شهدت سوريا منذ بداية الثورة في عام 2011 حالة من الاضطراب السياسي والعسكري، تمثلت في التشتُّت والانقسام الذي عانت منه القوى المعارضة لنظام الأسد. هذا التشتت، الذي شمل الفصائل العسكرية والهيئات السياسية، أسهم في إضعاف قدرة المعارضة على تحقيق أهداف الثورة، وجعلها تواجه تحديات كبيرة على مختلف الأصعدة. ومع مرور الوقت، برزت “هيئة تحرير الشام” كقوة مهيمنة في شمال غرب سوريا، حيث استطاعت تطوير نفسها عسكريًا وسياسيًا رغم التصنيف الإرهابي لها.
مع تصاعد الأحداث، أصبح مشهد الصراع السوري أكثر تعقيدًا، حيث برزت تحولات استراتيجية في موقف “هيئة تحرير الشام”، التي تبنّت نهجًا براغماتيًا لبناء دولة أو شبه دولة في المناطق التي تسيطر عليها. في سياق هذا التحول، كانت عملية “ردع العدوان” نقطة فارقة في تطور المعارضة، حيث شهدت مرحلة جديدة من التنسيق العسكري والسياسي بين الفصائل، متجاوزة الانقسامات السابقة، وتركزت جهودها على استعادة الاستقرار في المناطق المحررة وتحقيق نموذج حكم متماسك.
ومع تحول مسار الصراع، كان تحرير دمشق أحد أبرز الأحداث التي شكلت نقطة تحول محورية، حيث انهار النظام بعد تدمير دفاعاته الأساسية، ما فتح الطريق أمام مرحلة جديدة من التحديات التي تواجهها المعارضة في إدارة الدولة السورية الجديدة. هذا السياق يشكّل اختبارًا حقيقيًا في بناء الدولة من خلال تحكمها في المؤسسات الحكومية والقدرة على تقديم الخدمات الأساسية للسكان، وسط الأزمات الإنسانية والاقتصادية التي يعاني منها الشعب السوري.
فصائل المعارضة السورية: تشتُّت وانقسام
تمحورت المشكلة الرئيسية للقوى المعارضة على مدار الـ 13 عامًا الماضية في عدم وجود تنسيق فعّال، سواء بين الفصائل المسلحة أو بين الهيئات السياسية، ما نتج عنه ضعف في الأداء المشترك وفشل في تحقيق أهداف الثورة.
في البداية، تجسّد هذا التشتت في تعدد الجماعات المسلحة، وعدم وجود قيادة موحدة قادرة على تنسيق الجهود بين مختلف الفصائل. هذا التشرذم جعل المعارضة السورية تتسم بالفوضوية، حيث كانت كل جماعة تعمل بشكل منفصل، دون أن تكون هناك آلية فعالة للانسجام أو التنسيق فيما بينها.
أدّى التشظي الواسع إلى تصاعد الخلافات والانقسامات بين الفصائل. لا سيما أن هذه الجماعات كانت تتبنى توجهات أيديولوجية متعددة، ما أسهم في تنامي الصراعات الداخلية بدلًا من التوحد لمواجهة نظام الأسد، ناهيك عن تداخل المصالح الإقليمية والدولية الذي لعب دورًا كبيرًا في تعميق هذا التشتت، حيث ارتبطت بعض الفصائل بداعمين خارجيين ذوي مصالح متباينة، ما ساهم في زيادة تفكيك صفوف المعارضة.
شكّل ارتباط بعض الفصائل بأنظمة إقليمية ودولية تهديدًا أيديولوجيًا وسياسيًا لبعضها البعض، مع بروز تدخلات أجنبية معقدة، أبرزها التدخل الروسي الذي شكّل نقطة تحول حاسمة في الحرب السورية، ما منح نظام الأسد تفوقًا استراتيجيًا على الأرض، على حساب السيطرة العسكرية لقوى المعارضة السوري، حيث فقدت حوالي 70% من المناطق التي كانت تحت سيطرتها.
شكلت خسارة المدن والمناطق الحيوية مثل حلب الشرقية عام 2016 والغوطة الشرقية عام 2018، ضربة موجعة أثّرت على مصداقية المعارضة وحجم قوتها العسكرية. تلك الخسائر أظهرت مستوى الضعف في التنسيق العسكري والسياسي، الأمر الذي أسهم في تعزيز موقف النظام وحلفائه سياسيًا، كما أن انتشار جماعات متطرفة مثل “داعش” و”جبهة النصرة” في بعض المناطق ساهم في تشويه صورة المعارضة في الداخل والخارج، ما جعلها تفقد جزءًا من دعمها الشعبي والدولي.
وإلى جانب الشق العسكري، كان فشل المعارضة السورية في بناء كيان سياسي موحد من أبرز العوامل التي أسهمت في تراجعها، حيث فشلت جميع محاولات توحيد صفوف المعارضة تحت جسم سياسي جامع. ورغم جهود المجتمع الدولي لتأسيس كيانات مثل “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية” و”هيئة التفاوض”، فإن هذه المحاولات باءت بالفشل بسبب الانقسامات المتعددة على الصعيد السياسي والأيديولوجي، وانفكاك الارتباط بينها وبين الفواعل المحلية.
عجز المعارضة عن بناء رؤية سياسية موحدة ساهم أيضًا في تراجع دورها في المحافل الدولية، ما جعلها غير قادرة على التأثير في مسار الأحداث. في وقت كانت القوى الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة، قد بدأت في إعادة توجيه أولوياتها بعيدًا عن دعم المعارضة السورية.
أبرز التحولات الدولية تجسد في قرار إدارة ترامب عام 2017 بوقف برنامج تسليح المعارضة المعتدلة، وهو ما أضعف قدرتها على مقاومة النظام. وعزّز هذا الواقع حقيقة أن المؤتمرات الدولية مثل أستانا وسوتشي قد عملت على تثبيت مناطق خفض التصعيد، وهو ما تمّت ترجمته عمليًا إلى تجميد حالة النزاع لصالح نظام الأسد. تضاف إلى ذلك التغيرات في المواقف الإقليمية لبعض الدول الداعمة للمعارضة، كالسعودية والإمارات، والتي ساهمت في عزلها سياسيًا، وزادت من صعوبة موقفها على الساحة الدولية.
تحولات “هيئة تحرير الشام”: بناء القوة المؤسسية وتحديات الاستقلالية
في ظل هذه البيئة المضطربة، برزت “هيئة تحرير الشام” كلاعب رئيسي في شمال غرب سوريا، حيث استطاعت رغم نشأتها من رحم تنظيم القاعدة، أن تبني نفسها بشكل تدريجي على الصعيدَين العسكري والسياسي.
رغم تصنيفها كمنظمة إرهابية، تمكنت “تحرير الشام” من إجراء تحولات استراتيجية جعلتها تفرض نفسها كقوة مهيمنة في المناطق التي تسيطر عليها. كان أهم هذه التحولات هو تبني نهج براغماتي يعتمد على بناء دولة أو شبه دولة في مناطق سيطرتها، إذ أقدمت على إنشاء “حكومة الإنقاذ السورية” في عام 2017، التي عملت على تكوين إدارة مدنية منظمة تشمل مؤسسات حكومية، محاكم، ونظامًا ماليًا دقيقًا، بالإضافة إلى ضبط أمن داخلي عالي المستوى.
رغم أن هذه الخطوة قد اُعتبرت رمزية في بعض الأحيان، فإنها منحت الهيئة درجة من الشرعية المحلية، وحسّنت قدرتها على ضبط الحياة المدنية والمجتمعية في المناطق الخاضعة لسيطرتها.
عسكريًا، عززت “هيئة تحرير الشام” من قدراتها من خلال تحديث قواتها، إذ قامت بإعادة هيكلة جيشها على أساس الانضباط العسكري الصارم. منها تشكيل كلية عسكرية وكلية شرطة، تم تبني تقنيات حديثة، بما في ذلك الطائرات المسيَّرة التي أحدثت فارقًا كبيرًا في موازين القوة العسكرية، وأدّت إلى تحسين تكتيكات الهيئة في المعارك مع قوات النظام وحلفائه. هذا التطور العسكري مكّن الهيئة من فرض هيمنتها في بعض المناطق، وزيّن صورتها كقوة ميدانية قادرة على تغيير مجريات الحرب لصالحها.
من الناحية الاقتصادية، واجهت “هيئة تحرير الشام” تحديات كبيرة بسبب ندرة الموارد في المنطقة، لكنها استطاعت تخطي هذه العقبات عبر فرض السيطرة على المعبر الحدودي مع تركيا، وإحداث معبر مع مناطق غصن اليزيتون لجباية الضرائب والرسوم الجمركية، بالإضافة إلى احتكارات واسعة، ما أعطاها إمكانية تمويل عملياتها العسكرية والإدارية بشكل مستقل، وعزز قوتها المالية وتمكينها من ترسيخ سلطتها في المناطق الخاضعة لها.
في مراحلها الأخير، كادت الاضطرابات الشعبية ضد “هيئة تحرير الشام” التي نظمها “حزب التحرير” أن تغير المشهد المحلي في إدلب كليًا، حيث ارتبطت الاحتجاجات في بعض مناطق إدلب وريف حلب الغربي بعوامل محلية ومناطقية، مثل التهميش الذي تعرضت له مدينة الأتارب، ما دفع إلى خروج تظاهرات ضد الجولاني بعد إطلاق حملة “لا لتهميش الأتارب”.
توزُّع الناشطين وكثافة السكان لعبا دورًا في انتشار التظاهرات، وبينما انتشرت في إدلب بشكل كبر غابت عن مناطق جبل الزاوية لضعف عدد السكان وقلة الناشطين. في المقابل، غابت المظاهرات عن مناطق مثل الدانا وحارم وسلقين، بسبب زيادة الوجود الأمني لـ”هيئة تحرير الشام” أو ضعف الحراك المدني.
تمكن الجولاني من تعزيز قدرته على ضبط الواقع الداخلي للهيئة والمناطق الخاضعة لسيطرتها، بعد مقتل القيادي أبو ماريا القحطاني، حيث شكّل مقتله نقطة تحول في تسوية بعض التوترات الداخلية داخل الهيئة، ما أتاح للجولاني تعزيز سلطته وزيادة قبضته الأمنية على المناطق التي كانت تشهد بعض الفوضى والاحتجاجات.
استطاع الجولاني استثمار هذه الفترة لزيادة تأثيره، من خلال اتخاذ إجراءات أمنية مشددة ضد أي تحركات معارضة داخل مناطق نفوذه. كما عززت الهيئة من عملياتها الاستخباراتية والمراقبة، ما جعل من الصعب تنظيم تظاهرات واسعة أو حركات احتجاجية ضد سياسات الهيئة، وبالتالي خفضت فرص تصاعد أي حراك معارض لها.
تمكنت “هيئة تحرير الشام” من توحيد القوى المحلية تحت قيادتها، حيث عملت على تحجيم تأثير الفصائل المنافسة وتعزيز دورها كقوة مركزية في المنطقة. ورغم الاستمرار في مواجهة الضغوط السياسية والعسكرية، فإن الهيئة استطاعت تقديم نفسها كفاعل أساسي في الحرب السورية، يملك من القوة ما يسمح له بإعادة تشكيل الواقع الميداني والسياسي في الشمال السوري.
“ردع العدوان” ومرحلة الفصل
تمثل عملية “ردع العدوان” نقطة تحول رئيسية في الصراع السوري، حيث عكست قدرة المعارضة المسلحة على الجمع بين الحسم العسكري والإدارة السياسية لتحقيق أهداف استراتيجية تتجاوز المكاسب الميدانية.
على الصعيد العسكري، أظهرت العملية درجة عالية من التنظيم والتنسيق، إذ تمكنت غرفة العمليات المشتركة بقيادة “هيئة تحرير الشام”، برئاسة أبو محمد الجولاني، من تحقيق انضباط فصائلي غير مسبوق.
غرفة العمليات هذه جمعت تحت مظلتها العديد من الفصائل، مثل “حركة أحرار الشام” و”الجبهة الوطنية للتحرير”، ما ساهم في تجاوز الانقسامات التي كانت تعيق الفاعلية القتالية في الماضي. فالمعركة الأخيرة على جبهات إدلب وحلب وحماة، أثبتت أن التعاون الميداني يمكن أن يخلق قوة تكتيكية فعّالة قادرة على مواجهة قوات نظام الأسد المدعومة من حلفائها الإقليميين والدوليين.
أحد أبرز العوامل التي عززت نجاح العملية، كان الاستخدام المبتكر للطائرات المسيَّرة، التي أدارتها “كتيبة شاهين”. هذه المسيَّرات لم تكن مجرد أدوات استطلاع، بل أصبحت وسيلة رئيسية لتنفيذ ضربات دقيقة ضد أهداف النظام، ما مكّن الفصائل من تحقيق تفوق تكتيكي ملحوظ.
إضافة إلى ذلك، اعتمدت القوات العسكرية على تقنيات متقدمة أخرى، مثل المناظير الليلية والأسلحة الموجهة لتوسيع قدراتها الميدانية، ما ساهم في تحسين أدائها في العمليات الليلية والصراعات الممتدة، علاوة على ذلك لعب الانضباط العسكري دورًا محوريًا في نجاح العملية، فالمقاتلون في صفوف الفصائل أظهروا انضباطً عسكريًا عاليًا خلال المعارك، حيث التزموا بالقوانين التنظيمية والتعليمات العسكرية.
انعكس الانضباط ضمن قوات “ردع العدوان” على تنفيذ العمليات بشكل منظم، ما ساعد في تعزيز التنسيق بين القوات المختلفة وحسن توزيع المهام على الجبهات. كان هذا الانضباط حجر الزاوية في التنسيق السلس بين كتل العسكرية المختلفة، كما أنه أتاح للمقاتلين القيام بمناورات معقدة وتنفيذ ضربات دقيقة ضد قوات النظام.
الانغماسيون، الذين شكلوا جزءًا أساسيًا من العمليات القتالية، أظهروا قدرة استثنائية على ضرب خطوط العدو بشكل مفاجئ وفعّال، خاصة على جبهتَي حلب وحماه، من خلال تكتيكات الاقتحام السريع والضربات المباغتة.
استطاع هؤلاء المقاتلون إرباك قوات النظام، ما خلق فجوات في دفاعات النظام وساهم في تعطيل خطوط الإمداد والاتصال. كانت هذه العمليات تتطلب مستوى عاليًا من التدريب والانضباط، حيث كان الانغماسيون يتعرضون لمخاطر كبيرة من أجل إحداث تأثير مباشر على تقدم القوات النظامية.
سياسيًا، لم تقتصر أهداف عملية “ردع العدوان” على كسب المعارك، بل سعت إلى ترسيخ نموذج للحكم المؤسساتي في المناطق المحررة حديثًا، من خلال إعادة تفعيل المؤسسات الحكومية بشكل منظم ودون إقصاء للموظفين السابقين للنظام، حيث اختارت القيادة نهجًا متسامحًا يهدف إلى بناء الثقة بين السكان المحليين. هذا النهج كان جزءًا من استراتيجية أوسع لتحقيق الاستقرار طويل الأمد، حيث تم تفادي الأعمال الانتقامية التي قد تثير اضطرابات مجتمعية.
النجاح في السيطرة على ثاني أكبر مدينة في سوريا تحول إلى حالة ترميزية لإعادة فرض السيادة الوطنية، لكنه جاء مشفوعًا بخطوات عملية لتعزيز شرعية القيادة، منها الالتزام بمبدأ “الشرعية الخدمية”. عبر توفير الخدمات الأساسية للسكان، مثل الخبز والوقود، إضافة إلى ضبط الأمن الداخلي، نجحت القيادة في كسب التأييد الشعبي، ما عزز من مكانة المعارضة كبديل مقبول للنظام السوري.
الأبعاد الإنسانية والاقتصادية: بناء الاستقرار في خضمّ النزاع
رغم أن عملية “ردع العدوان” ركزت في الأساس على الحسم العسكري، فإن القيادة أدركت أن الاستقرار لا يمكن تحقيقه دون معالجة الاحتياجات الإنسانية والاقتصادية للسكان المحليين، فالمناطق المحررة عانت من أزمات متعددة نتيجة الصراع الطويل، بما في ذلك نقص الخدمات الأساسية وتدهور البنية التحتية.
في هذا السياق، أظهرت القيادة مرونة كبيرة في التعامل مع الموارد المحدودة، حيث تبنّت استراتيجية فعّالة لإعادة توزيع الموارد المحلية لتلبية احتياجات السكان، ما ساهم في تفادي سيناريوهات الفوضى الاقتصادية التي عادةً ما تصاحب انهيار المؤسسات في مناطق النزاع.
تمثلت الخطوة الأولى في تحسين الأمن الداخلي لضمان استقرار الحياة اليومية للسكان، حيث نجحت الفصائل في إنشاء نظام أمني يعتمد على ضبط الموارد البشرية وتفعيل الشرطة المحلية، هذه الإجراءات كانت ضرورية لتجنب انتشار الفوضى وتعزيز الثقة بين السكان والقيادة.
في الجانب الاقتصادي، واجهت القيادة تحديات هائلة بسبب ضعف البنية التحتية والتمويل. رغم ذلك، تمكنت من تأمين احتياجات أساسية للسكان، مثل المواد الغذائية والمحروقات، ما خلق بيئة مستقرة ساعدت على تحسين نوعية الحياة في المناطق المحررة.
هذا التوجه الخدمي لم يكن مجرد استجابة لحاجات السكان، بل كان جزءًا من استراتيجية شاملة لكسب القلوب والعقول، حيث أدركت القيادة أن النجاح العسكري لن يكون له قيمة ما لم يصاحبه رضا شعبي واسع.
كان للدور الإقليمي، خصوصًا الدعم التركي، عاملًا حاسمًا في نجاح هذه الجهود. رغم غياب الدعم الدولي المباشر، حيث ساهمت تركيا في تعزيز قدرات الفصائل من خلال توفير تقنيات حديثة ودعم لوجستي غير معلن وسياسي، ما أتاح للمعارضة فرصة لتحسين أدائها العسكري والاقتصادي.
على الصعيد الإنساني، حرصت القيادة على تقديم صورة متسامحة ومتماسكة تعكس رؤية جديدة لإدارة التنوع الطائفي والديني في سوريا. في هذا السياق، أظهرت تعاملًا إيجابيًا مع المجتمعات الشيعية والمسيحية في المناطق المحررة، كمسحيي مدينة حلب، وسكان نبل والزهراء، ما ساعد على تهدئة التوترات الطائفية التي كانت تؤجّج الصراع.
هذا النهج لم يقتصر على تحسين العلاقات مع المكونات المحلية، بل ساهم أيضًا في تعزيز صورة المعارضة أمام المجتمع الدولي كقوة جامعة قادرة على إدارة التنوع بفعالية.
بذلك، تكون عملية “ردع العدوان” قد حققت نموذجًا استثنائيًا لإدارة الأزمات في بيئة سياسية واجتماعية معقدة. من خلال الجمع بين الحسم العسكري، الحنكة السياسية، والإدارة المجتمعية، نجحت العملية في تحقيق أهداف متعددة الأبعاد تجاوزت حدود المواجهة العسكرية المباشرة مع نظام الأسد.
أثبتت التجربة أن النجاح في مناطق النزاع لا يقتصر على التفوق الميداني، بل يتطلب استراتيجية شاملة تعالج الاحتياجات الإنسانية، تعزز الشرعية السياسية، تبني توافقات مجتمعية طويلة الأمد، التركيز على تقديم الخدمات الأساسية، تعزيز الأمن، واحترام التنوع الديني والطائفي كان حجر الزاوية في هذا النموذج.
تحرير دمشق: “ردع العدوان” واختبار الدولة
إن ما أنجزته عملية “ردع العدوان” في مراحلها الأولى -سيطرتها على كامل محافظة حلب-، يمثل تحولًا استراتيجيًا بالغ الأهمية على الصعيدَين العسكري والسياسي. فقد أسفرت العمليات العسكرية الناجحة عن كسر خطوط الدفاع الأخيرة في حماة، ما أدّى إلى تمدد سيطرة المعارضة على مناطق واسعة، وأسهم في تصدع نظام الأسد وجيشه بشكل غير مسبوق.
فتح هذا التقدم العسكري المباغت جبهات أخرى في درعا والسويداء وشرق حمص، وهو ما هيَّأ الطريق أمام تحرير دمشق، نقطة القلب لنظام الأسد. مع تحرير العاصمة، انهار النظام رغم كل محاولاته البائسة في الصمود، ليجد رأس النظام نفسه في نهاية المطاف هاربًا، بعد أن فشل في تنفيذ أي من خطواته العسكرية والسياسية الأخيرة.
أدّى هذا التحرير إلى حالة من الفوضى الكبيرة في دمشق، حيث شهدت المدينة عمليات سطو وسرقة نفّذتها مجموعات صغيرة من بعض السكان الذين استفادوا من الانفلات الأمني. مع ذلك، كانت هناك خطوات هامة في مواجهة هذا الوضع، إذ قامت “إدارة العمليات العسكرية” بتنسيق إجراءات عملية لاستعادة الاستقرار.
تمثلت أولى خطواتها بالاتصال برئيس مجلس الوزراء السابق للحفاظ على الوزارات والمؤسسات الحكومية، كما تم التنسيق مع البعثات الدبلوماسية للبقاء في عملها، وهو ما ساهم في تجنب حالة الفراغ السياسي، وضمان استمرارية بعض المؤسسات الحكومية الحيوية.
كانت هذه الاستراتيجية بمثابة اختبار حقيقي لإمكانية التنسيق والعمل المنظم في ظل الظروف الصعبة، حيث تم العمل على تأمين المؤسسات الحكومية والسيطرة على الأوضاع الأمنية. هذا التماسك الذي أظهرته “غرفة العمليات العسكرية “ساعد في فتح آفاق جديدة للاستقرار، وكان له دور فاصل في تعزيز إمكانية الدعم الدولي لإعادة بناء الدولة السورية والمجتمع.
كان هذا الدعم حيويًا في مساعي تحقيق السلم الأهلي، وهو ما ظهر في تغيُّر المواقف الدولية، من دول إقليمية ودولية ومنظمات دولية، التي أظهرت استعدادها لدعم المرحلة الانتقالية في سوريا.
في هذا السياق، عملت قوات المعارضة على ضبط الأمن الداخلي في دمشق التي كانت تعاني من التشتت والفوضى، عبر سحب السلاح من المدنيين وضمان أمن الأحياء. إلا أن هذا الاستقرار الداخلي لم يكن خاليًا من التحديات، حيث نشطت “إسرائيل” على الجبهة الجنوبية، وقامت بغارات جوية استهدفت أكثر من 100 موقع عسكري في محيط العاصمة، ما يعكس تعقيد الوضع الإقليمي وتأثير القوى الخارجية على مجريات الأحداث في سوريا.
تحديات وفرص
في إطار الجهود المبذولة للحفاظ على المؤسسات الحكومية السورية بعد انهيار النظام، قامت قيادة “غرفة العمليات العسكرية” بتكليف الحكومة السورية السابقة بقيادة الجلالي للمساعدة في تنظيم المرحلة الانتقالية.
وبعد يومين من هذه الخطوة، أعلنت القيادة العامة تكليف محمد البشير رئيس حكومة الإنقاذ في إدلب، بتشكيل حكومة مؤقتة لإدارة شؤون دمشق لمدة 3 أشهر تنتهي في 1 مارس/ آذار 2025، وقد أخذ البشير معه وزراء حكومته من إدلب لاستلام مهامهم في الوزارات بدمشق، في خطوة تهدف إلى إعادة تنظيم الجهاز الحكومي وتعزيز استقرار البلاد في هذه المرحلة الحرجة.
لن تكون مهمة الحكومة الجديدة سهلة وإنما ستواجه تحديات جمّة لا يمكن حصرها، إلا أنه يمكن تحديد أكثرها وضوحًا في هذه المرحلة، أهمها:
إدارة الدولة بشكل شامل
ستكون مهمة الحكومة الجديدة في إدارة سوريا بشكل موحد أمرًا بالغ الصعوبة في ظل تنوع المكونات الطائفية والسياسية، في ظل غياب إشراك جميع الفئات والمكونات في عملية إعادة البناء السياسي والاجتماعي، وهو ما يفاقم التحدي.
بعض الفصائل أو المكونات قد تجد أن مصالحها مهددة نتيجة هذه العملية، ما قد يؤدي إلى معارضتها أو مقاومتها لهذا التوجه، خاصة إذا شعرت أن سياساتها أو توجهاتها قد تتأثر سلبًا في أعادة بناء الجيش والقوات المسلحة.
إعادة بناء الجيش والقوات المسلحة
تعرض الجيش السوري لتدمير شبه كامل بسبب الهجمات العسكرية الإسرائيلية المستمرة، فضلًا عن تفكُّك قوى الأمن الداخلي. إعادة بناء هذه المؤسسات الحيوية ستكون عملية طويلة ومعقدة تحتاج إلى تأهيل ضباط وجنود، فضلًا عن إصلاح الأنظمة الأمنية لضمان الحفاظ على الأمن الوطني.
بقاء رموز النظام السابق في الحياة السياسية والدبلوماسية
تواجه الحكومة الجديدة معضلة في مسألة بقاء رموز النظام السابق في المناصب الدبلوماسية والسياسية. الحكومة أمام خيارَين: إما إبقاء هؤلاء الأشخاص في المحافل الدولية لما لديهم من خبرة، وإما استبدالهم بعناصر جديدة قد تفتقر إلى الكفاءة الدبلوماسية، ما سيؤثر على قدرة الحكومة الجديدة على بناء علاقات دولية قوية.
إعادة هيكلة الفصائل العسكرية
توحيد الفصائل العسكرية المنتشرة في مختلف مناطق سوريا تحت قيادة وزارة الدفاع يمثل تحديًا أمنيًا، فضلًا عن ضرورة جمع الأسلحة من المدنيين، فإن الوضع العسكري المعقد سيزيد من صعوبة هذه المهمة، ما يتطلب تنسيقًا عالي المستوى بين الفصائل المختلفة لضمان انضباط الجيش وتجنب أي صراعات داخلية.
العدالة الانتقالية ومحاسبة مجرمي الحرب
مشكلة العدالة الانتقالية تظل عقبة رئيسية أمام الحكومة الجديدة، حيث يتعين محاسبة العديد من الشخصيات المتورطة في جرائم ضد الإنسانية خلال فترة حكم النظام السابق. إرساء العدالة في ظل انهيار النظام ووجود مئات المتورطين سيكون عملية صعبة ومعقدة من الناحية القانونية والسياسية.
التدخلات الأجنبية وتضارب المصالح الدولية
تواجد القوات الأجنبية في سوريا، سواء كانت روسية أو أمريكية أو تركية، يشكل تهديدًا لاستقلالية القرار الوطني. ستواجه الحكومة الجديدة ضغوطًا من هذه القوى الأجنبية التي تسعى لتعزيز مصالحها في الساحة السورية، وسيكون من الضروري الحفاظ على سيادة سوريا بينما تتعامل مع التحديات الناتجة عن هذه التدخلات الدولية.
تتمثل الفرص المتاحة أمام الحكومة الجديدة في عدة جوانب مهمة، تساهم في تحقيق الاستقرار والنمو الاقتصادي في البلاد.
أولًا، توفر الجغرافيا السورية وإمكانيات التوسع نحو الشرق، ما يتيح الوصول إلى موارد حيوية مثل النفط والغاز، بالإضافة إلى إمكانية تعزيز الاستثمار الزراعي في المناطق الخصبة. كما أن فتح المعابر الحدودية سيعزز فرص جذب رؤوس الأموال الأجنبية، ما يساهم في دعم الاقتصاد السوري.
ثانيًا، هناك احتمال كبير في رفع العقوبات الأمريكية والغربية عن سوريا بعد تغيُّر المعطيات الميدانية والسياسية في سوريا، وهو ما قد يساهم في انتعاش اقتصادي كبير، ويؤسس لمرحلة جديدة من التعاون الدولي لإعادة إعمار البلاد.
من جهة أخرى، يمثل خروج إيران من المنطقة نقطة تحول مهمة في سوريا، من شأنه أن يسهم في تسريع انسحاب القوات الأجنبية من البلاد، وبالتالي يعتبر مؤشرًا على قدرة الحكومة الجديدة في مكافحة الإرهاب وحماية السيادة الوطنية.
إضافة إلى ذلك، يحظى التأييد الدولي الواسع للحفاظ على استقرار ووحدة الأراضي السورية بتأثير إيجابي في تعزيز الاستقرار السياسي في البلاد، ما يمهّد لإعادة بناء سوريا بعيدًا عن التدخلات الأجنبية.
ختامًا، يمكن التأكيد على أن الصراع السوري قد شهد تحولات استراتيجية عميقة، أثّرت بشكل كبير على الأوضاع العسكرية والسياسية في البلاد. لقد نجحت “هيئة تحرير الشام” في تعزيز حضورها وتوسيع نفوذها، ما أدّى إلى تعديل موازين القوى المحلية، وجعلها طرفًا رئيسيًا في المعادلة العسكرية والسياسية، رغم التصنيفات الدولية التي تضعها في خانة التنظيمات الإرهابية.
أسفر هذا الصراع عن مشهد معقد من القوى المتنازعة، وهو ما يعكس الحاجة الملحّة إلى مقاربة شاملة لحلّ النزاع، تقوم على إعادة بناء الهياكل السياسية والأمنية في سوريا بما يتماشى مع تطلعات الشعب السوري، ويساهم في تحقيق الاستقرار والسلام المستدامَين.
ورغم الصعوبات المستمرة في إتمام التسوية السياسية، فإن التغيرات التي شهدتها سوريا تؤكد على ضرورة العمل المشترك بين مختلف الأطراف، وتدعو إلى تكثيف الجهود من أجل التوصل إلى حل شامل يضمن استقرار البلاد، ويحقق العدالة الاجتماعية والتنموية لجميع السوريين.