في التاسع والعشرين من أبريل الماضي، وقُبيل ما يعتبره الإسرائيليون “يوم الاستقلال”، نشرت صحيفة هآرتز الإسرائيلية افتتاحية استثنائية جاء فيها:
“إنّ فرادة المحرقة كأفظع جريمة على الإطلاق لا يجب أن تدفع إسرائيل إلى تجاهُل الجرائم التي حلّت بشعوبٍ أخرى. تجاهل إسرائيل كوارث الآخرين، خشيةَ أن يحجب اعترافٌ كهذا تميّز المحرقة، يمسّ بعلاقاتها الخارجية (في الحالة الأرمنيّة)، أو يلقي عليها المسؤولية (في الحالة الفلسطينية). لكنّ إسرائيل لا تستطيع إقصاء كارثة الفلسطينيين من الوعي التاريخي لمواطني إسرائيل. إنه الوجه الثاني لعُملة إنشائها”.
افتتاحية الصحيفة الإسرائيلية رغم أنها جاءت ردا على “تعزية” الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) للإسرائيليين في ذكرى المحرقة النازية، وصف فيه المحرقة أنها “الجريمة الأبشع في تاريخ البشرية”، إلا أنه يُعد واحدا من الآراء الشاذة التي بدأت وتيرتها في التصاعد داخل المجتمع الإسرائيلي في الفترة الأخيرة.
هآرتز قالت إن نتنياهو استقبل تصريح عباس ببرود، واصفا التعزية أنها فقط لإرضاء المجتمع الدولي، في حين أنه -أي نتنياهو- يستغل المحرقة دوما في تحفيز الرأي العام الإسرائيلي تجاه أجندته السياسية الخاصة، خاصة إزاء إيران مثلا.
كما قالت الصحيفة إن “المسؤولية الإسرائيلية عن الجرائم التي حدثت، سيقررها المؤرخون، لكن هذا لا ينفي أن كارثة بشعة حلت بالفلسطينيين.”
لا تطلب المقالة من إسرائيل أن تتحمّل مسؤولية “هجرة، تهجير، واقتلاع مئات الآلاف الفلسطينيين من أراضيهم”، بل مجرّد الاعتراف رسميًّا بحقيقة أنّ كارثة وطنيّة وإنسانيّة حلّت بالفلسطينيّين. “إنها كارثة تستوجِب الاعتراف والتدريس، ليس فقط لفهم دوافع القيادة الفلسطينية السياسية والدبلوماسية حين تأتي لمفاوضتنا، بل أيضًا كجزءٍ من واجبٍ حضاريّ وإنسانيّ”. لهذا السبب، دعت هآرتز إلى إضافة تدريس النكبة إلى الكتب الدراسيّة الإسرائيلية، وكذلك إلى تنظيم جولات في القُرى الفلسطينية المدمَّرة.
التعليقات على المقالة، رغم قلتها، إلا أن غالبيتها كان مؤيدا لرأي الصحيفة، فشكر “بن آلوفس” الصحيفة على ذلك، ودعا معلق أطلق على نفسه اسم “مراقب” السياسيين للبدء “الآن وليس غدا في الاعتراف بالنكبة، لأن التسامح يجب أن يكون من كلا الطرفين”
نشرت هآرتز بعد ذلك بنحو أسبوع، مقالة من باحث إسرائيلي متطرف يُدعى “شلومو أفينيري”، قال إن المقالة أغفلت ذكر كلمة “هروب” مشيرا إلى أن الفلسطينيين هربوا “كتداعيات للواقع المعقد للحرب”.
فضلًا عن ذلك، انتقد أفينيري الصحيفة لتجاهُلها الهجوم العربي رفضا لقرار التقسيم، قال “ما يُدعى نكبةً هو نتيجة قرار سياسي اتخذته القيادة الفلسطينية والدول العربية برفض قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة، إذ حاولت منع تنفيذه بقوّة الذراع، وهاجمت السكّان اليهود في البلاد، وبعد ذلك دولة إسرائيل. لا حديث عن ذلك أبدًا في المقالة”. ويستمر الرجل في انتقاداته للصحيفة قائلا إنها تتبنّي نظرة “الضحيّة”، مبررا الجرائم التي حدثت بأن الفلسطينيين ليسوا ضحايا وأنهم مسؤولون عن أفعالهم وعن أفعال قادتهم.
هذا الحوار هو مثال واضح على حديث متزايد في السنوات الماضية في إسرائيل حول النكبة. فمجرّد اعتراف إحدى الصحف الكبرى في دولة الاحتلال بشكلٍ جليّ بالنكبة ودعوتها الحكومة الإسرائيلية إلى فعل ذلك أمر غير معتاد على الإطلاق، حتّى لو كانت الصحيفة محسوبة على اليسار. لأنه حتى سنوات قليلة مضت، لم يتطرّق إلى “النكبة” سوى العرب وحدهم، إذ كان ذلك أشبه بأمرٍ محظور يُمنَع الاقتراب منه داخل دولة الاحتلال.
ويمكن القول -وبشكل محايد للغاية إن صح ذلك- أن إنكار “النكبة” يُعد هروب مفهوم من اعتراف يشكّل تهديدًا للهوية الإسرائيلية بحدّ ذاتها، وحتّى لمُستقبل دولة الاحتلال. فالاعتراف الإسرائيلي بالنكبة من شأنه تحويل المعارضة الشديدة داخل إسرائيل لحقّ العودة الفلسطيني إلى إشكاليّة من الناحيتَين الأخلاقية والقانونيّة على مستويين: شرعية المقاومة عالميا، باعتبارها تستند إلى حق أصيل للشعب الفلسطيني المنكوب، وحتى تغيير توازن القوى في المفاوضات، إذا استُؤنِفت.
ربما كان هذا هو السبب الذي يجعل أقلية من الإسرائيليين فقط تُطالِب بالاعتراف بالنكبة والتضامُن مع معاناة الشعب الفلسطيني، يقول معلقون إسرائيليون إنها أقلية متطرفة و”سخيفة”. تسعى هذه الأقلية إلى مواجهة النظام الإسرائيلي “الفاشي” لكونه غير مستعدّ للاعتراف بمُعاناة الآخَر (سواء الفلسطينيين أو اللاجئين الأفارقة الذين تسلّلوا إلى إسرائيل). وللأسباب السابقة فإن مستوى الجدية التي يتعامل بها الإسرائيليون، معها ومع مطالبها، متدنٍ للغاية.
هذه الأقلية تجد صدى بين العديد من الشباب داخل الأراضي المحتلة، ففي عدّة أماكن يجري إحياء يوم النكبة بمراسم وتظاهُرات يُشارك فيها مواطنون إسرائيليون عرب ويهود. يوم الأحد الماضي، على سبيل المثال، أٌقيمت في جامعة تل أبيب تظاهُرة خاصّة لإحياءً لذكرى النكبة، شارك فيها نحو 300 طالب عربيّ ويهوديّ. وقد رفعوا صورًا لأقرباء لهم، وقرؤوا شهادات لفلسطينيين هُجّروا من بيوتهم أو اقتُلعوا من قُراهم خلال حرب 1948. وأكّدوا: “بدأت كارثة الشعب الفلسطيني عام 1948، ولا تزال مستمرّة حتى اليوم”.
لكن على الجانب الآخَر من الشارع، تظاهر مقابلَهم طلّاب جامعيّون يهود ضدّ إحياء ذكرى النكبة. وقد رفعوا أعلام إسرائيل. قال أحد منظّمي التظاهرة المضادّة إنهم يعارضون إحياء النكبة “لأن هؤلاء ينوحون على إنشاء دولة إسرائيل. دعونا نذكُر الوقائع: العرب هم الذين رفضوا خطّة التقسيم، هم الذين بدأوا الحرب، ولا يزالون يسعَون إلى إبادتنا. نحن هنا لنحارب من أجل الحقّ”.
منظمي التظاهرة المضادة ينتمون لحركة “إم ترتسو” (إن أردتم)، وهي منظّمة يمينيّة تعمل، وفق تعريفها، “على تعزيز قِيَم اللصهيونية في إسرائيل”. وتعمل المنظّمة منذ سنوات ضدّ الاعتراف بالنكبة الفلسطينية، “. يدّعي كُتيب أصدرته الحركة، أنّ “النكبة” هي تلفيق فلسطيني، جالبًا شهادات تاريخيّة على مغادرة الفلسطينيين طوعًا وبشكل منظَّم بين عامَي 1947 و1949، متّهمًا الفلسطينيين وقادتَهم بالتسبّب بما يدعونه “نكبة”، ومشدّدًا على التعاوُن بين الفلسطينيين والنازيين إبّان الحرب العالمية الثانية، وكذلك على طرد اليهود من الدول العربية.
الخُلاصة هي أنهم يعارضون الاعتراف بالنكبة، بكلّ وضوح. وهم يدّعون أيضًا أنّ الاعتراف بالنكبة يُناقض الصهيونية وأسس الهوية الإسرائيلية، ويهدّد وجود إسرائيل، ولذلك، فإنّ الاعتراف بالنكبة، حسب رأيهم، ليس أقلّ من خِيانة.
صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية نشرت مقالا قبل عدة أيام قالت فيه إن أكثر من 58٪ من الإسرائيليين يؤيدون قطع المساعدات الحكومية عن هؤلاء الذين يعترفون بالنكبة الفلسطينية، هذا الأمر ربما لا يعبر عن نسبة “المعترفين بالنكبة” داخل إسرائيل بالضرورة، لكنه يشير إلى التوجهات اليمينية التي يتبناها معظم اليهود في إسرائيل.
الأمر إذن ليس بسيطا على الإطلاق، الإسرائيليون منقسمون وإن كانت الغالبية تنزع إلى عدم الاعتراف بما يدحض شرعية الاحتلال.