لا أدّعي بِدْعاً من القول، إنْ زَعَمْتُ أنَّ “علم البيانات” قديمٌ قِدمَ ظهور التدوين في ميادين العلم والمعرفة، إذ لا يستغني عنه تخصّص أو ميدان أ وحقل معرفي، وهو إلى ذلك ليس نتيجة للتطوّر المعرفي الحاصل في هذا العصر، وإنما مواكبٌ له في كل عصر من عصوره، ويعرّف علم البيانات بأنَّه “مجموعة من الحروف أو الكلمات أو الأرقام أو الرموز أو الصور المتعلقة بموضوع معين”.
وقد أبدع مَن وصف “علم البيانات”، بـ “نفط القرن الواحد والعشرين”، للدلالة على أهمية هذا العلم والتخصّص الدقيق في هذا العصر، فهو تماماً كحالة النفط الخام، لا يمكن الاستفادة منها، إلاّ بعد مراحل عديدة، من التنقيب، والاستخراج، والتصنيف، والتحليل، والتكرير، وغيرها من المراحل، وكذلك “علم البيانات”.
ولم تعد البيانات اليوم، في مختلف تخصّصاتها وميادينها المعرفية، محصورة أو محتكرة لدى فئة أو مجموعة دون أخرى، ففي عصر “البيانات الضخمة”، بات حجم البيانات في ازدياد مضطرد، وهذا نتيجة طبيعية، للتدفق الهائل في هذا العصر الذي يعرف بالانفجار المعرفي الهائل، وقد كانت البيانات شحيحة عزيزة، فلم تكن العلوم مدونة في العصر الأوّل في الكتب والصحف، بل كانت مدونة على صفحات القلوب، ولم يظهر التدوين إلاّ في القرن الثاني للهجرة النبوية؛ حيث بدأ تدوين المعارف والعلوم، وممّا يُروى عن العلماء حول صعوبة جمع البيانات في هذه العصور، ما ذكره الخطيب البغدادي (ت:463 هـ)، في كتابه “الرحلة في طلب الحديث”، حيث عدّد نماذج من العلماء كانوا يقطعون المسافات البعيدة، بين مصر والشام والعراق والحجاز، من أجل الحصول على بيانات حديثية أو تحليلها أو التأكد من صحتها، ونماذج أخرى عن بذل الغالي والنفيس من أجل الحصول على البيانات القيّمة.
من القواعد المهمّة والضوابط الدقيقة في جمع البيانات وإبرازها والتحدث بها إلى الجمهور، مهما كان نوعها أو حجمها، ما عُرف عند علماء الحديث النبوي بقاعدة: (إذَا جَمَعْتَ فَقَمِّشْ، وَإِذَا حَدَّثْتَ فَفَتِّشْ).
ومن القواعد المهمّة والضوابط الدقيقة في جمع البيانات وإبرازها والتحدث بها إلى الجمهور، مهما كان نوعها أو حجمها، ما عُرف عند علماء الحديث النبوي بقاعدة: (إذَا جَمَعْتَ فَقَمِّشْ، وَإِذَا حَدَّثْتَ فَفَتِّشْ). أو (إذَا كَتَبْتَ فَقَمِّشْ، وَإِذَا حَدَّثْتَ فَفَتِّشْ)، وقد وردت هذه القاعدة على لسان عدد من العلماء منهم يحيى بن معين (ت:233هـ)، وأبي حاتم الرازي (ت:277هـ)، ذلك أنَّ ثمّة فرقاً جوهرياً بين الجمع وبين التحديث، فالبيانات والمعلومات التي تُجمع تلزم صاحبها وحده ما لم تنشر، فإذا حدّث بها وبثّها للجمهور ألزمته وصارت تمثله، وقد ورد عن يحيى ابن معين أنَّه قال: ((صاحبُ الانتخابِ يندمُ، وصاحبُ النسخِ لا يندمُ)).
كحاطب ليل
ومن هنا تبرز أهمية التحقّق والتثبت من البيانات والمعلومات قبل نشرها، لأنَّها ترفع من شأن أصحابها إن هم التزموا بالمعايير العلمية للبحث والنشر، وتخفض من شأنهم إن كانوا كما وصفهم الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت:175هـ)، بقوله: ((ويقال للمخلط في كلامه وأمره: حاطب ليل، مثلاً له لأنه لا يتفقد كلامه كحاطب الليل لا يبصر ما يجمع في حبله من رديء وجيّد)).
من هنا تبرز أهمية التحقّق والتثبت من البيانات والمعلومات قبل نشرها، لأنَّها ترفع من شأن أصحابها إن هم التزموا بالمعايير العلمية للبحث والنشر
فنحن هنا أمام مرحلتين من مراحل إعداد وإخراج البيانات:
المرحلة الأولى: الجمع، وهي عملية جمع المعلومات الموثقة، من مصادرها، ليبني عليها الباحث أو الصحفي بناء بحثه أو خبره أو قصته.
وهي مرحلة مهمّة في حياة البيانات، فكلما كانت البيانات أكثر حجماً وتنوّعاً وتوسّعاً، كانت النتائج على قدرها وقيمتها.
والمرحلة الثانية: التحديث، وهي عملية تمييز البيانات وانتخابها واختيار الأجود والأحسن والأصدق.
ولا تقلّ هذه المرحلة أهمية عن سابقتها، بل تعدّ خلاصة لما تمّ جمعه، والصورة النهائية لما تمّ بناؤه، فكلّما كانت أجودَ وأتقنَ من حيث الإخراجُ والنشر، كان تأثيرها أقوى وأحكم وأدوم.
وتوصف المرحلة الأولى وهي الجمع؛ بالتّقْمِيش أو القَمْش، والمراد به كما ذكره الجوهري في الصّحاح: “جمع الشيء من هاهنا، وهاهنا”.
أمَّا المرحلة الثانية وهي التحديث، فتوصف بالتّفتيش، والمراد به التمحيص والتمييز وتدقيق البيانات من حيثُ الجودة والمصداقية، قبل نشرها بين الجمهور في مختلف الوسائل المكتوبة أو المسموعة أو المشاهدة.
ثمّة خيط رفيع ومبدأ دقيق، يكمن في ثنايا وتفاصيل هاتين المرحلتين، وهو امتلاكُ الحسّ العميق والقدرة الكافية على ممارسة النقد والتحليل لكل البيانات المتوافرة، والجمع في ذلك بين مختلف أوجهها وزواياها، حتّى تتبيّن جودة الإنتاج، وتظهر نصاعته
ولا بدَّ من الإشارة هنا، إلى أنَّ ثمّة خيطاً رفيعاً ومبدأ دقيقاً، يكمن في ثنايا وتفاصيل هاتين المرحلتين، وهو امتلاكُ الحسّ العميق والقدرة الكافية على ممارسة النقد والتحليل لكل البيانات المتوافرة، والجمع في ذلك بين مختلف أوجهها وزواياها، حتّى تتبيّن جودة الإنتاج، وتظهر نصاعته، ولعلّ ذلك ما عناه علي بن المديني (ت:234هـ): ((الباب إِذَا لَمْ تَجْمَعْ طُرُقَهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ خَطَؤُهُ)).
ويبقى الفيصل والحكم في صناعة البيانات انتاجاً وجمعاً، وإخراجاً ونشراً، يعتمد بالدرجة الأولى، على أهلية الصَّانع، سواء كان باحثاً أو صحفياً، وقدرته العلمية والعملية على إتقان عمليتي الجمع والتحديث، وما تصاحبهما من عمليتي التقميش والتفتيش، واعتماد وسائل وقوالب متطوّرة في إخراج هذه البيانات وتقديمها في حلّة تحظى بقبول جماهير جديدة وتقدّم لهم نمطاً مبتكراً جديداً من المعارف في هذا الفضاء الواسع.