ما إن اتضحت الصورة بشكل جلي، وأيقن الجميع بانهيار النظام السوري وهروب رئيسه بشار الأسد وعائلته إلى روسيا، وسيطرة المعارضة المسلحة على المشهد ودخولها القصر الرئاسي في دمشق، وبداية الدخول نحو عصر جديد من الحرية والكرامة الإنسانية، يتنفس فيه السوريون نسيم الأمل دون أصفاد شبيحة الأسد، شن جيش الاحتلال سلسلة غارات مكثفة على بعض المدن في الجنوب السوري، فيما استولت قواته على المنطقة العازلة في محافظة القنيطرة، ومرتفعات الجولان المحتل.
وبعد ساعات قليلة من الإعلان رسميًا عن مغادرة الأسد الأراضي السورية على متن طائرة خاصة، غير معلومة الجهة (قبل إعلان موسكو عن استضافته ومنحه اللجوء الإنساني)، استهدف جيش الاحتلال 100 موقع سوري، حيث هاجم سلاح الجو مواقع عسكرية تطل على هضبة الجولان، بزعم أنها مستودعات أسلحة ومجموعات موالية لإيران في دير الزور في الشرق السوري، كذلك نفذ غارات أخرى على القلمون وقواعد للجيش السوري في ريف مدينة درعا.
بل وصلت الضربة الانتقامية إلى استهداف مطار دمشق، وضرب منظومات الدفاع الجوي ومستودعات الصواريخ ومعامل التطوير والتصنيع في المنطقة، ومطار المزة وثكنات الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة في سفح جبل قاسيون، والبحوث العلمية ومعامل الدفاع في دمشق، والمراصد والتلال العالية، وتوجت تلك العمليات بالتقدم نحو قرابة 11 كيلومترًا في الداخل السوري.
وأحدث هروب الأسد المفاجئ وغير المتوقع إرباكًا كبيرًا لحسابات الكيان الإسرائيلي، وخلطًا لكل أوراقه، لا سيما بعد سيطرة الفصائل المعارضة المسلحة على المشهد، والاحتفاء الشعبي بهذا التطور، الذي فرض معه حالة من الضبابية بشأن توجهات الدولة خلال المرحلة المقبلة وهي التي كانت خلال عهد الأسد الساحة الأكثر أمانًا وانضباطًا مع الكيان الإسرائيلي، وعليه أجرى رئيس الحكومة العبرية بنيامين نتنياهو رفقة وزير دفاعه يسرائيل كاتس، جولة عند خط وقف إطلاق النار على الحدود السورية، معلنًا انهيار اتفاقية فصل القوات بين “إسرائيل” وسوريا لعام 1974، في محاولة لتبرير احتلال الجيش الإسرائيلي منطقة جبل الشيخ الحدودية والمنطقة العازلة مع سوريا.
وتعكس العربدة الإسرائيلية على الشريط الحدودي مع سوريا واحتلالها لمساحات إضافية في الجولان والقنيطرة جنوبًا، حالة فقدان التوازن التي يعاني منها صانع القرار الإسرائيلي إزاء التطورات الصادمة، البعيدة عن تقديرات وتوقعات الجهاز الاستخباراتي الإسرائيلي، والتي من المتوقع أن تستمر حتى تتضح الصورة بشكل أكثر نقاءً.
قلق إسرائيلي.. فشل استخباراتي ولا شيء يدعو للتفاؤل
تجدر الإشارة ابتداءً إلى أن ما حدث في سوريا كان خارج حسابات مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي الذي تفاجأ به، بحسب وصف المحلل العسكري لصحيفة “هآرتس” العبرية، عاموس هارئيل، الذي يرى أن جل تركيز الاستخبارات الإسرائيلية تمحور حول جمع المعلومات عن إيران و”حزب الله” والمقاومة في غزة، وكان من النادر أن يُنظر للمعارضة السورية المسلحة على أنها جهة تهديد من الممكن أن تفرض نفسها على الساحة.
وخلال الآونة الأخيرة قدر جهاز الموساد الإسرائيلي – بحسب هارئيل – أن هناك اتجاهًا لإعادة تأهيل جيش النظام السوري، دون الحديث مطلقًا عن المعارضة، حتى بعد دخولها حلب، كانت الترجيحات لدى ضباط الاستخبارات تذهب باتجاه قدرة الأسد على إجهاض تلك المحاولات وإعادة الأمور إلى طبيعتها مرة أخرى.
لكن المفاجأة كانت في سقوط النظام بسوريا وهروب الأسد بهذه الطريقة الدراماتيكية خارج البلاد، وهو ما أعده المحلل العسكري العبري فشلًا استخباراتيًا لا يقل عما حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2024، لافتًا إلى أن هذا الفشل لم يقتصر على المخابرات الإسرائيلية وحدها، فلم يصدر أي تقرير لأي جهاز استخباراتي في المنطقة أو الغرب تنبأ بما سيحدث في سوريا.
تلك الصدمة أحدثت حالة ارتباك واضحة لدى حكومة الاحتلال، وزرعت العديد من الهواجس لدى الكيان، خاصة بعد تصدر التيار الإسلامي مشهد الثورة، وفق ما أشار إليه رئيس منتدى الدراسات الفلسطينية في مركز ديان بجامعة تل أبيب، مايكل ميلشتاين، في مقاله المنشور بصحيفة “يديعوت أحرونوت“، والذي جاء تحت عنوان “الزلزال في سوريا لا يزال مستمرًا ولا بد من التعلم من أخطاء الماضي”.
وصف ميلشتاين ما يحدث في سوريا بـ”الحدث التاريخي” الذي سيكون له تداعياته على الشرق الأوسط، وسيعيد بشكل أو بآخر ترتيب المشهد وخريطة القوى والتوازنات، ويغير قواعد اللعبة بالإقليم بطريقة ربما تكون جذرية، وهو ما تخشاه “إسرائيل” التي لا تستبعد نقل عدوى سوريا إلى بعض البلدان العربية، خاصة ذات الطوق مع الكيان، أسوة بما حدث في الربيع العربي 2011.
وطالب رئيس منتدى الدراسات الفلسطينية في مركز ديان بجامعة تل أبيب، “إسرائيل” بتوخي الحذر إزاء ما يحدث في سوريا، مضيفًا: “الثوار السوريون مجموعات متعددة ومتناقضة بالمصالح والأفكار، وبعضها إسلامية جهادية، وعليه ليس من المبالغة الافتراض أن سوريا كدولة ستتفكك إلى كيانات منفصلة، أو بشكل أكثر دقة، سيترسخ الوضع المتفكك الذي ميزها منذ أكثر من عقد من الزمن”.
ويعتقد المحلل العبري أن رحيل الأسد وقدوم سلطة جديدة، ذات سمت إسلامي في أغلب فصائلها، خطوة لا تبعث على التفاؤل مطلقًا بشأن الشرق الأوسط الجديد الذي يروج له نتنياهو منذ سنوات، والذي نجح في تحقيق خطوات إيجابية بشأنه، مطالبًا القائمين على صنع القرار في الكيان بتجنب النشوة المشبعة بالشعارات، والتباهي بالإنجازات التي حققتها الحملة العسكرية على الجبهة الشمالية وفي لبنان.
عربدة واستثمار الفوضى.. خلق واقع جديد
اعتاد الكيان المحتل، كغيره من العصابات الاستعمارية على مر التاريخ، توظيف الأوقات التي يكون فيها الخصوم في حالة رخوة، لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب، ومحاولة فرض واقع مختلف بأبجديات مغايرة، وهو ما حدث حرفيًا بعد ساعات قليلة من انهيار نظام الأسد (الحليف غير المباشر)، حيث سلسلة غارات لم تعرفها البلاد منذ بداية حرب غزة قبل أكثر من 14 شهرًا.
واستثمر المحتل الفوضى المرحلية المتوقعة التي تعاني منها الدولة السورية بعد فراغ المؤسسة العسكرية إثر تفكك جيش النظام بعد رحيل الأسد، وغياب المرتكزات الأمنية بشكل كبير عن المشهد، وانشغال المعارضة المسلحة بترتيب البيت من الداخل بعد الفوضى التي أحدثها الانهيار الكبير والهروب الأكبر، للتمدد ميدانيًا من خلال احتلال بعض المناطق واستهداف القواعد العسكرية السورية.
وأثار استهداف طائرات الاحتلال لمخازن الأسلحة والقواعد العسكرية للجيش السوري بعد ساعات قليلة من هروب الأسد، حزمة من التساؤلات المثيرة للشكوك: هل كان الكيان المحتل على علم مسبق بتلك الأماكن؟ إذ ليس من المنطقي أن تكون المعرفة بها بعد انهيار النظام بتلك السرعة، وهنا تساؤل آخر: لماذا لم يضرب المحتل تلك القواعد قبل ذلك طالما على علم بها؟ ولماذا انتظر لما بعد انهيار نظام الأسد رسميًا؟
ويحاول نتنياهو وجيشه من خلال تلك العربدة تحقيق 3 أهداف:
الأول: فرض واقع جديد يعزز به الكيان رقعته الاستيطانية، ويوسع المنطقة الأمنية العازلة مع سوريا، بما يقلل من فرص التهديد الأمني مستقبلًا، خاصة في ظل الضبابية التي تخيم على المشهد بعد رحيل النظام، الذي حافظ على مدار عقود طويلة على حالة الانضباط والهدوء الكامل على الشريط الحدودي بين البلدين، إذ لم يطلق الجيش السوري طلقة واحدة باتجاه الجولان منذ سنوات، سواء في عهد بشار أم والده.
الثاني: ورقة ضغط يمكن توظيفها والتلاعب بها بعد استجلاء الصورة والكشف عن هوية النظام الجديد الذي سيتولى السلطة في سوريا، وموقفه من التصعيد مع الكيان المحتل، وعلى أساس ذلك سيدرس الاحتلال ما إذا كان سيعيد الالتزام بالعمل باتفاقية فصل القوات بين “إسرائيل” وسوريا لعام 1974، أو إبقاء الوضع على ما هو عليه.
الثالث: تأمين الشريط الحدودي من أي اختراقات أو تسلل محتمل، إذ يعاني الاحتلال منذ “طوفان الأقصى” من كابوس لا يفارقه، وهو التسلل الحدودي وتهديد الأمن والاستقرار الداخلي، وفي ظل ثراء المشهد السوري بالفصائل المسلحة الإسلامية، برزت التخوفات من حدوث أي اختراقات حدودية، وتكرار مشهد الطوفان مرة أخرى، وعليه سعى لتوسيع المنطقة الأمنية وتكثيف وجوده العسكري في الجولان، حتى لو كان المقابل خرق الاتفاقيات الأمنية مع سوريا، وهو نفس ما فعله على الشريط الحدودي مع مصر حيث احتلال محوري فيلادلفيا وغلق معبر رفح، وخرق معاهدة السلام مع القاهرة.
إفساد فرحة السوريين.. سياسة “كي الوعي”
أجواء الاحتفاء والفرحة التي تزينت بها شوارع المدن السورية كافة، فضلًا عن مدن العالم التي تحتضن مهاجرين سوريين، بسقوط الطاغية ونظامه، والتكبيرات التي زلزلت الأرض في الداخل والخارج، أغاظت الإسرائيلي بشكل لا لبس فيه، خاصة مع السمت الإسلامي الذي خيم على المشهد الثوري، وهو الكابوس الذي دومًا يؤرق مضاجع الاحتلال.
هذا الدعم الشعبي الهائل للثورة والمعارضة المسلحة بشتى فصائلها، أقلق الكيان المحتل بصورة كبيرة بشأن شكل الدولة السورية مستقبلًا، وهوية النظام المتوقع أن يحكم في ظل تلك الجماهيرية الجارفة والتأييد الكبير، ما دفعه لارتكاب الحماقات المعروفة لمعاقبة السوريين على اختيارهم للثورة وطريق النضال بما فيه من تشعبات عدة، من بينها مقاومة المحتل حتى التحرير لكامل التراب العربي.
المشهد هنا يشبه بصورة كبيرة الأجواء الاحتفالية المصاحبة لـ”طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والدعم الشعبي الهائل لتلك العملية التي زلزلت الكيان الإسرائيلي بصورة لم يعرفها منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو ما دفع المحتل لاحقًا لتبني سياسة “كي الوعي” الفلسطيني ومعاقبة الداعمين للعملية على فرحهم من خلال الإيغال في التنكيل والقتل وحرب الإبادة الإجرامية التي شنها ضد سكان القطاع الذي حوله إلى أرض محروقة، في محاولة لطمس تلك الذكرى من مخيلة الفلسطينيين واستبدالها بالكارثة الإنسانية التي أحدثها.
عربدة إسرائيلية لإفساد فرحة الشعب السوري، وفرض وقائع جديدة.
معالمها القصف الإسرائيلي على مواقع في دمشق، بجانب التوغّل في المنطقة العازلة مع "الكيان".
وزادت العربدة وضوحا بقول أركان جيش الاحتلال إنه بدءا من هذه الليلة يقاتل جيشه داخل سوريا، وأن الأخيرة أصبحت "جبهة قتال".
وفيما… pic.twitter.com/RZxXM9ysYL
— ياسر الزعاترة (@YZaatreh) December 8, 2024
السيناريو ذاته يحاول الإسرائيلي تنفيذه اليوم على الساحة السورية، حيث معاقبة السوريين على دعمهم للثورة والإطاحة بنظام الأسد المستأنس إسرائيليًا، واستبداله بنظام غير معروف الهوية حتى الآن، وذلك من خلال خرق الاتفاقيات واحتلال المزيد من الأراضي وضرب القواعد العسكرية وتحذير سكان الجنوب وفرض إقامة شبه جبرية عليهم، محاولًا إيصال رسالة للسوريين بأن ما يحدث هو أول حلقة في سلسلة العقاب لدعمكم للمعارضة المسلحة والثورة.
المفارقة هنا أنه وبينما تشن طائرات الاحتلال غاراتها على جنوب سوريا، كان الثوار والمعارضة يحتفلون في ساحة الأمويين بوسط دمشق، وكانت كل الشوارع في درعا وحمص وحلب تزخر بعشرات الآلاف من السوريين الفرحين بثورتهم وانتصارهم على الطاغية، وكانت هتافاتهم تعلو فوق صوت رصاص وقاذفات وصواريخ الجيش الإسرائيلي، يقينًا أن ما يحدث على الجبهة الجنوبية رد فعل انتقامي يعكس حالة البؤس وفقدان التوازن التي عليها المحتل بعد رحيل حليفه، وأنها مسألة وقت وستعود الأمور – بعد استرداد سوريا عافيتها – إلى ما كانت عليه.
وجوبية الرد.. رسالة إنذار مهمة
ليست المرة الأولى التي تستهدف فيها قوات الاحتلال الداخل السوري، إلا أنه في المرات السابقة كان المبرر استهداف الوجود الإيراني والفصائل الموالية لطهران والموجودة بسوريا، وهو ما كان يستدعي الصمت الإقليمي في ظل المزاج العام وقتها الذي يميل صوب تقزيم النفوذ الإيراني في المنطقة، وقد تغير الوضع اليوم بعد رحيل الأسد وانهيار النظام وتقليم أظافر الحضور الإيراني سوريًا، ما يعني غياب مبرر الاستهداف كما كان في السابق.
ومن هنا فإن استهداف سوريا اليوم وبهذه الكيفية والسيطرة على أكثر من 11 كيلومترًا في عمق الداخل السوري، هو استهداف للدولة السورية وشعبها وثورتها ومقدراتها دون مواربة، كما أشار المحلل الفلسطيني ياسر الزعاترة، الذي أرجع هدف الاحتلال من وراء تلك العربدة إلى محاولة فرض وقائع جديدة في سياق الأحلام الصهيونية بالهيمنة على المنطقة.
وأشار الزعاترة -كما غيره من المحللين – إلى أن تلك الانتهاكات لا بد من الرد عليها، من جانب المعارضة المسلحة والثوار السوريين أو من الجانب التركي بصفته الداعم الأبرز لفصائل المعارضة السورية، أيًا كانت طبيعة الرد، فلا بد أن يكون هناك موقف يبعث برسالة إنذار للمحتل بعدم الاستثمار في تلك الحالة الرخوة المؤقتة التي عليها المشهد السوري، والكف عن أي تحرشات من شأنها إشعال الجبهة الحدودية بين الطرفين، هذا بخلاف المسؤولية الملقاة على عاتق الحكومات العربية التي يجب عليها التحرك لتلجيم طموحات نتنياهو الذي وضع العرب في مأزق أخلاقي وسياسي فاضح.
نتاجًا لما سبق..
ما يحدث عن الجبهة الجنوبية السورية أمر ربما يكون متوقعًا وليس صادمًا ولا مستغربًا، كما يحاول البعض أن يروج، في ظل العقلية الإسرائيلية الاستيطانية التي يسيطر عليها فكر العصابات الإجرامية، وفي ظل الانهيار الكبير لنظام الأسد وإحداثه الفوضى في البلاد بعد تخليه المتعمد عن كامل مسؤولياته مرة واحدة دون سابق إنذار، وهو ما يفرض تحديات كبيرة على المعارضة، تتطلب مواجهتها سرعة ضبط بوصلة المشهد وترتيب البيت من الداخل وتوحيد الجبهة ووحدة الكلمة ووأد كل بؤر الانقسام وتيسير عاجل لجميع الأمور دون خلل أو إخلال.