن الأمر في مصر يختلف كلية وتفصيلًا.
تستقبل الأسرة الصحفية في مصر اليوم العالمي لحرية الصحافة الذي يوافق الثالث من مايو من كل عام وجراحها لم تلتئم بعد، فلا زال ثوب حرياتهم مرقعًا، بين اعتقالات وكبت وتضييق خناق وملاحقات وترهيب وغلق صحف وحجب مواقع، الأمر الذي أفقد المهنة الكثير من روادها ممن آثروا الخروج من المشهد، إما خوفًا أو بحثًا عن مصدر رزق أكثر آدمية.
وإذا كان الإعلان الذي أقرّته منظمة اليونسكو قد أقر أنّه لا يمكن تحقيق حرية الصحافة إلا بضمان بيئة إعلامية حرّة ومستقلّة وقائمة على التعدّدية. وهذا شرط مسبق لضمان أمن الصحفيين أثناء تأدية مهامهم، ولكفالة التحقيق في الجرائم ضد حرية الصحافة تحقيقًا سريعًا ودقيقًا، فإن الوضع في أرض الكنانة أبعد ما يكون عن ذلك.
وإذا كانت منظمة “مراسلون بلا حدود” عنونت تقرير العام الماضي بـ “كراهية الصحافة تُهدِّد الديمقراطيات” مستخدمة ولأول مرة مصطلح “رهاب الإعلام” فإنها في هذا العام أكّدت على ما ذهبت إليه سابقًا إذ عنونت تقريرها لعام 2019 بـ “آلة الخوف تعمل بأقصى طاقتها” ليبقى السؤال الأكثر جدلًا على الساحة: لماذا تخاف الأنظمة من الصحافة؟
مزيد من الكبت
شهد العام الأخير مزيدًا من الكبت وتضييق الخناق على العاملين في مجال الصحافة، وباتت قضايا حرية الرأي والتعبير على قائمة الاتهامات التي تنظر أمام نيابة أمن الدولة المصرية، حسبما أشارت “مؤسسة حرية الفكر والتعبير” المعنية بالحقوق والحريات.
المؤسسة في تقريرها السنوي حول حرية التعبير في مصر عام 2018 أكدت استمرار ممارسات القمع من قبل السلطات المصرية بحق الصحفيين والإعلاميين بوجه عام بحجة قانون الطوارئ، الذي فرض في الربع الثاني من عام 2017، ويجدّد بشكل تلقائي من قبل مجلس النواب (البرلمان).
التقرير ركّز على استمرارية سياسة حجب المواقع الإلكترونية والتي تجاوز عددها 500 موقعًا منذ 2017 وحتى الآن، ورغم المناشدات الدولية بالتخلي عن هذه السياسة إلا أن السلطات المصرية لم تلق لها بالًا، في ظل ما يثار بشأن غموض الجهة المسئولة عن هذه العملية.
المؤسسة في تقريرها السنوي وثقت 73 واقعة انتهاك شملت 102 انتهاك تعرض لها المجتمع الصحافي والإعلامي، كما رصدت 23 واقعة انطوت على 43 انتهاكاً
كما أشار أيضًا إلى التشريعات الصادرة خلال الأعوام الأخيرة والتي كان لها اليد العليا في إحكام السيطرة على الإعلام عبر قوانين الصحافة المختلفة، هذا بخلاف الدور الذي تقوم به مؤسسات الدولة المعينة لمراقبة ما ينشر في الإعلام، تلك المؤسسات التي سارعت من إجهاض الحريات الإعلامية بصورة كبيرة.
المؤسسة في تقريرها السنوي وثقت 73 واقعة انتهاك شملت 102 انتهاك تعرّض لها المجتمع الصحافي والإعلامي، كما رصدت 23 واقعة انطوت على 43 انتهاكًا تنوع ما بين حبس احتياطي وأحكام بالحبس، ومنع العرض ومنع دخول المبدعين إلى مصر أو ترحيلهم.
أما عن خارطة توزيع الانتهاكات فتصدرتها الهيئات القضائية القائمة بأكبر عدد بلغ (17 انتهاكًا)، حلّت بعدها مؤسسات حكومية ممثلة في “المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام” وجهاز الرقابة على المصنفات الفنية (9 انتهاكات)، وتساوت الهيئات القضائية العسكرية مع الجهات الأمنية في ارتكاب كل منها 7 انتهاكات.
وتصدّر الحبس الاحتياطي أكثر أنواع الانتهاكات تكرارًا، إذ تعرض له 10 أفراد في 3 وقائع مختلفة، من بينهم حبس المدون الساخر شادي أبو زيد، كذلك تم رصد 20 واقعة عوقب خلالها 20 شخصًا بالحبس أو الفصل من العمل بسبب تعبيرهم عن آرائهم على مواقع التواصل الاجتماعي سواء بالكتابة أو بنشر فيديوهات على مدار العام. وتعرض 17 شخصًا للحبس الاحتياطي، بعضهم أُخلي سبيله.
وخلص التقرير إلى دعوة مجلس النواب لإعادة النظر في قوانين الصحافة التي تم تشريعها مؤخرًا، كذلك الدعوة لإلغاء حالة الطوارئ، وإعادة النظر في كافة المحاكمات والتحقيقات الاستثنائية التي جرت خلال العام سواء في القضاء العسكري أو محاكم أمن الدولة، ورفع الحَجْب عن كافة المواقع المحجوبة، بجانب إلغاء لجنة الدراما التابعة للمجلس الأعلى للإعلام، وتوقف الهيئة العامة للاستعلامات عن التضييق على المؤسسات الصحافية الأجنبية العاملة في مصر وصحافييها، ووقف استيراد أجهزة التجسس ومراقبة الاتصالات وتوقف الحكومة عن انتهاك خصوصية المواطنين.
تظاهرات ضد حبس الصحفيين في مصر
شرعنة تضييق الخناق
نجحت الدولة المصرية عبر تشكيل عدد من المؤسسات في فرض كامل هيمنتها على الصحافة والصحفيين، ففي الوقت الذي عرقلت فيه صدور قانون الصحافة المنظم لمهنتي الصحافة والإعلام للعام الثالث على التوالي، أنجزت في إنشاء كل من المجلس الأعلى للإعلام والهيئتين الوطنيتين للصحافة والإعلام، لنصبح بذلك أمام مشهد إعلامي تحكمه هيئات تنظيمية جديدة في محاولة لضبط مناخ يعمل بأحكام قانون قديم (قانون الصحافة رقم 96لسنة (1996 لا يتماشى مع شكل البنية التشريعية الجديدة للمشهد الصحفي والإعلامي.
في الحادي عشر من إبريل الماضي احتفل مجلس الأعلى للإعلام بمرور عامين على تدشينه، نجح خلالهما في الكشف عن هويته مبكرًا، وهو ما تشير إليه عشرات القرارات والإجراءات الصادرة عنه التي تذهب جميعها في اتجاه واحد فقط هو تقليم أظافر المعارضة وتكريس الصوت الواحد وإجهاض آخر ما تبقى من الحريات التي دخلت في ظل هذا المجلس غرفة الإنعاش.
رغم تقدم المئات من الصحفيين بمذكرة رسمية لرفض مسودة تلك اللائحة التي تستهدف فرض حالة من الصمت وتكميم الأفواه على جميع وسائل الإعلام فإن أحدًا لم يسمع
المجلس وهيئتيه استطاعا في أقل من 24 شهرًا الإجهاز على ما تبقى من الحريات الإعلامية في الدولة صاحبة الجزء الأكبر من كعكة الإعلام في المنطقة، إذ تمكنت بمساعدة الهيئة العامة للاستعلامات “حكومية” في تمرير العديد من التشريعات والإجراءات التي تسعى في طريقها إلى تحقيق حلم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في أن يتحول الإعلام الحالي إلى إعلام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في ستينات القرن الماضي، حيث الصوت الأوحد، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
جزء آخر لإكمال مشهد إحكام السيطرة تمثل في إعادة هيكلة خارطة الإعلام في مصر، عبر دمج بعض الكيانات وغلق أخرى، بجانب دخول شركات وكيانات إعلامية جديدة بعضها ممول من جهاز المخابرات لفرض مناخ إعلامي جديد داعم للنظام على رأسها شركة “فالكون للأمن ومجموعة “إعلام المصريين” و”إيجل كابيتال” المملوكة للسيدة داليا خورشيد وزيرة الاستثمار السابقة وزوجة محافظ البنك المركزي طارق عامر.
المصور الصحفي محمود شوكان داخل قفص المحكمة
ترهيب الصحفيين
لم يكتف الأعلى للإعلام بفرض سطوته على المنظومة الإعلامية في مصر فحسب، بل عمق هذا التوجه بتدشين لائحة جزاءات ترهيبية، أفضت إلى نزوح العشرات من العاملين في المهنة، تاركين خلفهم إرثًا ليس بالهيّن من سنوات الخبرة والشقاء، خوفًا من أن يقعوا تحت قبضة السلطات التي ثبت بالدليل القاطع أن من يقع تحت أيديها لا يرحم.
وبينما كان العاملون في الإعلام مشغولون بمناقشة قانون الصحافة المعطل والمؤخر خلال السنوات الثلاث الماضية، فوجئ الجميع بصدور لائحة جزاءات وصفت بأنها “كارثية”، وأقل ما يقال عنها إنها شهادة وفاة شرعية للصحافة، ورغم تقدم المئات من الصحفيين بمذكرة رسمية لرفض مسودة تلك اللائحة التي تستهدف فرض حالة من الصمت وتكميم الأفواه على جميع وسائل الإعلام فإن أحدًا لم يسمع، بل وصل الأمر إلى وصف مكرم للأصوات المعترضة على اللائحة بأنها “جعجعة أونطة”.
“نون بوست” في تقرير له كشف النقاب عن بعض بنود تلك اللائحة التي قوبلت بتنديد واسع النطاق من عشرات الصحفيين وأعضاء بمجلس نقابة الصحفيين المصريين، حيث أنها تضمنت نصوصًا غير مسبوقة في تاريخ الصحافة المصرية، جزاءات وعقوبات مغلظة، منها “معاقبة كل من استخدم أو سمح بألفاظ واضحة وصريحة، تشكل جريمة سب أو قذف، بأحد الجزاءات الآتية: إما معاقبة الوسيلة الإعلامية بغرامة لا تقل عن 25 ألف جنيه، ولا تزيد على 250 ألف جنيه، أو لفت النظر أو الإنذار، أو إحالة الصحافي أو الإعلامي للتحقيق بمعرفة النقابة، أو إلزام الوسيلة بتقديم اعتذار أو وقف بث البرامج المخالفة، أو حجب الموقع الإلكتروني لفترة مؤقتة، أو منع الصحافي أو الإعلامي من الكتابة”.
كما نصت على “يُعاقب كل من نشر أو بث شائعات، أو أخبارًا مجهولة المصدر، أو نقل عن مصادر إعلامية أخرى، أو استخدم منصات التواصل الاجتماعي كمصدر للمعلومات دون التحقق من صحتها من مصادرها الأصلية، إما بلفت النظر أو الإنذار، أو توقيع غرامة لا تقل عن 10 آلاف جنيه، ولا تزيد على 25 ألف جنيه، أو مضاعفة العقوبة، واتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة، حال استخدام عبارات تشمل التخوين دون سند، ويجوز وقف بث البرامج، أو الباب أو الصفحة أو الموقع الإلكتروني لفترة مؤقتة، وتوقيع غرامة لا تقل عن 250 ألف جنيه، ولا تزيد على 500 ألف جنيه أو بإحدى العقوبتين”.
ونتاجًا لما سبق كان من المتوقع تراجع ترتيب مصر في مؤشر حريات الصحافة هذا العام وهو ما أكد عليه التصنيف السنوي لمنظمة “مراسلون بلا حدود” للعام 2019، حيث احتلت المرتبة 163 من بين 180 دولة، متراجعة مركزين عن ترتيبها في مؤشر العام السابق، حين احتلت المركز 161.