في محاولة لاحتواء الموقف المشتعل في السودان قبل أن يصل مرحلة الانفجار بين المجلس العسكري الانتقالي المتشبث بالسلطة عقب الإطاحة بعمر البشير، والمعارضة المتمسكة بتحقيق مطالبها التي على أساسها قامت ثورتها ويأتي على رأسها مدنية الحكم، تدخلت لجنة للوساطة في محاولة لحلحلة الأزمة.
تقدّمت اللجنة بمقترح للمجلس وقوى إعلان “الحرية والتغيير” لتجاوز خلافاتهما بشأن إدارة المرحلة الانتقالية. المقترح تضمّن تشكيل مجلس سيادي قوامه 7 مدنيين و3 عسكريين، برئاسة رئيس المجلس العسكري الانتقالي ونائبان، أحدهما عسكري والآخر مدني، بحسب مراسل وكالة “الأناضول” في الخرطوم.
تضمّن المقترح اختصاص المجلس بالسلطات السيادية كما ورد في الإعلان الدستوري، وكذلك تشكيل مجلس تحت مسمى “الأمن والدفاع القومي” يتكوّن من 7 عسكريين و3 مدنيين بحكم عضويتهم في مجلس الوزراء، وهم: رئيس الوزراء ووزيرا المالية والخارجية، على أن يتبع جهاز الأمن للمجلس الذي يختص بكل شؤون الدفاع والأمن ويرأسه رئيس المجلس العسكري.
لجنة الوساطة التي ضمّت عددًا من الشخصيات العامة على رأسها الخبير الإعلامي محجوب محمد صالح ورجل المال والأعمال أسامة داوود والناشط في منظمات المجتمع المدني نصر الدين شلقامي، التقت رئيس المجلس العسكري عبد الفتاح البرهان وأطلعته على المقترحات التي وعد بدراستها وفق ما أوردته وكالة الأنباء السودانية، “سونا“.
يأتي هذا المقترح في وقت تصاعدت فيه حدة التوتر بين الطرفين، المجلس والمعارضة، إثر تشبّث كل طرف بمطالبه، الأمر الذي زاد معه منسوب القلق بشأن ما تحمله الأيام القادمة من تطوّرات، في ظل إصرار السودانيين على مواصلة الاعتصام مقابل رفض العسكر تسليم الحكم لمجلس مدني.
المعارضة: لن نرفض الوساطة
في أول رد فعل من المعارضة على المقترح المقدم من لجنة الوساطة قال المتحدث الرسمي باسم قوى إعلان الحرية والتغيير أمجد فريد إنه ليست هناك حاجة إلى وساطة في مفاوضاتهم مع المجلس العسكري، مشيرًا إلى أن مفاوضاتهم تتم مباشرة، إلا أنه في الوقت ذاته كشف أن قوى التغيير ليس لديها مشكلة في هذا المقترح طالما لم يتعارض مع مبادئها المعلنة.
وأعرب فريد عن تفاؤله بشأن مستقبل مسار المفاوضات، لافتًا إلى أن هناك بوادر إيجابية من المجلس العسكري تكشفت مع تقديم وثيقة الإعلان الدستوري مؤخرًا، مبديًا استعداد التجمع لفتح مسارات للقطارات في أوقات معينة بالاتفاق والتنسيق مع هيئة السكة الحديد لإيصال المواد للولايات.
وفيما أثير بشأن وجود خلافات داخل القوى المعارضة بخصوص كيفية التعاطي مع المرحلة المقبلة، كشف المتحدث الرسمي باسم قوى إعلان الحرية أن موقف جميع التيارات واحد، ومواقفهم التفاوضية واضحة، وأنها طرحت إعلانًا دستوريًا واضحًا وتملك طرقًا للحل. مبينًا أن الخلافات بين مكوّناتها أمر طبيعي نتيجة للرؤى والأفكار، مضيفًا: “نحن حريصون على تطبيق بنود ميثاقنا ولدينا هياكل ووسائل داخلية لطرح كيفية تطبيقه”.
يذكر أن قوى المعارضة قدّمت ما سمّته “الوثيقة الدستورية” للمجلس العسكري في القصر الرئاسي بعد ظهر الخميس الماضي، تضمّنت إعادة نظر في النقاط الخلافية المثارة بين الطرفين خلال الآونة الأخيرة، على رأسها المجلس السيادي الذي اقترحت هذه المرة أن يكون مناصفة بين المدنيين والعسكريين.
وتنص الوثيقة كذلك على أن تكون مدة الفترة الانتقالية أربع سنوات بدءًا من تاريخ دخول الدستور الانتقالي حيز التنفيذ، كما تضمنت كذلك تشكيل مجلس وزراء انتقالي يتكون من 17 وزيرًا بحد أقصى تختارهم قوى الحرية والتغيير، على أن يتولى هذا المجلس صلاحية “إعلان الطوارئ ووضع السياسة العامة للدولة”.
المقترح تطرق إلى تعيين أعضاء السلطة التشريعية الانتقالية البالغ عددهم 120 يكون بالتوافق بين القوى الموقعة على إعلان الحرية والتغيير، ويُراعى تمثيل القوى المشاركة في التغيير في عضوية المجلس التشريعي.
“المجلس العسكري الانتقالي بالسودان لن يقبل بأغلبية من المدنيين في أي مجلس مؤقت لتقاسم السُّلطة” صلاح الدين عبد الخالق
المتحدث باسم قوى التغيير رشيد سعيد في تعليقه على الوثيقة قال إنها قابلة للتعديل وليست نهائية، مضيفًا في مؤتمر صحفي: “نحن قدمناها لطرف آخر وننتظر أن يبدي رأيه حولها”، فيما أوضح عضو التحالف المعارض خالد عمر يوسف أن “هياكل الحكم المدني لن يتم تشكيلها إلا في حضور ومشاركة القوى الحاملة للسلاح”، مؤكدًا أنها لن تقصى وستكون جزءًا أصيلاً من أي تكوين قادم.
أما ساطع الحاج أحد قياديي المعارضة وعضو التحالف، فأوضح أن الوثيقة نصت على تكوين مجلس سيادي مشترك “مدني عسكري” بصلاحيات محددة يتم إتخاذ القرار فيه بموافقة ثلثي الأعضاء، على أن يتكون مجلس الوزراء من رئيس ونائب مهمته الجوانب التنفيذية في الحكومة الانتقالية، نافيًا وجود حالة شد وجذب مع المجلس العسكري ووصف ما يحدث بأنه “حوار حقيقي” للوصول إلى الديمقراطية وقال “ربما تظهر عقبات هنا وهناك لكن الروح السائدة طيبة بين الأطراف”.
استمرار المواكب والحشود الداعمة لقوى المعارضة
العسكري: الأغلبية للمدنيين خط أحمر
وفي الجانب الآخر، أبدى المجلس العسكري مرونة إيجابية في تعاطيه مع الوثيقة بحسب تصريحات أعضاء قوى المعارضة، وكما جاء على لسان عضو المجلس الفريق أول صلاح الدين عبد الخالق فإنها لا تزال قيد الدراسة من المجلس، وقوى الحرية والتغيير ستتسلم ردًا مكتوبًا حال الانتهاء من دراستها.
وفي السياق ذاته رفض عبد الخالق منح أغلبية المقاعد في المجلس السيادي الانتقالي للمدنيين، في الوقت الذي اعتبر فيه أن مبدأ المناصفة قد يكون الأقرب إلى التطبيق، مضيفًا في تصريحات لـ”بي بي سي“: “المجلس العسكري الانتقالي بالسودان لن يقبل بأغلبية من المدنيين في أي مجلس مؤقت لتقاسم السُّلطة”، مشددًا على أن ذلك “خط أحمر”.
Black list#اعتصام_القيادة_العامة#تسقط_ثالث pic.twitter.com/Spz6jQxMEC
— Mohammed Elbsam (@ElbsamMohammed) May 2, 2019
في 25 من أبريل الماضي تقدم المجلس العسكري برؤيته حيال كيفية إدارة المرحلة الانتقالية التي تضمنت احتفاظه بالسلطة السيادية في البلاد، وتولّي مدنيين لرئاسة مجلس الوزراء وكامل السلطات التنفيذية، حسبما جاء على لسان المتحدث باسم المجلس الفريق شمس الدين كباشي.
هذه الرؤية رفضتها قوى الحرية والتغيير معتبرة إياها مماطلة لعدم تسليم السلطة للمدنيين، الأمر الذي تصاعدت معه دعوات الحشد والاعتصام أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة، فضلاً عن المواكب اليومية من شتى الولايات تزامنًا مع استمرار المسار التفاوضي مع المجلس.
المجلس العسكري الانتقالي يرفض منح السلطة للمدنيين
توتر وتصعيد
شهدت الأيام الماضية تصعيدًا غير مسبوق في منحنيات التوتر بين الطرفين رغم الوصول إلى تفاهم مبدئي لتحديد ملامح الفترة الانتقالية، عقب 3 جولات تفاوضية خاضها الطرفان، إذ سيطرت مشاعر فقدان الثقة على الأجواء العامة فضلاً عن تبادل الاتهامات بشأن مسؤولية كل طرف عن تعقيد المشهد.
المعارضة اتهمت المجلس بعدم الجدية في تسليم الحكم، وذلك وفق بيان لتجمع المهنيين السودانيين على “فيسبوك” قالت فيه: “الجيوش لم تكوَّن في يوم من الأيام لتستلم السلطة أو تتمهل في القصور، فالجيوش بطبيعتها هي لحماية الشعوب ولصيانة حدود الأوطان من الأعداء، وأي فصلٍ في فصول كتاب التاريخ ذُكر فيه قعود الجيوش في كراسي الحكم، كان متبوعًا بفصلٍ يحكي عن أنهار الدماء ويروي عن طبائع الاستبداد”. واعتبرت جولات التفاوض التي خاضها العسكر مع المعارضة لا تعدو كونها محاولة منه للبحث عن “شرعنة نفسه ونظامه عبر إلباس الحكم العسكري طابعًا مدنيًا مزيفًا”.
يهدف المجلس العسكري من وراء هذه المماطلة كسب المزيد من الوقت، مراهنًا على عدم قدرة المعتصمين على التحمل، وهي الورقة الأكثر ضغطًا عليه الآن
ويواصل الثوار ضغوطهم على المجلس المدعوم من السعودية والإمارات ومصر بمزيد من التصعيد الشعبي واستمرار الاعتصام واستخدام الطرق السلمية في التعبير عن رفضهم لمزيد من العسكرة، الأمر الذي يضع المجلس في موقف حرج داخليًا وخارجيًا، غير أن الأمور من الواضح أن تستمر على هذه الشاكلة لفترة طويلة، بحسب ما أشارت إليه أميرة ناصر، الصحفية المصرية المتخصصة في الملف السوداني.
أوضحت ناصر لـ”نون بوست” أن المجلس العسكري يهدف من وراء هذه المماطلة كسب المزيد من الوقت، مراهنًا على عدم قدرة المعتصمين على التحمل، وهي الورقة الأكثر ضغطًا عليه الآن، لافتة أنه في حال فض الاعتصام بأي طريقة من الطرق، بالقوة كان أو بالتراضي، سيصبح للمجلس الكلمة العليا بعد ذلك، ولن يجرؤ أحد على مقاسمته للسلطة.
وأضافت أن استمرار الاعتصام طيلة شهر رمضان وما بعده سيمثل ضغطًا كبيرًا على المجلس الذي يستمد قوته من بعض العواصم العربية التي ترى في بقائه الأمل في عدم انتقال عدوى الثورة لها من جانب، وتثبيت أركان نظام عسكري يخدم أهدافها داخل إفريقيا من جانب آخر.
وعلى الأرجح.. ورغم حالة التفاؤل التي سادت الأجواء عقب جلسات الحوار بين المجلس العسكري والمعارضة، فإن تباين وجهات النظر بشأن تمثيل كل طرف في المجلس السيادي وحجم الصلاحيات الممنوحة له سيطيل من أمد الأزمة التي يراهن كل طرف فيها على سياسة النفس الطويل في مواجهة الطرف الآخر.