لرمضان في مصر مذاق خاص وطقوس مميزة وروح قلما تجدها في مكان آخر، فبين ثنايا شوارعها وعلى جدران بيوتها تفوح رائحة الشهر الكريم ببركاته وروحانياته التي تحول شوارع القاهرة ومدنها وميادينها إلى لوحات فنية رائعة، تأخذك على بساط السرعة إلى عصور الفاطميين الأوائل.
فالشهر هنالك أكبر من مجرد موسم للعبادة والزهد والتقرب إلى الله، فهو عنوان شامل لكل معاني الخير والكرم والجود والبهجة، شعب متدين بطبعه، عاشق لتراثه، مولع بطقوسه، مفعم بحضارته الإسلامية العريقة، ومن ثم تحولت المحروسة في هذا الشهر إلى قبلة للشغوفين بتلك الطقوس الجميلة والأجواء المبهجة.
لكن وكما حال الكثير من المعالم التي شابها التغيير في مصر خلال السنوات الماضية، لم يكن الشهر الفضيل الذي ينتظره المصريون بشغف بمنأى عن هذا الزلزال الذي ضرب مرتكزات البلاد وقواعدها فأعاد رسم خريطة الكثير منها، فبما تخبرنا أجواء رمضان هذا العام؟
أجواء.. ولكن
لست في حاجة لأن تقضي وقتًا طويلاً لتعرف أن الأجواء ما عادت كما كانت في السابق، فرغم تشبث المصريين ببعض الطقوس فإنها في كثير منها تفتقد للروح التي كانت علامة تميزها على مدار عقود مضت، إذ بات كل شيء وكأنه يسير وفق منهج وآلية محددة غابت عنها معانيها المكنونة.
ظلت شوارع وميادين مصر على مدار عقود طويلة مضت مساجد وساحات للصلاة في رمضان، وأصوات المقرئين التي تصدح في سمائها في أثناء صلاة التراويح والقيام، بقيت ألحانًا تطرب القلوب والأسماع، ليس لمن يؤدي الصلاة خلف الإمام فحسب، بل لغيرهم في المنازل ممن يجدون في هذه الأجواء مبعثًا على البهجة والسرور.
وفي الأقاليم والمحافظات النائية التي لا يوجد في أغلبها مساجد كبيرة تتحول الزوايا بها (مسجد صغير المساحة) إلى ساحات للصلاة وقراءة القرآن والإنشاد الديني، ليس هذا وفقط، بل حافظت القرية المصرية لسنوات طويلة على بعض الطقوس الجميلة في هذا الشهر الذي يمثل لهم عيدًا، منها إقامة الليالي الرمضانية.
حيث كان يتكفل عمدة القرية أو أحد الأعيان بها بكلفة إحضار مقرئ للقرآن طيلة ليالي الشهر، يجلسون ويقرأون ويتسامرون ويشربون مشروبات رمضان الشهيرة، من بعد صلاة التراويح وحتى منتصف الليل، فما كان يغيب صوت القرآن عن سماء القرية طيلة رمضان.
لكن يبدو أن تلك الطقوس لم تعد تلقى قبولاً من السلطات المصرية الحاليّة التي أخذت على عاقتها مهمة إجهاض أجواء الشهر وتفريغه من محتواه الروحي وذلك عبر حزمة من القرارات التي اتخذتها وزارة الأوقاف التي تحولت ووزيرها إلى أداة محورية لتحقيق مساعي النظام في تجديد الخطاب الديني وفق الكيفية التي يراها القائمون على أمور الدولة بصرف النظر عن مشروعية تلك الكيفية ومدى توافقها مع أحكام الشرع.
بحسب البنك الدولي فإن 60% من المصريين إما فقراء أو أكثر احتياجًا، ما يعني أن ما يقرب من 55 مليون مواطن مصري يعاني من العوز والفقر
وفجأة ودون سابق إنذار وبينما يؤمل المصريين أنفسهم باستقبال الشهر لعله يغسل الروح مما علق بها من ملوثات طيلة العام، إذ بهم يفاجئون بقرارات منع استخدام مكبرات الصوت في صلاة التراويح وعدم أدائها إلا في المساجد الكبيرة وتجريم الصلاة في الشوارع والميادين إلا بترخيص.
أحمد سالم، موظف على المعاش، أعرب عن صدمته من تلك الإجراءات التي وصفها بأنها “متخلفة” متسائلاً: كيف يكون رمضان دون صلاة تراويح تهز الأركان؟ كيف يكون رمضان دون امتلاء الشوارع والميادين في القيام؟ ما الهدف من هذه القرارات؟
وأضاف المواطن الذي يبلغ من العمر 65 عامًا لـ”نون بوست” أن ما يحدث لا يمكن تفسيره سوى أن هناك حالة من القلق تنتاب النظام من منظر الملايين من المصلين في المساجد والميادن، مستشهدًا بالأعداد الغفيرة في مسجد عمرو بن العاص بالقاهرة والقائد إبراهيم بالإسكندرية.
أما الحاجة زينب محمود (60 عامًا) فأشارت إلى أنها من أشد المواظبين على صلاة التراويح في بيتها خلف إمام المسجد الذي يقبع في الشارع الذي تسكن فيه، لافتة أن صوته الجميل وأدائه الرائع في الصلاة يشعرك أنك في الكعبة على حد قولها، فالأصوات العالية وحلاوة الصوت تأخذك إلى أجواء أخرى.
وأضافت زينب في حديثها لـ”نون بوست” أن صوت القرآن الذي يصدح في سماء مصر في صلاة التراويح بات علامة مميزة للشهر الفضيل، ولا يمكن الاستغناء عنه، فهو البقية الباقية من أجواء رمضان الدينية بعدما اقتحمت المسلسلات الخليعة المنازل في نهار رمضان وليله، حتى أفسدت على الغالبية صيامه، مضيفة “لو منعوا مكبرات الصوت والصلاة في الميادين والشوارع يبقى عليه العوض في هذا الشهر”.
صلاة التراويح من مسجد القائد إبراهيم بالإسكندرية
تأميم أعمال الخير
كان في مصر ما يزيد على 29 ألف جمعية أهلية، وفق إحصاء وزيرة التضامن الاجتماعي غادة والي، تقوم على العمل الخيري طيلة العقود الماضية وتنشط أكثر في رمضان، حيث موسم التبرعات وجمع الزكاة وتوزيعها على المحتاجين، ففي هذا الشهر كان يشعر الفقير بالأمان في ظل الخير الوفير الذي يأتيه من هنا وهناك.
وعلى مدار سنوات طويلة مضت حلت الجمعيات الأهلية كـ”حكومة موازية” تسعى إلى علاج جوانب القصور في الدور المجتمعي للحكومة، لا سيما أنها كانت تغطي المناطق البعيدة داخل الأقاليم والنجوع التي تسقط في كثير من الأحيان من حسابات الأنظمة الحاكمة، حيث عوضت غياب دور النظام في تقديم الخدمات المجتمعية للفقراء، من علاج وتعليم وتنمية مجتمعية ودعم مادي، إلى غير ذلك من تلك الخدمات التي تفوقت فيها تلك الجمعيات ونجحت من خلالها في تحمل الجزء الأكبر من أعباء الحكومة.
أفتت دار الإفتاء المصرية على لسان مستشار المفتي مجدي عاشور بجواز التبرع لصندوق تحيا مصر كصدقة جارية فضلاً عن فتاوى أخرى أجازت التبرع بالزكاة لصالح الصندوق
لكن الأمر انقلب رأسًا على عقب في 24 من مايو 2017 حين صادق رئيس الدولة على قانون الجمعيات الأهلية الذي وصف بأنه “شهادة وفاة للعمل الخيري في مصر”، ليسدل الستار على أحد أبرز منافذ الخير في مصر لا سيما في شهر رمضان الذي كان متنفسًا لأصحاب الحاجة من محدودي ومعدومي الدخل.
بحسب القانون لا يجوز للجمعية تلقي التبرعات إلا بعد موافقة الجهات المختصة، كما لا يجوز التصرف فيها إلا بموافقة تلك الجهات أيضًا، وفي مدة زمنية محددة تقدر بـ60 يومًا، إن مرت دون أن يتم الرد على تلك الجمعيات تصبح لاغيه ولا يجوز التصرف فيها، مما يعني تعرض حياة الملايين للخطر خاصة فيما يتعلق بعلاج الأطفال والحالات الحرجة.
الدولة بررت هذا القرار المثير للجدل بأنه محاولة لتجفيف منابع التطرف والإرهاب بدعوى أن تلك الجمعيات كانت نافذتها التمويلية الأولى، وما هي إلا ساعات قليلة على اعتماد القانون رسميًا إلا وأغلقت المئات من الجمعيات الخيرية ما نجم عنه سد نوافذ العلاج والدعم أمام الملايين من الفقراء ممن كانوا يعتمدون في المقام الأول على هذه المنافذ.
انتشار موائد الرحمن في مصر خلال أيام رمضان
حالة من الخوف والقلق بدأت تنتاب القائمين على أمور تلك الجمعيات مع كل حركة وسكنة، خاصة في ظل موجة الإقصاء الواضحة على مدار السنوات الأخيرة، الأمر الذي دفع تلك الكيانات الخيرية إلى تفضيل المسار الآمن عبر تقنين أوضاعها وتهميش دورها والابتعاد عن مناطق الريبة وعلى رأسها تلقي التبرعات أو اللجوء إلى الغلق نأيًا بالنفس عن أي مسؤولية.
يقول م. عامر مسؤول الحسابات في إحدى الجمعيات الخيرية بمحافظة الشرقية إن الجمعية التي يعمل بها توقفت عن تلقي التبرعات تجنبًا للدخول في مناوشات مع الحكومة، خاصة أن هناك رقابة مشددة على كل سلوك داخل الجمعية وفي حال تلقي أي تبرعات من أشخاص غير معروفين، بعضهم ربما يكون له انتماءات معينة، لا ندري عنها شيئًا، فربما نتعرض نحن للمسؤولية والحساب ونتهم أننا نمول التطرف بحسب التهم المعلبة سلفًا.
وأضاف لـ “نون بوست” “قانون الجمعيات الأهلية الأخير أدى إلى غلق مئات الجمعيات، ما يعني توقف آلاف المراكز الصحية والمستشفيات والرواتب الشهرية والإعانات التي كانت تصل للفقراء ومحدودي الدخل، هذا بجانب امتناع بعض المتبرعين عن التبرع لأي جمعية خشية تعرضهم للمساءلة فيما بعد.
وبينما نجحت الدولة في غلق الجمعيات ذات الصيت والشهرة الكبيرة في العمل الخيري وتقليم أظافر الأخرى على رأسها جمعية العاملين بالكتاب والسنة المحمدية التي تعد الأعلى مكانة في مصر، فإنها في الوقت ذاته فتحت الباب على مصراعيه أمام عدد محدود من الكيانات الأخرى لتلقي التبرعات، في ظل ما منحته لها من شرعية قانونية وإعلامية، حتى باتت ملء السمع والبصر.
اللافت للنظر أن الجمعيات والمؤسسات المسموح لها بممارسة العمل المجتمعي والخيري هي ذاتها التي تدعم النظام بشكل كامل، وتساهم في فرض أجندته، سواء بالتبرع لصالح مؤسساته أم المساهمة في تحسين صورته أمام الشارع من خلال الإيهام بالمشاركة في مثل هذه الأعمال الخيرية.
فهناك جمعية الأورمان الخيرية التي يرأسها لواء عسكري ممدوح شعبان ويقدم سنويًا تبرعات لصندوق “تحيا مصر” الذي يرأسه السيسي، كذلك مؤسسة “مصر الخير” التي يرأسها الدكتور علي جمعة مفتي مصر السابق والداعم للنظام بكل قوة، هذا بجانب “بنك الطعام” الذي يشارك في فعاليات خيرية لدعم الصندوق السيادي آخرها حملة “بالهنا والشفاء“.
مع تزايد معدلات الفقر من المتوقع أن يتصاعد حجم الإقبال على تلك الموائد، هذا في الوقت الذي عزف فيه بعض من اعتادوا إقامة تلك الموائد عن الاستمرار في أعمال الخير نظرًا للضغوط الاقتصادية
ويتصدر “تحيا مصر” قائمة الكيانات التي أخدت على عاتقها حمل لواء العمل الخيري خلال السنوات الأخيرة، إذ أفتت دار الإفتاء المصرية على لسان مستشار المفتي مجدي عاشور بجواز التبرع للصندوق كصدقة جارية، فضلاً عن فتاوى أخرى أجازت التبرع بالزكاة لصالح الصندوق.
وبينما تكثف أجهزة الدولة الدينية والمجتمعية والاقتصادية جهودها لحث الشارع على التبرع للصندوق لا تتوافر معلومات كافية عن نشاطه وكيفية إدارته للأموال التي يحصل عليها من التبرعات التي تذهب أغلبها في مشروعات تنتسب لرئيس الجمهورية في محاولة لتعزيز صورته المجتمعية داخليًا، هذا بجانب عدم وجود آلية مراقبة لمصارف تلك الأموال ومدى التزامها بالضوابط الشرعية التي تنص عليها أحكام الدين فيما يتعلق بمنافذ توزيع التبرعات والمستحقين لها.
علاوة على مبدأ الانتقائية التي تخضع له تلك المؤسسات، إذ إن هناك شرائح كبيرة من المحتاجين لا تصل إليهم أموال مثل هذه الجمعيات، إما لأسباب جغرافية تتعلق ببعد المسافات أو أسباب نوعية خاصة بمدى أهمية شرائح بعينها بالنسبة للقائمين على أمور تلك الكيانات، على عكس ما كان عليه الوضع في السابق، حيث الانتشار الكثيف للجمعيات في شتى ربوع الدولة ومناطقها النائية.
نشاط مكثف لصندوق تحيا مصر مع بعض الجمعيات الخيرية الأخرى
أوضاع معيشية صعبة
بجانب قرارات إجهاض الأجواء الرمضانية وتسييس العمل الخيري عبر بوابة التأميم والاحتكار جاءت الأوضاع الاقتصادية المتردية لتكمل على البقية الباقية من الصورة، فبعدما كانت تمتلئ البيوت المصرية بشتى أنواع السلع والياميش في هذا الشهر إذ بالأسعار المرتفعة تعيد تشكيل خريطة المطبخ المصري بصورة ملحوظة.
أحمد سالم، صاحب محل تجاري متخصص في بيع ياميش رمضان، يقول إنه رغم انخفاض السلع خلال الأشهر القليلة الماضية بصورة نسبية عما كانت عليه الأمور قبل ذلك، فإن حركة البيع والشراء تراجعت بشكل كبير، لافتًا إلى أن الكثير من الأسر المصرية خفضت مستوى استعدادها السلعي لرمضان مقارنة بالعقود الماضية.
صاحب المحل التجاري لـ”نون بوست” أرجع هذا العزوف إلى الأوضاع المعيشية الصعبة، متسائلاً: كيف لرب أسرة راتبه لا يتجاوز 2000 جنيه (125 دولارًا) أن يشتري كل مستلزمات رمضان من سلع وياميش وغيره؟ مجيبًا على نفسه: الأولى أن يوفر ذلك إن كان هناك توفير لمتطلبات الحياة الضرورية من مدارس ودروس وملابس ومأكل ومشرب وغير ذلك.
رغم التغيرات الجوهرية التي شابت الشارع الرمضاني المصري فإن شريحة كبيرة من المصريين تأبى إلا أن تتمسك بتلك الطقوس، ضاربة بكل القرارات المعلنة عرض الحائط
لعبت تلك الأوضاع المتردية دورًا محوريًا في زيادة رقعة الفقراء في مصر، فبحسب البنك الدولي فإن 60% من المصريين إما فقراء أو أكثر احتياجًا، ما يعني أن ما يقرب من 55 مليون مواطن مصري يعاني من العوز والفقر، هذا في الوقت الذي ترتفع فيه البطالة الحقيقية على أرض الواقع بعيدًا عن الأرقام المعلنة رسميًا التي تفتقد للمعايير الدولية.
الأحوال الاقتصادية الصعبة كان لها أبلغ الأثر في موائد رمضان، تلك الموائد التي يعدها ميسورو الحال لإطعام المحتاجين والمغتربين، وطالما تميزت مصر بها على مدار سنوات عدة، كانت شوارعها وبناياتها موائد متنقلة، لا تترك شاردة ولا واردة إلا وأرغمتها على تناول الإفطار، هذا بخلاف حملات الطعام والشراب “تيك أواي” التي تنتشر على الطرق قبيل أذان المغرب.
ومع تزايد معدلات الفقر من المتوقع أن يتصاعد حجم الإقبال على تلك الموائد، هذا في الوقت الذي عزف فيه بعض من اعتادوا إقامة تلك الموائد عن الاستمرار في أعمال الخير نظرًا للضغوط الاقتصادية التي دفعت بعضهم إلى تقليل حجم الموائد التي كان يقوم بها والآخر إلى إلغائها والاكتفاء بتوزيع النقود على المحتاجين وفق مصادر لـ”نون بوست”.
وفي المجمل ورغم التغيرات الجوهرية التي شابت الشارع الرمضاني المصري فإن شريحة كبيرة من المصريين تأبى إلا أن تتمسك بتلك الطقوس، ضاربة بكل القرارات المعلنة عرض الحائط، فالمكبرات ستصدح في كثير من المساجد والساحات ستمتلئ بالمصلين في التراويح، والليالي الرمضانية لن تنقطع في بعض القرى.