في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، شهدت كوريا الشمالية مجاعة مروّعة، على خلفية تفكك الاتحاد السوفيتي ودول المعسكر الشرقي الأوروبية. أودت المجاعة بحياة مئات الآلاف، إن لم يكن الملايين، وأصبح الأطفال يهيمون على وجوههم في الطرقات يتسولون ويسرقون، ما أجبر الحكومة على اللجوء إلى إجراءات غير عادية، مثل طلب تقديم مساعدات الغذاء من المجتمع الدولي.
بعد عقود من هذه الأزمة، تواجه الدولة الشيوعية الواقعة في شرق آسيا فقرًا مزمنًا في إنتاج المحاصيل الزراعية، حيث كشف أحدث تقرير للأمم المتحدة على نحو مقلق انخفاضًا في إنتاج الغذاء ومحدودية في التنوع الغذائي واضطرار الأسر إلى تقليص الوجبات أو تناول كميات أقل، حيث ضربت الكوارث الطبيعية البلاد التي كانت بالفعل تحت طائلة العقوبات الدولية بسبب برنامج الأسلحة النووية.
يأتي التقرير الصادر مؤخرًا بعد شهرين تقريبًا من القمة الثانية التي جمعت في العاصمة الفيتنامية هانوي، بين الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وقبل أيام من إعلان ترامب تأييده لاحتمال عقد قمة ثالثة مع كيم الذي أبدى استعداده للقاء نظيره الأمريكي إذا جاء إلى المفاوضات “بموقف سليم”.
حينها ذكر ترامب في تغريدة له على تويتر أن لدى كوريا الشمالية إمكانات هائلة لتحقيق نمو عظيم ونجاح اقتصادي بقيادة كيم، مضيفًا أنه يتطلع إلى اليوم الذي يكون من المستطاع فيه رفع العقوبات المفروضة على بيونغ يانغ بسبب أسلحتها النووية ورؤية كوريا الشمالية تتحول إلى واحدة من أنجح الدول في العالم.
كوريا “النووية” في مواجهة نقص الغذاء
توصل تقييم الأمن الغذائي الصادر عن الأمم المتحدة يوم الجمعة إلى أن 10 ملايين شخص تقريبًا في البلد الشيوعي، أي 43% من إجمالي السكان البالغ عددهم نحو 25.2 مليون نسمة، يحتاجون إلى مساعدات إنسانية، وهذا العدد يزيد بـ600 ألف شخص عن العام الماضي، بما يعني أنهم لا يملكون ما يكفي من الغذاء حتى موسم الحصاد القادم، الأمر الذي يزيد مخاطر سوء التغذية والأمراض.
في الوقت الذي تزداد فيه أعداد المحتاجين إلى المساعدات الإنسانية تُضطر الأمم المتحدة إلى خفض عدد الذين تستهدف تقديم المساعدات إليهم من 6 ملايين إلى أقل من 4 ملايين شخص بسبب نقص التمويل
وذكر التقرير المعني بالحاجات والأولويات في 2019 أن إجمالي إنتاج المحاصيل الزراعية في كوريا الشمالية انخفض بنسبة 9%، وبلغ في العام الماضي نحو 5 ملايين طن، أي أقل بنصف مليون طن عن عام 2017، وهو أدنى معدل خلال أكثر من عقد من الزمان، وأدَّى إلى أزمة غذائية كبيرة.
وخلص التقييم – الذي يستند إلى بعثات منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة “الفاو” وبرنامج الأغذية العالمي إلى كوريا الشمالية في الشهر الماضي وفي نوفمبر 2018 – إلى أن انخفاض الحصاد، إلى جانب الخسائر المتزايدة ما بعد الحصاد، أدى إلى عجز غذائي بلغ 1.36 مليون طن بعد الأخذ في الاعتبار قدرة الاستيراد التجارية للبلاد.
ورغم أن كلمة “المجاعة” لم يتم استخدامها في الأزمة الحاليّة، لكنها قد تصل إلى ذلك في غضون بضعة أشهر أو سنوات، بحسب المتحدث باسم برنامج الأغذية العالمي هيرف فيرهوسيل، الذي ذكر أن حصص الإعاشة الرسمية تصل إلى 300 جرام – أقل من 11 أوقية – للشخص الواحد في اليوم، وهي أدنى نسبة على الإطلاق في هذا الوقت من العام.
وبالإضافة إلى الظروف المناخية غير المواتية بعد أسوأ محصول منذ 10 سنوات بسبب موجات الجفاف وموجات الحر والفيضانات، كان للإمدادات المحدودة من المدخلات الزراعية مثل الوقود والأسمدة وقطع الغيار، تأثير سلبي كبير بسبب العقوبات الدولية التي تهدف إلى دفع الرئيس الكوري إلى التخلي عن برنامج الأسلحة النووية.
الأراضي الزراعية التي ضربها الجفاف في كوريا الشمالية
لسنوات طويلة اعتمدت كوريا الشمالية على الإمدادات المعتادة من المساعدات الغذائية للأمم المتحدة، لكن المفارقة أنه في الوقت الذي تزداد فيه أعداد المحتاجين إلى المساعدات الإنسانية تُضطر الأمم المتحدة إلى خفض عدد الذين تستهدف تقديم المساعدات إليهم من 6 ملايين إلى أقل من 4 ملايين شخص بسبب نقص التمويل.
وفي كثير من الأحيان يتسم رد فعل العديد من دول العالم لمواجهة مجاعة كوريا الشمالية بالبطء والحذر مخافة أن تساهم المساعدات في تقوية النظام الكوري الشيوعي الاشتراكي الذي يتصف بالتحدي والإصرار على امتلاك برنامج نووي عسكري ولا يفتأ يهدد جارته كوريا الجنوبية التي تتبع النظام الرأسمالي.
وتعد خطة مساعدة كوريا الشمالية واحدة من الخطط الإنسانية الأقل تمويلاً، فقد تم تأمين 24% فقط من الأموال التي طلبت الأمم المتحدة جمعها العام الماضي، وهو ما حدا بمنظمة “الفاو” إلى تصنيف كوريا الشمالية، في ديسمير/كانون الأول الماضي، ضمن 40 دولة، منها 34 دولة في إفريقيا، تحتاج لمساعدات خارجية لتوفير الغذاء لشعبها.
نموذج فيتنام وإغراءات الولايات المتحدة
تعاني كوريا الشمالية منذ عقود من نقص حاد في الغذاء في مواجهة نظام الحصص التموينية للدولة المختلة وظيفيًا والعقوبات الدولية المفروضة على برامجها النووية والصاروخية التي تبطئ شحنات المساعدات وتتسبب في تفاقم الوضع وتجعل المناطق الريفية الفقيرة أكثر عرضة بشكل خاص لخطر انعدام الأمن الغذائي.
وفي العام الماضي، دعت بيونغ يانغ إلى “معركة شاملة” ضد “موجة حرارة غير مسبوقة” وحذّرت بعثتها إلى الأمم المتحدة في نيويورك الشهر الماضي من أزمة الغذاء، كما ذكرت شبكة الأخبار الأمريكية “NBC” في وقت سابق من هذا الشهر أنها حصلت على مذكرة كتبها سفير كوريا الشمالية لدى الأمم المتحدة تدعو إلى تقديم مساعدات غذائية عاجلة.
لا يتفق الجميع على أن الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون يمكنه تحقيق ما حققته فيتنام دون التخلي عن قبضته القوية على السلطة
جاء ذلك بعد أن أعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسيف”، أن نحو 60 ألف طفل يواجهون خطر المجاعة في كوريا الشمالية، وقالت إنها تسعى لجمع 16.5 مليون دولار في العام الحاليّ لتوفير تغذية وخدمات صحية وماء لشعب كوريا الشمالية، لكنها ذكرت أنها تواجه “تحديات في عملياتها” بسبب السياق السياسي المتوتر و”العواقب غير المقصودة” للعقوبات.
ومع تضييق الخناق على كوريا الشمالية، تتحدث الولايات المتحدة كثيرًا عن إصلاحات السوق الناجحة التي قامت بها فيتنام كتجرية يمكن لكوريا الشمالية التي تديرها حكومة شيوعية من حزب واحد الاستفادة منها إذا تخلت عن أسلحتها النووية، لكن لا يتفق الجميع على أن الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون يمكنه تحقيق ما حققته فيتنام دون التخلي عن قبضته القوية على السلطة.
عندما زار وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو فيتنام في يوليو الماضي، خاطب كوريا الشمالية مباشرة في أثناء حديثه عن اقتصاد البلد المضيف كأحد أسرع الاقتصادات نموًا في العالم، قائلاً إن بلاده “تؤمن بإمكانية أن تحذو بيونغ يانغ حذو هانوي نحو تطبيع العلاقات مع واشنطن وتحقيق الرخاء”.
وفي مقارنة بين الدولتين، أظهرت فيتنام تحولًا ملحوظًا من ويلات عقدين من الحرب التي انتهت عام 1975، وساعدها في ذلك برنامج تحرير اقتصادي بدأ بعد عقد من الزمن، وشمل تخفيف اللوائح والقيود الحكومية على الاقتصاد لزيادة مشاركة الكيانات الخاصة.
صور لأيقونات الشيوعية كارل ماركس وفلاديمير لينين بجانب قمصان في محل في هانوي
اليوم، أكبر مدنها – تشي منه وهانوي – تعج بالدراجات ومحلات السوبر ماركت والحانات والمطاعم، حيث تدعم الأسواق المفتوحة وقطاع التصنيع النابض بالحياة الاقتصاد سريع النمو، وتصدر الصين فقط المزيد من الهواتف المحمولة، في حين أن فيتنام لديها عدد من الأجهزة المستخدمة أكثر من عدد الأشخاص.
على النقيض من ذلك، تعاني كوريا الشمالية من أزمة نقص الغذاء التي تفاقمت بسبب الكوارث الطبيعية والعقوبات الدولية التي فرضتها القوى العالمية بسبب برنامجها النووي وبرنامج الصواريخ الباليستية، التي كان آخرها ما أعلنته الولايات المتحدة من عقوبات جديدة على 9 كيانات و16 شخصًا و6 سفن كورية شمالية اتهمتهم بدعم برامج الأسلحة.
عزلت العقوبات المالية الدولة الآسيوية عن الغرب كما عزلتها عن معظم التجارة العالمية، لكن على الرغم من أن عقوبات الأمم المتحدة تستثني من الناحية الفنية الأنشطة الإنسانية، فإن المساعدات الإنسانية إلى الشمال توقفت تقريبًا العام الماضي بسبب حظر المعاملات المصرفية والشحن مع بيونغ يانغ، وكذلك فرض حظر على سفر المواطنين الأمريكيين، وفقًا لما ذكره عشرات المسؤولين في الأمم المتحدة والمنظمات المدنية الأمريكية.
إصلاحات كيم تسببت في تعطش بين الكوريين الشماليين لمزيد من الأشياء التي يمتلكها جيرانهم في كوريا الجنوبية الغنية والصين وما وراءها
في عهد كيم، الذي تولى السلطة بعد وفاة والده في أواخر عام 2011، اتخذت كوريا الشمالية خطوات جديدة نحو الإصلاح الاقتصادي من خلال السماح للناس بتداول السلع الأساسية مثل المنتجات الزراعية، وفي العام الماضي، قال كيم إن البلاد ستحوّل تركيزها إلى التنمية الاقتصادية بدلاً من الانتشار النووي لأنها حققت أهدافها في مجال الأسلحة.
لكن إصلاحات كيم تسببت في تعطش بين الكوريين الشماليين لمزيد من الأشياء التي يمتلكها جيرانهم في كوريا الجنوبية الغنية والصين وما وراءها، وبحسب أستاذ الاقتصاد والمجتمع في شرق آسيا بجامعة فيينا روديجر فرانك، قد يكون تلبية هذه التوقعات الجديدة أمرًا بالغ الأهمية للبقاء طويل الأجل لسيطرة كيم على السلطة، مما قد يؤدي به إلى تسريع خطته للتحول الاقتصادي.
تجارب صاروخية لا توقفها أزمة الغذاء
كان كيم وترامب قد التقيا للمرة الأولى في يونيو/حزيران 2018 في سنغافورة، حيث وقعا إعلانًا وصف بالغامض عن “نزع الأسلحة النووية في شبه الجزيرة الكورية”، واختتمت القمة الثانية في هانوي من دون أي تقدم يُذكر بشأن هذا الملف.
ورغم الحديث عن اقتراب خطر المجاعة، وبعد يوم واحد من صدور تقرير الأمم المتحدة، استيقظ العالم صباح اليوم السبت على إطلاق كوريا الشمالية “قذائف قصيرة المدى” مجهولة النوع من شبه جزيرة هودو قرب مدينة وونسان الساحليّة، في اتّجاه الشمال الشرقي، في خطوة هي الأولى من نوعها منذ أكثر من عام، وتأتي في ظل تعثّر المفاوضات مع بيونغ يانغ حول نزع سلاحها النووي منذ 3 أشهر.
وفي إشارة محتملة لإحباط بيونغ يانغ المتزايد من المحادثات الدبلوماسية المتوقفة مع واشنطن بهدف تقديم تخفيف مطمئن للعقوبات مقابل نزع السلاح النووي، أفادت القيادة العسكرية العليا في كوريا الجنوبية في بيان الصواريخ حلّقت على ارتفاع 70 إلى 200 كيلومتر فوق بحر اليابان.
يأتي ذلك بعد أيام قليلة من تحذير بيونغ يانغ للولايات المتحدة من “نتيجة غير مرغوب فيها” إذا لم تعدل موقفها بحلول نهاية العام، وهو ما جاء على لسان نائبة وزير الخارجية الكوري الشمالي تشوي سون هوي، التي قلت يوم الثلاثاء الماضي إن “قرارنا على صعيد نزع السلاح النووي لا يزال ساريًا وسنطبقه عندما يحين الوقت”، لكنها أضافت أن “ذلك لن يكون ممكنًا إلا إذا أعادت الولايات المتحدة النظر في حساباتها الحالية وأعادت صياغتها”.
يبدو أن كيم قرر أن يذكر العالم والولايات المتحدة على وجه التحديد، بأن قدراته على صعيد الاسلحة تزداد يومًا بعد يوم
من جهته، عزز جيش كوريا الجنوبية مراقبته في حالة وجود عمليات إطلاق أسلحة إضافية، وتقوم سلطات كوريا الجنوبية والولايات المتحدة بتحليل التفاصيل، في رسالة تشير إلى أن كوريا الشمالية قد تعود إلى وضع المواجهة السابق إذا لم يكن هناك انفراج في هذا الطريق المسدود.
إذا تم التأكد من أن كوريا الشمالية أطلقت صواريخ باليستية محظورة، فسيكون هذا أول إطلاق منذ اختبار صواريخ باليستية عابرة للقارات في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، وشهد ذلك العام سلسلة من اختبارات الأسلحة القوية على نحو متزايد من كوريا الشمالية وردًا عدوانيًا من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي كان للكثيرين في المنطقة مصدر خوف للحرب.
وبغض النظر عن نوع المقذوفة التي أطلقت، فإن توقيت الإجراء الأخير لكوريا الشمالية بعث برسالة بعد القمة الفاشلة بين كيم وترامب في فبراير/شباط الماضي عندما اختلف الاثنان بشأن تفكيك الأسلحة وتخفيف العقوباتن ويبدو أن كيم قرر أن يذكر العالم والولايات المتحدة على وجه التحديد، بأن قدراته على صعيد الاسلحة تزداد يومًا بعد يوم، كما يقول مدير الدراسات الكورية في مركز “ناشونال إنترست” للدراسات في واشنطن هاري كازيانيس.
وسبق أن أعلنت بيونغ يانغ في نوفمبر/ تشرين الثاني وأبريل/نيسان عن اختبار “أسلحة تكتيكية” بدون كشف أي تفاصيل إضافية. وكانت هذه أول تجربة أسلحة يعلن عنها الشطر الشمالي منذ دخوله في مفاوضات مع الولايات المتحدة حول برامجه العسكرية في 2018، غير أن نظام كوريا الشمالية امتنع حتى الآن عن اختبار صواريخ بالستية أو أسلحة نووية، ما سيعني وقف التقارب الجاري مع سيول وواشنطن بصورة نهائية.