كانت وما زالت وظيفة الأدب الرئيسية عكس الواقع وسبر أغوار النفس البشرية ولفت الأنظار إلى الأشياء المنسية والمبهمة في العالم، وغيرها من الأمور التي تزداد توسعًا باتساع الحياة ومشكلات الإنسان، وكان لاختلاف أهداف وأشكال الكتابة الأدبية تنوع في الشكل والمضمون الأدبي سواء على الصعيد العالمي أم الصعيد المحلي.
ولأن الأدب العربي أقل تطورًا ولحاقًا بمجريات الأمور العالمية على الساحة الأدبية، فغالبًا لا تصل إلينا كل أشكال الأدب إلا متأخرة ولا يتم تصنيفها من الأساس، وقد حدث ذلك بالفعل، إذ لم يظهر الأدب السوداوي إلا في العشر سنوات الأخيرة، وهو الأدب الكئيب اليائس الذي يحبطنا ويكئبنا على الدوام، وتنبع كآبته من كآبة الواقع وحقيقته، فهنالك فارق كبير بين قراءة رواية حزينة ورواية سوداوية، فالفارق ليس في درجة الحزن بل في مدى الصدق في الواقع وتعريته للحقيقة التي يرفض الكثيرون كشفها، كما أن الأدب السوداوي نوع أكثر شمولًا وإدراكًا لأشكال أخرى من الأدب مثل أدب السجون وأدب الديستوبيا وأدب الانتحار وأدب ما بعد الثورة.
مما يستمد الأدب السوداوي بشاعته؟
يقول الناقد الأمريكي توم بيسيلل: “الكاتب العظيم يصرّح بالحقيقة حتى إن كان لا يرغب بذلك”، وتلك فكرة الأدب السوداوي، الأدب الذي يتحدث عن الآلام الموجعة والقاسية في حياة البشر أو في حياة أحدهم، فالأديب السوداوي هو الأديب الساخط الغاضب المشمئز الحزين المتضجر على الدوام من الواقع والحياة.
الأدب السوداوي هو نوع أكثر شمولًا وإدراكًا لأشكال أخرى من الأدب مثل أدب السجون وأدب الديستوبيا وأدب الانتحار وأدب ما بعد الثورة
وهذا النوع من الكتابات موجود بقوة وكثرة في الكتابات العالمية، فنجد أن أدباء مثل كافكا وفيرجينيا وولف وساراماغوا وغيرهم الكثيرين كتبوا في هذا النوع من الأدب، لا رغبة في أن تكون كتاباتهم سوداء وكئيبة بل لأن الواقع الذي فُرض عليهم والحياة القاسية التي تكبدوا عنائها انعكست على ما يكتبون.
أدب مستمد من قسوة الحياة
تقول أناييس نين الكاتبة الأمريكية: “دور الكاتب ليس قول ما يمكننا قوله جميعًا، بل ما لسنا قادرين على قوله” وهو أحد مبادئ الكتابة بشكل عام، فمن ضمن أهداف الكتابة الأدبية التعبير عن المشاعر القوية والانكسارات والآلام واليأس بغض النظر عن مصدره أو أشكاله، وتلك الآلام جزء أصيل من كتابات الأدب السوداوي التي تصدمنا بقسوتها وبشاعتها، وهذا النوع يفيدنا نحن كقراء في التعرف على حياة جزء من البشر، وعلى جانب واقعي يرينا أن في الحياة من هم أسوأ حالًا منا وأننا أفضل من غيرنا بما نحن عليه.
فرانز كافكا أبرز كتاب الأدب السوداوي
الأديب فرانز كافكا نموذج سوادوي كابوسي من طراز عالمي، ويعتبر رائد تلك المدرسة بامتياز وجدارة، وإن تأملنا كتاباته وحياته سنجد أنه كتب ليتعافى ويشفى ويصمد أمام آلامه، أدت حياة كافكا الكئيبة إلى تدوينه لمآسييه، فهو لم يرغب في نشر أي شيء مما كتب في الأساس وأوصى أقرب أصدقائه بحرق كتاباته بعد وفاته، وهو ما لم يلتزم به صديقه الذي رأى أهمية لنشرها.
يعتبر كافكا الرمز والمثال الأقوى للأديب السوداوي، فهو كاتب عانى وتألم فكتب وجسد معاناته، لا ليظهر للآخرين كيف كانت مأساته، فهو في الحقيقة لم يهتم لذلك، بل كان يحاول أن يجد ما يقضي على عذاباته ووحدته، فالأبوة القاسية والألم والإهمال والمرض والوحدة والخذلان الأشياء التي كونت لنا مؤسس تلك المدرسة المخيفة الذي ذكر في أحد أشهر أقواله: “عشت غريبًا أمام الجميع وغريبًا أمام نفسي”.
نماذج روائية سوداوية في الأدب العربي
رواية ترمي بشرر – عبده خال
كل كائن يتخفى بقذارته ويخرج منها مشيرًا لقذارة الآخرين
“ترمي بشرر” إحدى الروايات الفائزة بجائزة البوكر عام 2010، وهي رواية واقعية وسوداوية من الدرجة الأولى، يحدثنا فيها الكاتب السعودي عبده خال عن مآسي وقسوة الحياة في مدينة جدة، في إحدى القصور الذي تدور أحداث الرواية به، ونكتشف فيما بعد أن هذا المكان موجود بالفعل في الواقع، ويمكن أن يكون قد حدث بالفعل.
ويدور محور الرواية حول الخدم الموجودين في هذا القصر وما يحدث لهم، ويقابلونه في تعاملاتهم مع “الطبقة العليا” من البشر، كما أظهرت الرواية الوحشية التي يتعامل بها الأسياد مع الخدم وكيف يشعر هؤلاء الخدم بالذل والمهانة، وتظهر لنا الرواية كيف يمتلئ القصر بالنساء ويتعامل معهن المجتمع المحافظ، هي رواية واقعية صادمة كشفت الواقع وفضحته بشكل قاسٍ وفج، ولاقت استنكار الكثيرين بسبب بشاعتها.
رواية الخبز الحافي – محمد شكري
هذا العالم حزين وعفن
تعتبر تلك السيرة الذاتية واحدة من أهم وأصدق ما كُتب في الأدب السوداوي، وهي ليست بالعمل الأدبي المترف أو النص الفني البليغ أو غيرها من الأمور التي يتحلى بها الأدب ويمتعنا بها، بل هي واقع حزين يُرثى له.
يروي الأديب المغربي محمد شكري في هذه الرواية قصة حياته المأساوية بواقعها المؤسف الذي يبعث الألم، وهي رواية سوداوية بامتياز، لأننا عرفنا بها تفاصيل مخيفة واكتشفنا عالمًا لم نتوقع وجوده، فيها يروي شكري تفاصيل طفولته القاسية التي لم يجد بها ما يأكله أو من يحن عليه من قسوة الحياة، فهو ابن لأب قاسٍ متوحش، الأب الذي قتل ابنه لأنه كان يتضور من الألم، كما تحدث عن محاولاته لكسب العيش من العمل في الدعارة والسرقة والتهريب، تلك القصة واقع لم نكتشف وجود بسهوله وهي قصة واقعية لم ندرك وجودها لولا جرأة شكري في قص مأساته على الناس.
المجموعة القصصية “معرض الجثث” – حسن بلاسم
الأموات نزيهون في العادة، حتى الأوغاد منهم
تعتبر هذه المجموعة القصصية واحدة من الأعمال الأدبية التي يمكننا القول إنها عبقرية، فحين يمتثل جمال اللغة والأدب لتجسيد المعاناة والألم فسينتج بالتأكيد عمل أدبي خالد، وهذا ما حدث هنا، إذ يروي لنا حسن بلاسم العراقي الحائز على جائزة الإندبندنت البريطانية قصص متفرقة تدور حول الحرب في حياة العراقيين، قصص بطلها الموت ومحورها الجثث.
هي رواية الخوف والتعذيب ليس بشكله المادي الملموس الدموي وإنما بطريقة معنوية مرعبة تُثبت أن الإنسان الكائن الأكثر وحشية على هذا الكوكب، قصص مرعبة بدرجة قاسية، والأهم أنها تعكس الواقع وتنقل الصورة الحقيقية للجميع، وهذه أبرز صفة للأدب السوداوي الذي يعري الواقع بلا هوادة.
يمكن أن يؤدي الانغماس في هذا النوع من الأدب إلى الكآبة والحزن ويمكن أن تكون صحوة للشعور بقيمة ما نحن عليه.