لن تنسى الذاكرة العربية والإنسانية أغاني الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم ومصطفى الكرد وأحمد قعبور ومارسيل خليفة وسميح شقير والهادي قلّة والزين الصافي ومحمد بحر. ومن الفرق أيضًا ستتذكر أصحاب الكلمة والحمائم البيض وأولاد بومخلوف وأولاد المناجم، وناس الغيوان وجيل جلالة وغيرهم من رواد الأغاني “الملتزمة”، إن صح تعبيرنا، وستحفظها بدرجة أكثر من ممتاز، لما قدّموه من دور تثقيفي وتوعوي، ولجرأتهم على لمس المحظور ومعانقة الممنوع، فاسحةً المجال أمام نمط جديد من الأغاني التي تحمل نفس المضمون بنفس المعاناة وبنفس الأهداف لكن بطريقة مختلفة، بإيقاع مختلف لتشبه أبناء عصرها، إنه “الراب”.
في الحقيقة تصنيف الراب على أنه فن ملتزم لا يستقيم خاصة وأنه فن التمرد شكلاً ومضموناً بامتياز، ومن غير المنطقي أن نصنّفه كذلك، لكننا هنا نعني بـ”الالتزام” من ناحية تناوله لمواضيع محظورة وطرحه لقضايا عصره وجيله بلا حواجز بلا تعقيدات وبلا رقيب.
كما أنه ليس دقيقًا أيضًا تصنيف أغاني الراب على أساس اجتماعي أو سياسي أو ديني، لأنه أغنية الراب هي أغنية شخصية وموقف شخصي نابع من الأنا المتمردة عند مغني الراب نفسه، والأنا هي كل تلك الأبعاد، فمغني الراب (أو الرابور كما نسميه في المغرب العربي) يمكن أن ينطلق في أغنية من تمجيد الأنا (وهو النوع الأكثر تناولاً)، إلى نقد السياسة، وهو ما حصل في أغنية الجزائري لطفي دوبل كانون، “كيما هك”، ومن الممكن أيضاً أن ينطلق من وضعية اجتماعية كـ”الحرقة” (الهجرة الغير شرعية) لنقد السياسة أيضاً والأمثلة عديدة في ذلك.
إذن، تصنيف الراب المغاربي على أنه اجتماعي وسياسي وعاطفي.. ليس صحيحًا لأن كل أغنية تمس “النظام” بطريقة ما، وإنّ المتأمل في رحلة الراب المغاربي يرى أنه مرّ بثلاث مراحل، مثّلت الثورة التونسية عامل مهم لتحوّله من مرحلة السرّية إلى العلنية، ومن مرحلة التلميح إلى الصدام.
أسباب الانتشار
انتشر الهيب هوب أو ما يعرف بـ”الراب”، ذلك الفن المستورد من الولايات المتحدة الأمريكية ومن أوروبا، تحديداً في المغرب الكبير (تونس والمغرب والجزائر)، في أواخر التسعينات، وذلك بفضل المهاجرين الشباب المغاربة القاطنين بالديار الأوروبية والأمريكية آنذاك. لكنه عرف رواجاً واسعاً مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعية وظهور اليوتيوب، وهو ما أكده الباحث في مجال الموسيقى والمختص في “فن الراب” محمد الدريدي ليبدأ رحلة الصعود والتربع على عرش الموسيقى الأكثر استماعاً بالمنطقة منتصراً بالضربة القاضية على منافسيه في الساحة.
انتصار الراب على الأغنية “الوترية”، بهذه المنطقة، ليس من قبيل الصدفة أو العبث، وإنما لتناوله مواضيع حقيقية واقعية حاملة لرسائل لا تعرف المهادنة ولا النفاق. فقد تحدّث عن عالم الشباب بكلمات متجانسة موحدة القافية وبإيقاع مميز.
ببساطة، وبغض النظر عن التعريفات الكلاسيكية الموجودة على النت، الراب تكلم بلسان الشباب عن الشباب، فتملّكه وكان البديل الأجدر للتعبير عن همومه ومشاغله، فتجاوز اللحن المرتب والكلمات المنمقة، تمرد شكلاً فتجاوز الصدر والعجز نحو قصيدة حرة بلا حدود بلا ضوابط، لاعباً بذكاء كبير على المحسنات البديعية من جرس وطباق وجناس، فأنتجت أغاني خفيفة تفوّق فيها المضمون على الشكل، وإن كان الشكل أحدث جدلاً كبيراً لكنه ليس مجال بحثنا في هذا المقال.
بداية الراب المغاربي
تقول مصادر إنّ الراب بدأ في تونس أواخر التسعينات، ولم نجد ما يثبت صحة ما قيل، لكن الأكيد أنه كان حاضرًا عام 2002 مع محمد بلطي، وانتشر أواخر 2005 مع أغنية “العباد في تركينة” للرابور المهاجر فريد المازني، والتي أعتبرت أول صدام مباشر مع جهاز الشرطة، فانتشرت كالنار في الهشيم، رغم ضعف الإنترنت وقلة استغلال يوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعي في ذلك الوقت، إلا أنها كانت تسمع في أقراص مضغوطة خلسة وعلى انفراد.
قدّم فريد الراب بلا مقدمات وبلا تحضيرات، فكان أوّل رابور يتوجّه مباشرة بالخطاب إلى الشرطة ويبتعد عن أسلوب التّلميح الذي كان يعتمده جلّ الفنّانين. استراتيجيّته كانت واضحة، أي البذاءة (نظراً لاستخدامه كلمات بذيئة في الأغنية) لمحاربة الآلة القمعيّة بنفس الآليّات التي كانت تستخدمها لتركيع الشّباب، وهو ما أكده فريد بعد الثورة في لقائه بإذاعة “شمس أف أم“.
قدّم فريد الراب بلا مقدمات وبلا تحضيرات، فكان أوّل رابور يتوجّه مباشرة بالخطاب إلى الشرطة ويبتعد عن أسلوب التّلميح الذي كان يعتمده جلّ الفنانين.
بالتوازي مع فريد كان هناك محمد بلطي أو “بلطي” اسمه الفني، وهو من أعمدة هذا الفن في تونس إلى اليوم. بدأ في أوائل الألفية مع فرقة “أولاد بلاد”، لينتج أول أغنية له ورغم أنّه لم ينتقد مباشرة النظام ولم يكن نصه صريحاً في ذلك الوقت، إلا أنه كان يطرح مواضيع تهم الشباب كالهجرة والفقر والحقرة والتهميش وأوضاع “الزوالية”. حينها، اعتبر النظام هذه الأغاني مقلقة ما استدعى توقيفه عدة مرات، وهو ما دفع ببلطي بالتطبيع نوعاً ما مع سلطات بن علي وتهذيب نصه، وهو ما أكده في العديد من لقاءاته التلفزيونية وفي حوارته الصحفية، ومنه في حوار “الصحافة اليوم“.
في الجزائر بدأت كل من فرقة “أم بي أس” والفنان “صولو”، بغناء الراب وهما من مهدا الطريق لخلفهم، مثل “كريم لوروا”، والمتربع على عرش الراب اليوم بلا منازع لطفي دوبل كانون، والذي بدأ مشواره أواخر التسعينات مع زميله وهاب. كانت المواضيع تتحدث عن الأوضاع الاجتماعية دون توجيه مباشر للسلطات حينها، غلب عليها طابع السخرية والكريكاتور والنصح والكلاش واستعراض للمعلومات التاريخية والدينية وغيرها من المواضيع التي كانت تنقد سلوكيات الفرد أو المجموعة دون توّجه صريح السلطة.
في المغرب أواخر الثمانينات تقريباً، ظهر القيصر أو أمين بودرار وكوّن فرقة موسيقية تجوّل فيها بالمغرب للتعريف بهذا النمط الجديد من الغناء، وأنتج أول ألبوم سنة 2010، لتتالى التجارب بعده، فظهر مسلم وبيج والحاقد (معاذ بلغوات)، وهو من أبرز قيادي حراك 20 فبراير الذي نقد في أغانيه النظام والملكية فكان مصيره الاعتقال عدة مرات، ومن الفرق مجموعة “Casa Crew” و”L’Bassline، وغيرهم من الأسماء التي ما زالت إلى اليوم في الساحات والميادين تساند حراك الريف المغربي وتتناول العديد من المواضيع التي تهم الشباب.
أثر الثورة التونسية
عاش الراب المغاربي منذ أواخر 2010 حتى الثورة التونسية مرحلة جديدة، فكانت الثورة الفاصل المهم بين مرحلتين في حياة الراب، كما شهد جدلية غريبة عجيبة فلا يمكن الجزم بمن أحدث ثورة في من، هل ثورة الراب هي من أحدثت الثورة التونسية؟ أم العكس؟ لكن ما لا يقبل الجدال أن الراب تحول من مرحلة المهادنة والتلميح إلى مرحلة الفن الثائر الرديكالي الصادم لا يعرف الخوف مليء بالحقد والغضب، فن نابع من الشارع يعكس الشارع.
ولاقت أغنية حمادة بن عمر، الملقب بالجينرال، “رايس البلاد” والمستلهمة أساساً من أغنية الجزائري دوبل كانون “سيدي الرايس” 2004، رواجاً كبيراً لما حملته من رسائل مباشرة لرئيس البلاد في ذلك الوقت زين العابدين بن علي والتي تحدث فيها بوضوح عن استبداد أجهزة الشرطة وعن معاناة الشباب وغيرها من الرسائل التي جعلت من الجينرال من بين أقوى 100 شخصية في العالم بحسب جريدة “التايمز” و”سي إن إن” الأمريكيتين.
بالجزائر أيضاً عرف الراب ثورة متقدمة عن الحراك الذي تعيشه الجزائر اليوم، فتعددت الأسماء على الساحة، ما دفع السلطات الجزائرية للتضييق عليهم لتحكم على دوبل كانون بالنفي خارج البلاد. دوبل كانون، ذلك الرابور الثائر عرفت أغانيه تحولاً لافتاً منذ الانتخابات الجزائرية في 2014، أطلق أكثر من أغنية “الله لا تربحكم” و”سلطة حقارة” و”كلاوها” و”جندي” و”ديما عقابهم”، من خلالها عرى لطفي الفساد السياسي الذي استشرى في نظام عبد العزيز بوتفليقة، كما نقد استلاء أخوه السعيد بوتفليقة على الحكم رافضاً العهدة الرابعة وداعياً إلى تطبيق المادة 102 من الدستور الجزائري والتي تقضي بإقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة المتعرض لجلطة والعاجز عن تسيير البلاد.
بعد الثورة
يعيش اليوم الراب عصره الذهبي في المغرب العربي، فحطم كل أرقام المشاهدة على منصات التواصل، التي باتت تعد بالملايين، فحققت أغنية “ياليلي” للتونسي بلطي أكثر من 550 مليون مشاهدة على يوتيوب، كما تُحقق نظيرتها ملايين المشاهدات اليومية، وعدى عن احتلالها كل الشوارع والحواري وشاشات الإعلام.
مثلّت الثورة التونسية فرصة لهذا الفن للانتشار أولاً ورجوعه إلى دوره الأساسي ثانياً وهو الصدام مع الآخر ومع السلطة بلا قناع، فردّ على عنف الدولة بعنف أقوى، بكلمات لا تعرف الحياد، هدفها تعرية الواقع وكشف قُبح أنظمة أسرفت في التضييق على حريّات أفرادها. فبرز العديد من مغني الراب وظهرت الفرق، على غرار “كلاي بي بي جي” وبسيكو أم وكريم الكونغ وكافون… وهي ليست سوى بعض أسماء من عشرات الأسماء التي تقدم هذا الفن في هذه المنطقة.
ورغم أنّ الرّاب لا يعكس بشكل مخصّص قضايا النساء ومشاغلهن ولكنهن ككائنات مفكّرة يستشعرن خطر السلطة الذي يقمع الجميع. لذا وجدن ملاذاً في هذه الأغاني لإطلاق العنان لغضبهن المكبوت
عالم الذكور
إنّ الجرأة واستعمال الألفاظ النابية جعل من “الراب” بالمغرب العربي، عالمًا ذكوريًا خالصًا فيه عبّر الرابور عن نفسه وعن أفكاره، ولئن غنى عن نفسه فعظّمها وشنّ حروبًا على نظرائه فجابههم بأبشع النعوت ووجّه إليهم أفظع وأشنع الألفاظ فقزمهم، عملاً بقاعدة الراب الأساسية “لا تجاملني فاليوم صديقي وغدًا أنت بيت قصيدي وهجاؤك طريقي”.
لكن مؤخرًا تخلّى العديد من مغني الراب عن اللغة “الحرشة” (الألفاظ النابية)، ما جعل هذا العالم الانفرادي الذكوري يستقطب النساء. ورغم أنّ الرّاب لا يعكس بشكل مخصّص قضايا النساء ومشاغلهن ولكنهن ككائنات مفكّرة يستشعرن خطر السلطة الذي يقمع الجميع. لذا وجدن ملاذاً في هذه الأغاني لإطلاق العنان لغضبهن المكبوت والمُعلن من النظام ومن جهاز الدولة الذي لا هدف له سوى السيطرة على المواطن بغضّ النظر عن النوع الاجتماعي.
ويُشار إلى أنه في الفترة الأخيرة ظهرت أسماء نسائية في هذا الميدان لتتجاوز المرأة مجرد الاستماع للراب وترديده، إلى إنتاج أغانٍ تنافس الراب الذكوري. فظهرت الرابورة (مؤنث رابور) التونسية المهاجرة إيناس ورغم أنها ما زالت في مراحلها الأولى إلا أن أغانيها بدأت في الرواج.
بهذا أصبح الراب فنًا قائمًا، تسيّد عالم الموسيقى في هذه المنطقة، مستغلاً تراجع فناني الأغنية الوترية والعاطفية، فأصبح من ذلك الفن المحظور الممنوع إلى فن يتهافت نحوه فناني الأغنية الوترية والإعلام لجلب أكثر ما يمكن من المشاهدين والمستمعين.
أوجد فن “الراب” في المغرب العربي مكانة هامة لأنه لم يكن غريباً عن أهلها، كما ليس من الغريب أن نراه يومًا يزحف نحو الشرق، خاصة وأنه لم يقطع مع القضايا الإقليمية والعربية، بل هي محور العديد من الأغاني فيه، وإن كانت اللهجة واستعمال كلمات فرنسية قد تؤخر ذلك، لكن من الممكن إيجاد صيغة وتقديم بعض التنازلات من مغني الراب المغاربي لانتشاره شرقاً.