كما أنه موسم للطاعات والتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة فهو كذلك الموسم الأبرز على مدار العام للتسابق الدرامي، حيث يقدم الجميع أفضل ما لديه في ماراثون يحمل من المنافسة والندية ما يجعله قبلة للباحثين عن الشهرة والنجومية وتحقيق الأرباح وحصد الجوائز المتعددة.
تتميز الخريطة الدرامية الرمضانية في مصر مقارنة بالدول العربية الأخرى بالثراء والتنوع، فضلًا عما تؤصله من مرتكزات فنية محورية تؤثر بشكل كبير على مستقبل المنظومة الفنية، ليس في أرض المحروسة فقط، بل في مختلف دول المنطقة التي تجد في مصر وسوريا قبلتا الدراما العربية.
ورغم الريادة الفنية لمصر دراميًا خلال العقود الأخيرة فإن الوضع هذا العام ربما يكون مختلفًا، فبعد سبع سنوات من الثراء الفني الذي صاحب ثورة 25 يناير 2011 شاب الموسم الدرامي العديد من التحوّلات التي ربما تعيد النظر في العديد من المفاهيم المتعلقة بالريادة والتفوق.. فما الذي تخبرنا به خريطة الدراما الرمضانية المصرية هذا العام؟
تراجع وغياب
الملفت للنظر منذ الوهلة الأولى في خريطة الدراما هذا العام تراجع عدد الأعمال المعروضة مقارنة بالسنوات الماضية، إذ لم يتجاوز العدد 25 مسلسلًا على الأكثر وهو أقل من النصف في السنوات الثلاثة الأولى من الثورة (2011-2012-2013) حيث تجاوز عدد المسلسلات وقتها 40 مسلسلًا في العام.
الأمر لم يتوقف عند تراجع عدد الأعمال فحسب، بل تجاوز ذلك إلى خروج بعض الفنانيين – دائمي الحضور في المواسم الرمضانية – عن ماراثون هذا العام، على رأسهم الفنان عادل إمام الذي حرص على الوجود طوال السنوات السبعة الماضية رغم حالته الصحية، إذ تأجل عرض مسلسله “فالنتينو” دون إبداء أسباب.
هذا بخلاف الفنان عمرو يوسف الذي توقف العمل بشكل مفاجئ في مسلسله “القضية 36″، وعلل ريمون مقار منتج المسلسل، التوقف نظرًا لضيق الوقت وعدم الاستعداد للتسويق، كذلك غياب رانيا يوسف وغادة عادل إثر تأجيل عرض عملهم الدرامي “مملكة إبليس” رغم الانتهاء منه دون معرفة الأسباب الحقيقية وراء هذا القرار.
علاوة على ذلك، تأجل عرض مسلسل “الضاهر” للفنان محمد فؤاد الذي يقدم فيه دور ضابط جيش، ورغم ما أثير عن هذا العمل من تساؤلات فإن الأمور وصلت في نهاية الأمر إلى تأجيل بثه نظرًا لوجود بعض التعديلات التي لم تنتهِ بعد بحسب بعض الفنانيين المشاركين في العمل.
ومن الفنانيين الذين خرجوا من الماراثون الرمضاني هذا العام يسرا بمسلسل “بيت العيلة”، ونيللي كريم بمسلسل “النصابين” بجانب العديد من المخرجين والعاملين خلف الكاميرات في سابقة لم تحدث على مدار السنوات الماضية.
الفنان عادل إمام على رأس الغائبين عن الماراثون الرمضاني هذا العام
الإنتاج الخليجي.. كلمة السر
الملاحظة الثانية التي كشفتها خريطة هذا العام هي تزايد إنتاج الدراما الخليجية ومشاركة العديد من الفنانيين المصريين فيها، إذ بلغ عدد الأعمال الدرامية الخليجية في رمضان 2019 قرابة 22 مسلسلًا، يغلب عليها الطابع الكوميدي والاجتماعي، بمشاركة العديد من الفنانيين من مختلف دول العالم.
لم تنجح الدراما الخليجية في اجتذاب الممثلين الخليجيين والعرب وفقط، بل استقطبت عددًا ليس بالقليل من الممثلين المصريين الذين فضلوا المشاركة في الأعمال الخليجية مقارنة بنظيرتها المصرية، على رأسهم الفنان بيومي فؤاد الذي يلعب دورًا مهمًا في المسلسل الاجتماعي الكويتي “سبعة أبواب”.
غياب الفنانين العرب عن الدراما المصرية مرتبط بانخفاض أعداد المسلسلات وتقليص ميزانيات الإنتاج، فنجوم الصف الأول منهم مكلفون ماليًا باعتبارهم قامات فنية لها جمهورها العريض ما يجعل الإنتاج الخليجي أفضل لهم.. الناقد الفني طارق الشناوي
كذلك تشارك الفنانات أحلام الجريتلي ورانيا منصور ونيرمين ماهر، في مسلسل “دفعة القاهرة” الكويتي، للكاتبة هبة مشاري حمادة والمخرج علي العليّ، أما بدرية طلبة فتشارك في المسلسل الخليجي الكوميدي “أنا عندي نص” للمخرج منير الزغبي، بينما يشارك حسن حسني وحسام داغر أيضًا في الجزء الثامن من المسلسل السعودي “شباب البومب”.
يلاحظ تصدر الكويت الدول الخليجية الأكثر إنتاجًا للأعمال الدرامية في رمضان هذا العام، إذ بلغ عدد المسلسلات التي أنتجت بأموال كويتية قرابة 12 عملًا، مقدمتها “سبع أبواب” و”وما أدراك ما أمي” و”دوحان” و”أمنيات بعيدة” و”عذراء” و”حضن الشوك”.
وعن أسباب هرولة الممثلين المصريين للعمل في الدراما الخليجية، أرجع النقاد ذلك إلى قلة العمل في مصر بجانب اتجاه شركات الإنتاج إلى تخفيض الأجور، وهو ما أشار إليه الناقد الفني طارق الشناوي بقوله “غياب الفنانين العرب عن الدراما المصرية مرتبط بانخفاض أعداد المسلسلات وتقليص ميزانيات الإنتاج، فنجوم الصف الأول منهم مكلفون ماليًا باعتبارهم قامات فنية لها جمهورها العريض ما يجعل الإنتاج الخليجي أفضل لهم”.
بطولة نسائية
يبدو أن القائمين على أمور الدراما في مصر يلتزمون حرفيًا بتوجيهات القيادة السياسية، ففي الوقت الذي تعزف فيه السلطات المصرية على أوتار تعزيز مكانة المرأة في المجتمع واعتبار العام الماضي عام المرأة، تسابق الكثير منهم في ترجمة هذه التوجيهات إلى واقع عملي من خلال المسلسلات الرمضانية.
شهدت خريطة رمضان الدرامية هذا العام بطولة نسائية مطلقة لما يزيد على 7 مسلسلات رئيسية، في سابقة لم تحدث قبل ذلك، بل على العكس، لطالما واجه القائمون على الفن في مصر انتقادات حادة لتراجع دور المرأة في الأعمال وتقديمها في صور ربما تسيء إليها في بعض الأحيان.
فتخوض الفنانة ياسمين صبري بطولتها الأولى في مسلسل “حكايتي” للمخرج أحمد سمير فرج الذي تدور أحداثه حول قصة صعود “داليدا” التي تحارب عائلتها من أجل السعي خلف شغفها بعالم تصميم الأزياء، كذلك الفنانة إيمي سمير غانم التي تخطو أولى خطواتها المنفردة في عالم الدراما بـ”سوبر ميرو” للمخرج وليد الحلفاوي، وتؤدي خلال الأحداث دور بطلة خارقة تمتلك قدرات غير عادية.
أما مي عز الدين فاختارت أن تعود للبطولة مرة أخرى بعد غياب طويل عبر بوابة الكوميديا في مسلسل “البرنسيسة بيسة” للمخرج أكرم فريد، وهو الحال ذاته مع الفنانة حورية فرغلي التي تشارك فيفي عبده بطولة مسلسل “مملكة الغجر”، بجانب بطولة دينا الشربيني لمسلسل “زي الشمس” الذي يعتمد على الإثارة والتشويق، مثلها مثل الفنانة ياسمين عبد العزيز في مسلسل “لآخر نفس” للمخرج حسام علي.
بطولة كوميدية للفنانة مي عز الدين في مسلسل”البرنسيسة بيسة”
زيادة جرعة الكوميديا
على عكس السنوات السابقة التي كانت تسيطر فيها السياسة على معظم الأعمال الدرامية، جاءت الجرعة الكوميدية هذا العام بكثافة غير مسبوقة، الأمر الذي ربما يعكس طبيعة المرحلة، حيث مساعي إبعاد الشارع عن السياسة بعدما حققت الأعمال الدرامية الأعوام الماضية أهدافها بنجاح.
فبجانب جرعات الإثارة من جانب والحزن من جانب آخر، تصدرت الكوميديا المشهد بصورة كبيرة، فالبداية كانت مع مسلسل “فكرة بمليون جنيه” الذي يلعب فيه الفنان الشاب علي ربيع دور البطولة المُطلقة للمرة الثانية على التوالي في الموسم الرمضاني، بجانب شقيقه في مسرح مصر الفنان مصطفى خاطر من خلال مسلسل “طلقة حظ”، الذي يُجسّد فيه شخصية “عبد الصبور” الموظف الحكومي البسيط الراعي لأسرته المكونة من عدة أشقاء وزوجته وبناته.
ثم تأتي مي عز الدين بثوبها الكوميدي الجديد عبر مسلسل “البرنسيسة بيسة” حيث تُجسّد فيه شخصيتين، الأولى فتاة شعبية، تعمل في مجال الأفراح، أما الشخصية الثانية، فهي الجدة التي تعيش معها، وبشكل كوميدي تفرض إتاوات على أهل المنطقة، هذا بجانب مسلسل “سوبر ميرو” الذي تجسد فيه إيمي سمير غانم دور الصحفية الخارقة.
ثم يأتي مسلسل “الواد سيد الشحات ” للفنان أحمد فهمي ومشاركة هنا الزاهد، الذي تدور أحداثه حول شاب فقير يتزوج من فتاة غنية، ويتعجّب الناس من هذا الزواج، وفي النهاية الجرعة الكوميدية الدسمة التي يقدمها الفنان الشباب كريم محمود عبد العزيز في مسلسله “شقة فيصل”.
سيطرة شركة “سنيرجي للإنتاج الفني” المملوكة للمنتج تامر مرسي على معظم الأعمال المعروضة هذا العام، إذ إن هناك 15 عملًا من أصل 25 من إنتاج الشركة، أي ما يتجاوز 65% من إجمالي الإنتاج الفني لهذا الموسم.
احتكار الإنتاج الدرامي
في يوليو 2015 قالت الدكتورة عزة هيكل عضو المجلس التخصصى للتنمية المجتمعية، إن الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال اجتماعه بالمجلس أعرب عن استيائه من تركيز الأعمال التليفزيونية في رمضان على تجارة المخدرات والزنا والسحر، ناقلة عنه إنه كان ينتظر أن ترصد الأعمال الدرامية بطولات المصريين من الجنود الذين يدافعون عن الوطن.
وعلى مدار الأعوام الثلاث الماضية تمحورت المسلسلات الرمضانية حول شخصية رجل الشرطة والجيش بصفتهما البطل الأول في المشهد، لكن يبدو أن هذا التوجه بصيغته الحاليّة لم يكن على المستوى المطلوب، فالدراما الموجهة وحدها لم تحقق الهدف المنشود، ومن ثم بدأ التفكير في إحكام السيطرة على منافذ الإنتاج الدرامي لفرض الهيمنة الكاملة على الخريطة ومخرجاتها.
المنتج تامر مرسي صاحب شركة “سنبرجي للإنتاج الفني”
وبنظرة سريعة على خريطة الإنتاج الدرامي خلال موسم رمضان الحاليّ يلاحظ سيطرة شركة “سنيرجي للإنتاج الفني” المملوكة للمنتج تامر مرسي على معظم الأعمال المعروضة هذا العام، إذ إن هناك 15 عملًا من أصل 25 من إنتاج الشركة، أي ما يتجاوز 65% من إجمالي الإنتاج الفني لهذا الموسم.
أما على مستوى التوزيع، فتمتلك شركة “إعلام المصريين” كبرى القنوات الفضائية، وتتحكم من خلالها في فرض شروطها الخاصة للتعاقد على عرض وتوزيع الأعمال التليفزيونية.
وبالعودة إلى ملكية هاتين الشركتين، “سنيرجي” و”إعلام المصريين” كُشف أنهما يخضعها لسيادة شركة إيجل كابتال للاستثمارات المالية، التي هي في الأساس عبارة عن صندوق استثمار مباشر مملوك لجهاز المخابرات العامة المصرية الذي يسيطر على معظم القنوات الفضائية والمواقع الصحفية الحاليّة، وفق موقع “مدى مصر“
وفي المجمل.. يبدو أن الدراما التليفزيونية المصرية وقعت خلال الأعوام القصيرة الماضية تحت السيطرة المباشرة للسلطات الحاكمة، سواء فيما يتعلق بمنافذ الإنتاج أم وسائل العرض، الأمر الذي معه لم يعد هناك صعوبة في تفسير التغيرات التي انتابت الخريطة الدرامية الرمضانية هذا العام والأعوام السابقة.