حظي شهر رمضان باهتمام خاص لدى العثمانيين، ليس فقط في عواصمهم ولكن في جميع الولايات العثمانية الأخرى، فكان يتم استقبال هذا الشهر بحماسة شديدة من السلطان ورجال الدولة والمسلمين، بل وغير المسلمين أيضًا الذين يعيشون داخل حدود الدولة العثمانية.
وظهرت العديد من العادات التي مارسها العثمانيون خلال هذا الشهر وحافظوا عليها واستمر بعضها حتى يومنا هذا، وأول هذه العادات هو طقس تعيين الهلال، حيث لم تتوافر إمكانية معرفة موعد رمضان بالحسابات الفلكية مثلما يحدث اليوم، لذلك كانت الدولة ترسل بعض موظفيها ليتابعوا حركة القمر، وبمجرد ظهور الهلال يكافئ القاضي أول شخص رآه، بشرط وجود شاهدَين على ذلك.
ومثلما كانت مظاهر البهجة بحلول شهر رمضان داخل قصر السلطان، كانت تتجلى هذه المظاهر أيضًا في شوارع وأحياء الدولة العثمانية، فكان السلطان يأمر بإنارة الشوارع وتزيينها من أجل استقبال رمضان، وتُزين مآذن الجوامع أيضًا بالقناديل على شكل لافتة تحمل عبارات يتم تغييرها خلال الشهر، مثل “مرحبا رمضان” وتُعرف هذه العادة بـ”المَحْيَا”.
بدأت المحيا منذ عهد السلطان أحمد قبل 450 عامًا، ويُشترط لتعليق المحيا أن يكون للجامع مئذنتان طويلتان. وقد بلغ اهتمام العثمانيون بالمحيا إلى أن مسجد “مهريماه” في أسكودار كان بمئذنة واحدة، فطالب الناس بتعليق المحيا بهذا الجامع فأمر السلطان أحمد الثالث ببناء مئذنة أخرى لهذا الجامع ليتمكن أهل أسكودار من تعليق المحيا على مئذنتيه.
أما قصر السلطان فكان يستقبل التهاني من سفراء الدول الأجنبية بمناسبة حلول شهر رمضان، ويشهد دعوات الصدر الأعظم وكبار باشاوات الدولة في أغلب أيام الشهر، وتحكي الأميرة عثمان أوغلو ابنة السلطان عبد الحميد الثاني، في كتابها “والدي السلطان عبد الحميد” عن الأجواء الرمضانية داخل القصر، إذ تقول:
“كان رمضان ممتعًا في السراي؛ إذ يبدأ الاستعداد له قبل أسبوع، فتجري أمور التنظيف، وتجلب شتى أنواع المشروبات في قوارير ضخمة وألوان من أطعمة الإفطار. وفي الليلة الأولى من الشهر كانت تُقام حواجز الشبك الخشبية المذهبة على كل الإيوانات في الدوائر، وتُفرش سجادات الصلاة، ثم يأتي أغوات الحريم ومعهم إمام واثنان من المؤذنين من ذوي الصوت الحسن، وتُنشد الأناشيد الدينية وتُقام الصلاة. وفي الليل تُفتح الأبواب، وتدخل الصينيات وعليها طعام السحور، ويظل الجميع في حركة دائبة حتى انطلاق مدافع الإمساك. وعند الظهيرة كان يأتي واعظ لكل دائرة، فيلقي وعظه. ومع انطلاق مدافع الإفطار يبدأ الجميع إفطاره بشرب ماء زمزم المباركة، ويجري إعداد أطقم الإفطار، ويشرب الناس عصائر الليمون والفواكه المثلجة، وتتحول دائرة الحريم في السراي خلال شهر رمضان إلى ما يشبه الجامع؛ فالكل مشغول بالعبادة”.
من العادات الخاصة عند سلاطين العثمانيين في رمضان أيضًا، صلاة التراويح على طريقة “إندرون”
وكانت هناك عادات رمضانية أيضًا داخل السراي، ومن أبرز هذه العادات “دروس الطمأنينة” حيث يقوم أحد الشيوخ بإعطاء درس في التفسير، يحضره السلطان وبعض المقربين منه، وكانوا يعرفون بـ”المُخَاطَبُون” ويسمى الشيخ الذي يعطي هذه الدروس بـ”المُكرِّر”، واستمرت هذه العادة حتى عهد السلطان عبد المجيد.
وهناك عادة مهمة أيضًا حافظ عليها سلاطين بني عثمان في رمضان، ألا وهي زيارة القسم المعروف في قصر طوب كابي بـ”خرقة السعادة” في اليوم الـ12 من رمضان. يحتوي هذا القسم على بعض الأمانات المقدسة مثل سيف النبي وأثر قدمه وقوسه وشعرات من لحيته، وبعض أغراضه الشخصية، بالإضافة إلى سيوف الخلفاء الراشدين، وغيرها من الأمانات المقدسة، وكانت تُغسل غرفة “البردة الشريفة” بماء الفضة قبل هذه الزيارة.
ومن العادات الخاصة عند سلاطين العثمانيين في رمضان أيضًا، صلاة التراويح على طريقة “إندرون”، وقد ذكر مفتي أنقرة، محمد سونماز أوغلو، في حديثه إلى وكالة الأناضول:
“طريقة إندرون كانت تُعقد في القصور العثمانية، وأن أول من بدأها هو الملحن العثماني الشهير حمامي زاده إسماعيل. وتقام هذه الصلاة على شكل ركعتين أو أربع ركعات، يتخللها دروس التفسير وتناول بعض المشروبات وقراءة القصائد الدينية. تبدأ الصلاة برفع الأذان بصوت ولحن واحد، وتُقام الصلاة على مقام الرصد ثم تُقرأ الفاتحة وأجزاء من القرآن على مقام الرصد أيضًا في صلاة العشاء. وفي أول ثلاث ركعات على مقام أصفهان ثم ينتقل إلى مقام الصبا في الركعة الرابعة، وينتقل الإمام في نهاية ثاني الركعات الأربع إلى مقام الحسيني، وفي الركعة الأخيرة من هذا القسم ينتقل إلى مقام أفيج، وبعد التسليم تتلى أناشيد وصلوت نبوية في نفس المقام، ويتم الانتقال بعدها إلى مقام عجم شيران وتختتم التراويح بهذا المقام”.
وجدير بالذكر أن رئاسة الشؤون الدينية التركية قرّرت إحياء هذه العادة العثمانية من جديد، وطُبقّت بالفعل في رمضان الماضي بمسجد الأمة في المجمع الرئاسي، وقد صارت دار الإفتاء بالعاصمة أنقرة تنظم برامج تراويح “إندرون”.
من ضمن العادات الرمضانية العثمانية، ما ذكره الباحث باقي ساريساكال، وهي ما تُعرف بـ”دفتر الذمم”، حيث يزور أحد الأثرياء حيًا من الأحياء الفقيرة ويذهب مثلاً إلى البقال أو القصاب ويطلب منه الدفتر الذي يقيد فيه ديون أهل هذا الحي ثم يسدد ديون أحد الدفاتر بشرط ألا يكون على معرفة بأصحابها
كان اهتمام السلاطين العثمانيين ورجال الدولة يتزايد في شهر رمضان أكثر من أي وقت آخر، فكما ذكر الباحث التركي نور الله مصيرلي أوغلو، كان يُمنع فرض أي زيادة في الأسعار خلال رمضان، وكان السلطان يقوم بمتابعة أخبار الناس عن قرب، وهناك العديد من الروايات عن سلاطين كانوا يبدلون ثيابهم ويتخفون وينزلون إلى الأسواق لمراقبة الأسعار بأنفسهم.
رجال الدولة والأثرياء كانوا يتسابقون أيضًا على مساعدة المحتاجين، بحيث تكاد تنعدم الفوارق الطبقية في شهر رمضان، فأقاموا ما يُعرف في زماننا هذا بـ”موائد الرحمن”، حيث كانت تُمدّ الموائد في الميادين الكبيرة وفي قصور الأغنياء ويأتي المحتاجون إلى الإفطار، وبعد الإفطار يعطي صاحب القصر الهدايا للمحتاجين وكانت تُعرف هذه العطايا مجازًا باسم “أجرة الأسنان”.
ومن ضمن العادات في هذا السياق أيضًا، ما ذكره الباحث باقي ساريساكال، وهي ما تُعرف بـ”دفتر الذمم”، حيث يزور أحد الأثرياء حيًا من الأحياء الفقيرة ويذهب مثلاً إلى البقال أو القصاب ويطلب منه الدفتر الذي يقيد فيه ديون أهل هذا الحي ثم يقوم بسداد ديون أحد الدفاتر بشرط ألا يكون على معرفة بأصحابها.
ومثلما كان يحظى الشعب باهتمام خاص من السلطان في رمضان، كان الجيش في رمضان الدولة العثمانية يحظى باهتمام خاص أيضًا، فكان يتم دعمهم معنويًا بما يُعرف بـ”موكب البقلاوة”، حيث كانوا يذهبون إلى السراي ويأخذ قائد كل مجموعة صينية بقلاوة ويسلمها إلى عشرة جنود ويحتفلون جميعًا أمام القصر.
من بين العادات الرمضانية التي استمرت في تركيا حتى الآن، عادة إيقاظ الناس لتناول السحور من خلال دق الطبول وإلقاء بعض الرباعيات من الأشعار الشعبية، ويقوم بذلك شخص يدعى الـ”ضافولجو”، وهو الذي صار يُعرف في العالم العربي بـ”المسحراتي”
وكان مسلمو الدولة العثمانية يعلّمون أبناءهم الصيام عن طريق الترغيب والتشويق، فيجعلون الأطفال يصومون حتى الظهيرة، وكانت تُعطى الهدايا للأطفال الذين يصومون للمرة الأولى. وتجلت المظاهر الرمضانية في قطاعات عديدة داخل الدولة، فمثلاً كانت تُغلق المدارس العثمانية في رمضان، ويتم إرسال من يتم اختيارهم من الطلبة إلى مناطق مختلفة من أراضي الدولة العثمانية، بهدف تعليم الناس أمور دينهم.
وللتسلية وقتها أيضًا في شهر رمضان، حيث كانت تخصص أوقاتًا في المساء للترفيه، ويذهب الأطفال إلى سماع الحكايات من الراوي، ومشاهدة الـ”قره جوز” أو ما صار يُعرف لاحقًا بـ”الأراجوز”، واستمرت هذه العروض طوال الليل حتى السحور.
وأخيرًا، من بين العادات الرمضانية المستمرة منذ الفترة العثمانية وحتى اليوم في الدولة التركية هي إيقاظ الناس لتناول السحور، من خلال دق الطبول وإلقاء بعض الرباعيات من الأشعار الشعبية، ويقوم بذلك شخص يدعى الـ”ضافولجو”، وهو الذي صار يُعرف في العالم العربي بـ”المسحراتي”، حيث كان لكل حي شخص يقوم بهذه المهمة، ويعطيه الناس إكرامية في آخر الشهر. من الجدير بالذكر أن بعض البلديات التركية الآن، تقوم تصدر تراخيص للمسحراتية وتعطيهم راتبًا عن عملهم طوال شهر رمضان.