في أواخر عام 2012، توفي 60 شخصًا في باكستان بعد تناول دواء السعال وكشفت آنذاك التحقيقات أن الأدوية تحتوي على الكميات الصحيحة من المكونات المصنعة منها ولكنها كشفت شيئًا آخر أيضًا لم يكن من المفترض أن يكون موجود وهو ليفرميتورفان، وهي مادة كيميائية أقوى 5 مرات من المورفين، وحينها عُرف سبب الوفاة المباشر.
تكررت المأساة في العام التالي، حين أُدخل 44 طفلًا إلى المستشفى في باراغواي بعد أن عانوا من مشاكل في التنفس، إلى أن وجد المحققون أن الأطفال تناولوا دواءً محليًا للسعال من نفس العلامة التجارية التي تسببت في الوفاة في باكستان. عقب ذلك، أدركت منظمة الصحة العالمية خطورة هذا المكون الذي تم بيعه إلى بلدان متعددة في أوروبا وشمال إفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وسعت إلى سحبه من هذه الأسواق قبل أن يصل إلى المرضى ولكنها فشلت في تتبع الشحنات التي ذهبت إلى دول الشرق الأوسط.
في هذا التقرير نستعرض قصة هذه الصناعة المبنية على الزيف والوهم، ونذكر كيف تسببت في إيذاء وقتل الآلاف من الضحايا في الدول النامية وكيف تسعى السلطات للحد من انتشار سمومها.
ما الأدوية المزيفة؟
تُسمي منظمة الصحة العالمية هذه المنتجات الطبية بـ”الأدوية متدنية النوعية” أو “المزورة” أو “المغشوشة” التي غالبًا ما يصعب كشف حقيقتها المؤذية لأنها تبدو مطابقة للمنتج الأصلي بشكل شبه دقيق، كما أنها قد لا تتسبب بأي ضرر أو أذى واضح ولكنها تفشل في علاج المريض، فقد يمكن ألا تحتوي هذه العقاقير على أي مكون خاطئ أو سام ولكنها في نفس الوقت لا تحتوي على أي عنصر فعال.
تُنتج هذه المنتجات في ظروف رديئة للغاية وينتجها عاملون غير مؤهلين، وتشمل الأدوية التي تدهورت جودتها من التخزين غير السليم أو مع انتهاء الصلاحية
جدير بالإشارة إلى أن النوع الأخير ليس بريئًا أو أقل خطورة من النوع الأول، لأنه عندما يتم استخدام أقراص مزيفة لعلاج مرضى القلب أو السرطان وغيرها من الأمراض التي تحتاج إلى رعاية صحية دقيقة، ولم يكن بها أي عنصر نشط أو فعال من العناصر التي كان من المفترض أن تحتويه، فيعني أن الأمراض تُركت لتأخذ مجراها، ما قد يؤدي لاحقًا إلى مضاعفات يصعب التحكم بها.
واحدة من محاضرات تيد الشهيرة عن مخاطر الأدوية المزيفة
وبحسب المنظمة، فعادةً ما تُنتج هذه المنتجات في ظروف رديئة للغاية وينتجها عاملون غير مؤهلين للعمل الطبي، وتشمل الأدوية التي تدهورت جودتها من التخزين غير السليم أو مع انتهاء الصلاحية، ومنعًا لتفشي منتجاتها، أسست المنظمة نظامًا عالميًا للترصد والرصد، بهدف تشجيع الدول الأعضاء على الإبلاغ عن هذه المنتجات، وحتى عام 2018، تم الإبلاغ عن أكثر من 920 منتجًا طبيًا.
أين توجد؟ وكم يستفيد مُصنعوها؟
وفقًا للمنظمة، فإن 11% تقريبًا من مجمل الأدوية المباعة في الدول النامية مغشوشة، مشيرةً إلى أنها مسؤولة عن جزء كبير من وفيات الأطفال الناجمة عن الملاريا والالتهاب الرئوي بشكل سنوي، وقد حددت عدد الوفيات من الالتهاب الرئوي ما بين 72 ألفًا و169 ألف طفل كل عام، إلى جانب ذلك، وجد مجموعة من العلماء البريطانيين أن الأدوية الخاصة بعلاج الملاريا والعدوى البكتيرية تشكل 65% من الأدوية المغشوشة.
يقدر حجم مبيعات الأدوية في هذه البلدان بنحو 300 مليار دولار سنويًا، ما يعني أن حجم تجارة الأدوية المزيفة يبلغ نحو 30 مليارًا
ومن الصعب الكشف بدقة عن أماكن صناعتها ووجودها لأن عملياتها تجري في الخفاء، ولكنها دون شك تصنع في الكثير من البلدان، فلا يوجد أي بلد لم تمسه هذه المشكلة، فعلى الرغم من انتشارها بكثرة في الدول الفقيرة، فإن توافر معداتها ومكوناتها في كل مكان سهل من عملية إنتاجها وتوزيعها لا سيما مع دخول شبكة الإنترنت إلى الساحة وظهور التجارة الإلكترونية التي حولت هذه الصناعة إلى سوق عالمية لا حدود لها وبعيدة عن القوانين التنظيمية والرقابية، إذ تشير التقديرات إلى أن 50-80% من الأدوية التي تسوق وتباع عبر شبكة الإنترنت منتجات مغشوشة.
ومع ذلك تفيد المنظمة بأن البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، وخاصة الواقعة في مناطق النزاعات والأزمات، تعاني بصورة أكبر من النظم الصحية البالية ولذلك تتحمل أعباء سموم هذه الصناعة بشكل أكبر من غيرها، مثل الهند والفلبين التي وجدت دراسة استقصائية فيها أن 8% من الأدوية التي يتم شراؤها فيها وهمية وغير فعالة، وبصفة عامة، يقدر حجم مبيعات الأدوية في هذه البلدان بنحو 300 مليار دولار سنويًا، ما يعني أن حجم تجارة الأدوية المزيفة يبلغ نحو 30 مليارًا.
كشف مركز الحق في الدواء أن حجم الأدوية المزيفة في مصر يصل إلى 12 مليار جنيه
أما فيما يخص المنطقة العربية تحديدًا، فتهدد هذه الأزمة حياة الملايين في مصر من خلال الأدوية التي يتم ترويجها على مواقع الإنترنت والأسواق الشعبية، إذ قال أعضاء بنقابة الصيادلة أن حجم هذه الصناعة لا يقل عن 10% من حجم سوق الدواء في مصر، فيما أشار المركز المصري للدراسات الدوائية والإحصاء إلى أن حجم هذا القطاع وصل إلى 15%، وفي الجهة الأخرى رفع المركز المصري هذه النسبة إلى 20%.
يعود ذلك أولًا إلى غياب الرقابة ومراكز البحوث المسؤولة عن مراجعة وفحص العقاقير الموجودة في السوق، إلى جانب ارتفاع أسعار بعض الأدوية التي دفعت بعض المصريين إلى الاستعانة بالأدوية الأقل تكلفة، وعدا عن عدم التزام أماكن البيع بتواريخ الصلاحية وقوانين التخزين التي من شأنها الحفاظ على جودة وفعالية الأدوية.
تأخرت منظمة الصحة في كشف هذه المشكلة خوفًا من “انهيار ثقة المستهلكين بالأدوية” وفضلت تجاهلها وبالتالي ظلت الإجراءات والجهود الدولية قليلة أمام أعداد الوفيات
ومن غير المتوقع أن تتراجع هذه الصناعة، لا سيما في ظل وجود المستفيدين، إذ كشف مركز الحق في الدواء أن حجم الأدوية المزيفة في مصر يصل إلى 12 مليار جنيه، كما أن المشكلة تزداد سوءًا في جميع أنحاء العالم أيضًا، فقد وجدت إحدى الشركات في عام 2018 نحو 95 منتجًا مزيفًا في 113 دولة، بزيادة 29 دواءً مغشوشًا في 75 دولة في عام 2008.
جزء من هذه المشكلة يقع على منظمة الصحة العالمية التي تأخرت في كشف هذه المشكلة خوفًا من “انهيار ثقة المستهلكين بالأدوية”، فبدلًا من أن تبادر إلى حلها والحد منها، فضلت تجاهلها وبالتالي ظلت الإجراءات والجهود الدولية قليلة أمام أعداد الوفيات والأمراض التي تفاقمت، مسببةً أكثر من مليون حالة وفاة سنويًا، من بينها 250 ألف طفل.